«الكلام عن أنّ النظام الشعبي تمثيلي كاذب من ألِفِه إلى يائه»
عن قراءته لفوز الشعبوية في أميركا وسقوطها في النمسا وهولندا يقول شرارة في حديثه إلى «المستقبل»:
«الشعبوية لم تبدأ الآن، ولها سوابق في الثلاثينات في الولايات المتحدة الأميركية، كما لها سوابق في جنوب أميركا وفي أميركا اللاتينية، وأحد أعلام الشعبوية هو الديكتاتور الأرجنتيني خوان بيرون، الذي حكم لفترة من السنوات. في تصوّري العودة إلى الشعبوية حالياً تتغذّى على الأرجح من العوامل الداخلية وهو القسم الأكثر جدّية، وهو القسم الذي يتعارض مع العولمة، بمعنى فتح الأسواق على بعضها، أعني الأسواق المالية وتعاظم التبادل التجاري بشكل كبير جداً، وإدخال البلدان الجديدة في عملية التصنيع، إلى شبكة الاتصالات وشبكة العملات.. ربما ينبغي التشديد في هذا السياق على عنصر عادة ما يُهمَل، وهو أن العولمة لا تقتصر أبداً على الجانب الاقتصادي والمالي أو حتى الاقتصادي أو الاتصالي أو الخدماتي. وإنما هي عنصر جوهري في العوامل، وهو تصدير شكل دولي للأمة الوطنية إلى العالم.
ربما هذا التصدير لهذا الشكل السياسي الاجتماعي والايديولوجي كشكل كامل، هو العامل الأساس في العولمة وفي انتشارها. وإذا كان النموذج الاقتصادي في وجه أساسي من وجوهه لا يثير نوعاً من عصبية محلية ولا يتطلب عملية ضبط للحركة الاقتصادية وكظاهرة تُترك على عواهنها، وتحرّر المبادلات والخدمات وتحرّر انتقال الصناعات إلى مراكز أخرى. لكن الوجه الاقتصادي يغذّي وجوهاً سياسية أساسية تُرى بشكل أساسي اليوم في الصين، وفيها التمثيل الأكبر الذي يغذّي نزعة إلى حماية الموقع الاقتصادي بأدوات سياسية وعسكرية. اليابان كانت سبّاقة بعد ثلاثة عقود أو أربعة منذ السبعينات، فاضطرت للدخول في موازين قوى عسكرية وإقليمية جديدة رتّبت عليها عودة ولو جزئية إلى العسكرة. حماية المكاسب الاقتصادية بواسطة الأجهزة الإدارية وبواسطة هياكل اجتماعية (الصين كنموذج أيضاً)، لناحية الضمان الاجتماعي والشيخوخة وحماية اليد العاملة.
هذه الأبنية تطرح مسألة الدولة المركزية إدارياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً في الوقت نفسه. هذا الوضع يُدخل هذه الكيانات التي كانت ما بين كيانات جزئية مثل ماليزيا مثالاً، في شبكة سياسية وعسكرية، إلى جانب الشبكة الاقتصادية كمحور لانطلاقتها. معيار النزاع فيها، المكانة التي تحتلها أو تتمتّع بها الدولة الأمّة. لهذا السبب بناء ركيزة داخلية للدولة الأمّة في مجتمعات لم تعرف إلاّ معرفة ضئيلة قواعد العلاقات السياسية القائمة على هويات جزئية أو هويات محلية أو قائمة على نزاعات سياسية. بناء ركيزة للدولة في تلك المجتمعات يطرح مشكلة الهيمنة. وكلمة الهيمنة مختلفة عن كلمة السيطرة بأبنية عسكرية وسياسية وإدارية وعصبيّات. في حين من المستحيل بناء هيمنة سياسية ايديولوجية وثقافية إلاّ على عنصر طوعي ومماشاة الفئات الجزئية لمَن يتربّع على رأس الدولة. لهذا السبب بدأت يقظة النزاعات الفئوية والعصبيات وطلبها المشاركة ببناء السياسات العامة، وفي توزيع الدخل والمنافسة على هذه المسائل بشكل مختلف وبشكل جديد».
الهويات الطائفية.. والتحديات
هل هذا يُفسر صعود نجم الهويات الطائفية والمذهبية والاثنية باعتبار ذلك ردّاً على العولمة أو شيئاً آخر؟
– «هو ردّ على سلسلة من التحديات يمكن ربطها أو تشبيكها بأشكال أخرى. الموضوع المحوري هو موضوع معقّد، وكمثال ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية. فقد رأى عدد من المراقبين والمؤرّخين والمتابعين والمناضلين والنشطاء في توسع ظاهرة ترامب إحدى نتائج تشرذم المجتمعات الأميركية، وبنيانها على التشرذمات أو «الشراذم» ومن الحقوق التي من المستحيل جمعها بطريقة سياسية متماسكة: حقوق المثليين مثلاً، حقوق الجماعات الاثنية والقومية المتزايدة، حقوق الجماعات «المُعالَة»، التي تعيش على تقديمات الدولة وغيرها، حقوق الأديان والكنائس وجماعات داخل الكنائس مثل الحركات الإنجيلية التي عرفت حركة إحياء جديدة ومختلفة، إلى حقوق الناس في الأرياف والمدن الصغيرة وأضعف الخدمات لا تصلهم. من هنا كان الكلام الأميركي الكثير عن تعبيد الطرق وتصليح السنترلات الهاتفية في الأماكن البعيدة والتجهيز الصحّي الهزيل، وتردّي التعليم في مستوياته. هنا الفروق تجمع، وهناك الفرق بين المدن الكبيرة التي تملك موارد وافرة للتعامل مع العولمة، فيما الأرياف والمدن الصغيرة تفتقر إلى تلك الموارد. هذا ما يسمّى الإطار الذي يطلق عليه بعض الجغرافيين الفرنسيين «البلد الطرفي» أو «بلد الأطراف»، أو ما يسمّى عندنا بـ«حزام الفقر». هذا شيء معروف اليوم على مستوى عالمي وبشكل خاص في الولايات المتحدة الأميركية أو في الضواحي الباريسية، وهذه الأخيرة معقولة بالنسبة للضواحي في مارسيليا وبوردو وليل.
كان صعباً على مرشّحة اليسار الليبرالي السيدة هيلاري كلينتون أن تجمع هذه الكوكبة الكبيرة من «الشراذم» أو «النثرات»، في بنيان سياسي وفي برنامج سياسي متماسك ومفهوم، وأركز على كلمة مفهوم. هذا شيء جوهري. هناك وجه نعرفه تماماً من الشعبوية في الدعاية عند «حزب الله»، كذلك الشعبوية نعرفها في دعايات الأنظمة العربية ولا سيما الدعاية التي يستخدمها النظام السوري، وتستعمل في مكان آخر مثل إيران، والسمة الأساسية لتلك الشعبوية هي اختصار وتبسيط المسائل والمطالب والمشاكل وجمعها في نقطة بشكل يسمح لكل الأطراف أن يضعوا فيها كل شيء، مثل «الإسلام هو الحلّ». صحيح «حزب الله» لم يصنع هذا الشعار، إنما «حزب الله» يقول: «المقاومة هي الحل»، أو يُقال: «كل جهات الجنوب»، أو ما قيل على الطريق نحو فلسطين: «هويتي بندقيتي» أو ما قالته «القوّات اللبنانية» في وقت سابق: عرب برا، سوريا برا».
ويستطرد شرارة: «هذه النزعة الشعبوية جوهرية بإيهام الجمهور مثل الشعار في أوروبا «الإسلام برا»، إيهام الجمهور بأنه يمكن اختصار المشاكل أو الحلول بجملة بسيطة تتطلّب من الناس أن يغضبوا أو يموتوا أو يقترعوا لطرف من الأطراف. هذه والأسباب بفروع وروافد لا تُحصى تلتقي عند سمة: «محاولة بناء قيادة لمتفرقات برنامجية واجتماعية وتاريخية» وإيهام الناس بإمكان قيام قاسم مشترك وبناء مشترك للمتفرقات بشعار واحد.
في لبنان اليوم الكلام عن الاقتراع النسبي، أو النظام الانتخابي النسبي وأنه يحلّ كل المشاكل، وبالنسبة لأصحابه يزعمون أنه يحلّ مشكلة تراجع عدد المسيحيين ويحلّ مشكلة التعاون بين المناطق والقضايا العربية والحروب الأهلية… كلها قضايا تحلّ بنظام الانتخاب النسبي في لبنان، وهي محاولة بناء قيادة لدولة في إطار الدولة التي في داخله في منافسات عدّة. هذه مزاعم واهية».
القواعد.. والكوابح
هل يمكن القول إن ظاهرة ترامب الايديولوجية الشعبوية سقطت باللكمات التي تلقتها إلى الآن؟
– «في الأنظمة الديموقراطية الغربية الليبرالية الأوروبية وفي غرب ووسط أوروبا (وضع شرق أوروبا مختلف كثيراً)، هناك كوابح داخلية في صلب عمل المؤسسات، وفي صلب الجمهور، والذي يجب عدم إغفاله أن المجتمعات الغربية الأوروبية لديها سمة أساسية بارزة هي إقرارها بانقساماتها وقبولها بهذا الانقسام قبولاً عميقاً. حتى بالنسبة الى شخص متفلّت من عدد كبير من القواعد والكوابح مثل الرئيس ترامب بكلامه وسلوكه ومقارباته وحسمه المشاكل، من دون أن يعرضها وبصلاحياته الواسعة الرئاسية، يوجد انقسام مؤسساتي حوله، وهناك استقلال تام للسلطة القضائية واستقلال للحكومات في الولايات، ولكل منها عمدة وقضاء ومجلس شيوخ ومجلس محلي، وهناك انقسام بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، بالإضافة إلى انقسام السلطات، وهو عبارة عن فصل السلطات كأساس في النظام الديموقراطي، إلى انقسام الجمهور والناخبين، ولا ننسى أن هناك محاسبة لأي طرف يقصّر في القيام بمهامه ولا يتولّى عملية تغيير السلطات التنفيذية حتى ولو كان رئيس الجمهورية، وهناك مقاومة وتظاهرات النساء أمام البيت الأبيض وهناك المعتصمون في المدن الكبيرة، وهناك المحامون الذين ذهبوا إلى المطارات ليقولوا للمسافرين إن بإمكانكم تقديم عرائض احتجاج والتماس قانوني، وهناك الإعلام الذي نقل الصور مباشرة من المطارات وجعل القضاء السريع يتحرك.
هذا الذي يجعل الشعبوية على الرغم من أخطارها الكبيرة مادة يمكن إعادة لجمها وضبطها، في مجتمعات تفهم الشعب على أنه المركب الآخر من جماعات جزئية، لا يمكن إقصاؤها، أي الجزئيات من الشعب، ولا يمكن إخراجها من جماعات الشعب العامة، ولا يمكن وصفها بالإرهابيين كما يفعل النظام السوري أو بالتواطؤ مع إسرائيل كما يصفها «حزب الله»، أو من أنصار الطاغوت الصفة التي يرفعها الإسرائيليون بوجه مَن لا يتماهى مع مصالحهم واحتلالهم. الإقرار أن الشعب ليس جماعة واحدة وإن أجمعت على الولاء للدولة أو الدستور أمر غاية في الأهمية. المواطن الأميركي الجديد يُقسم على وطنية هي وطنية دستورية وليس على وطنية عصبية أو مرتبطة بالحاكم. هنا نلاحظ دور الإعلام أو السلطة الرابعة وهي حقيقة وليست بسلطة يمكن مقارنتها بالسلطة التنفيذية أو التشريعية ولا تملك الصحافة إلاّ أصداءها والرأي العام.. هي شيء لا ينصّ عليه قانون أو قاعدة، والإعلام سلطة غير مُنتخبة وهي قائمة على فهم السياسة والفهم الديموقراطي وعلى فهم مصطلح الشعب على أنه مرجع الحياة السياسية والضغط والمخاطبة والشرح…».
الحراك العربي النهوضي
في ظل الانقسام الغربي حول المسلمين واللاجئين، أين هم العرب وكيف يمكن لهم أن يستأنفوا حراكهم النهضوي والحضاري؟
– «برأيي، العالم المعاصر فرصة متاحة وغنية جداً للعرب، المجتمعات الغربية والديموقراطية الليبرالية المعاصرة التي صنعت العولمة أو كانت بؤرتها الأولى على ضفّتي الأطلسي، وبشكل خاص الضفّة الشمالية الأميركية، هي الوجهة التي استدعت من مجتمعات العالم عامة ومنها المجتمعات العربية أو المسلمة هجرات إلى بلدانها لأسباب بدأت بأوضاع اقتصادية وتطورت الى أوضاع سياسية. الفلسطينيون كانوا من أول المجتمعات التي أكملت شتاتها في العالم في الولايات المتحدة الأميركية وفي مناطق مختلفة في العالم. هذه المجتمعات بدأت تجتذب بعد العام 1973 والعام 1975 وتوطن جاليات أوسع، وكان للعرب والمسلمين جزء كبير فيها. وما أنجزته العملية في المرتبة الأولى فتح المجتمعات والجماعات على بعضها حسب الجماعات وتاريخها، منها إشراك 3 ملايين تركي في ألمانيا لمرحلة طويلة ومستمرة جزئياً، والمغاربة والأفارقة السود الذين أتوا إلى فرنسا بالدرجة الأولى أصبحوا حوالى 6 ملايين نسمة أي ما نسبته 10 بالمئة من السكان الأصليين، وما زالت الهجرات مستمرة. ولكن هذه الجماعات انعزلت بنواحٍ وضواحٍ. هذا الشيء ارتبط بمسألة أساسية هي انتقال الاقتصادات من مرحلتها الصناعية إلى مرحلة ما بعد الصناعية. في المرحلة الأولى كان يمكن للعمل أن يستقبل الكثير من أبناء الجاليات، ولا يطلب منها تغييراً بأوضاعها المعيشية أو الدراسية إلخ.. منذ ذاك وبعد السبعينات ومع الثورة الالكترونية والثورة الصناعية الثالثة الوضع ما عاد ممكناً لجهة شبك الجماعات المتفاوتة في مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والمختلفة بشكل خاص بمواردها التعليمية الدارسية والتقنية، فمن غير الممكن شبكها بمجالات تعاون. ما نشأ هو ظهور أطراف قوية وأطراف ضعيفة وهذا الأمر أكثر ما ينطبق على المهاجرين وينطبق أيضاً على الأهليين والأصليين والوطنيين. لهذا السبب يُلاحظ أن عملية التشبيك وفتح المجتمعات على بعضها بواسطة وسائل الإعلام والمواصلات السريعة وشبكات التواصل الاجتماعي وكل تطبيقات هاتف الأيفون والمرأة الاريترية في فرنسا ولديها أخ في فنلندا تحادثه لساعتين على الـ«واتس اب»..، أقصد برزت مظاهر القوة والضعف ومراتب لتلك القوة ومراتب لجماعات، وتغليب الجماعات الأهلية الوطنية وما يؤدي إلى مرحلة من الاحتدام والنزاعات بين الجماعات. هذا ينطبق على الجماعات الجزئية وعلى الجماعات الديموقراطية الليبرالية التي واجهت مهمّة سياسية جديدة في البحث عن القواسم المشتركة والإدارة المشتركة للحياة العامة في ظروف لم تعرفها سابقاً هذه المجتمعات. ترافق ذلك مع أزمة اللاجئين والمهاجرين وصعود نبرات الشعبوية وتعدّد السياقات الجزئية في قلب السياق العام».
يضيف شرارة: «حظ العرب أن هجرتهم قديمة من الأربعينات سواء الفلسطينيين أو اللبنانيين أو السوريين والمصريين والمغاربة إلى أوروبا وأنحاء العالم والأميركيتين، وهذا القدم أتاح للعرب والمسلمين بلورة عدد من النخب الواسعة وشكّل عنصراً مهماً في المعادلات التي أحاول أن أرسمها، وفي الولايات المتحدة آلاف من الأساتذة الجامعيين الفلسطينيين، وفي فرنسا عشرات الآلاف من النخب التي اندمجت من أساتذة وأطباء وعلماء ومحامين ومن أصحاب المهن الحرّة والمتمولين. شخص مثل أحمد زويل ثمرة من ثمرات هذا الشيء من ثمرات «الأعشاش الاحتماعية» التي استقبلت الكثير من المثقفين والمفكرين والصحافيين وشجّعهم الجمهور والعامة وبعضهم من طبقات شعبية كادحة وإلى الآن هناك جماعات هامشية مهاجرة. هذا الوضع مهم، فرصة لفتح الجماعات على بعضها، وعلى تواصلها في نوع من التضامن بإطار من الجماعة الواحدة. الجماعات ذات الأصول والمناشئ الواحدة كانت تجتمع في بلدان منشئها على نحو جزئي في تفاعل داخلي لم تنشئه مجتمعات المناشئ والأصول. أظن ما يرى اليوم من أوضاع السوريين المهاجرين إلى الخارج وحتى في المنطقة في الشرق الأوسط يشكل جماعات تضامن، جماعات مساندة وتعاون على الصعد كافة. هذا طور في بلورة أجسام وروابط اجتماعية وسياسية وثقافية وللسخرية المرّة، هذه الصور من التعاون لم يُنتجها الوطن الأصلي، لم تنتجها الإقامة في الوطن. السوريون كانوا 24 مليوناً على الأراضي السورية وكانوا مقسومين ومتفرقين ومتناحرين ومتنافسين وبصورة تلاقيهم في الكثير من حركتهم حتى في ظلّ حربهم المأسوية، والهجرة وفرّت لهم الوقت الكافي ليبنوا أجساماً أو هياكل سياسية واجتماعية للقائهم. هذا الشيء نتيجة المهاجر وبشكل خاص المهاجر في الدول الديموقراطية الليبرالية.
العرب في هذا السياق لديهم موارد وعندهم نخب قديمة وجمهور كبير وظروف، ويملكون فرصة للتعاون والتكاتف والتفاعل وأزعم أنه يمكن التعويل على ذلك وعلى إخراج العرب والمسلمين من داخل الجدران التي بنتها الأنظمة والثقافة المحلية، وبناها بشكل خاص المنطق السياسي الغالب على الأنظمة، وهو منطق عزل وتفتيت وتنابذ».
البيئة الشيعية
بعد 6 سنوات على انخراط «حزب الله» في الحرب في سوريا، ماذا عن هذه الإشكالية وكيف سيعود «حزب الله» إلى لبنان، وماذا عن مزاج البيئة الشيعية اليوم؟
– هناك سياقات أطول وأقدم بكثير، و6 سنوات أكملت وعمقت ذلك المسار الذي كان ما قبل «حزب الله»، وللاختصار بدأ هذا المسار مع السيد موسى الصدر وللتذكر كان ذلك بين عامي 1959 و1966 وتوّج هذا المسار في العام 1968 بالترخيص للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
لماذا أعود إلى موسى الصدر، لأنه مع تأسيس حركة المحرومين بدأت المساعي الحقيقية لصبّ الشيعة «اللبنانيين» بإطار مذهبي/ طائفي، ليس من تطلعات جزء من الشيعة وهم ربما الجزء الأضعف في الطائفة الشيعية! بهذا المعنى يجوز القول إن الصدر استعمل «عوّام» الشيعة للسيطرة على الجماعات الثانية. ليس فقط الجماعات التي تنتسب إلى المناصب من قبل الطائفة الشيعية بل عبر إمحاء سياسي لزعماء وعائلات وزعماء محليين وأثرياء، وإنما أيضاً السيطرة على الجماعات العلمانية من أساتذة ومحامين ومهندسين وطبقة وسطى، والفئات التي تنازعتها أحزاب شيوعية واشتراكية وقومية تقريباً علمانية. سُلّط عامة الشيعة على الشيعة باسم وحدة الطائفة وقاسمها المشترك هو «الحرمان» وإنما الجمع كان على حساب سمة بارزة وقوية في اجتماع أو مجتمع الشيعة أو «اللبنانيين الشيعة» وهو تعدد التيارات والانقسامات والأفكار والمراهنات. جرى إمحاء الفروق على الرغم من أنها كانت ثانوية وغير ذات شأن على مذبح وحدة الجماعة المذهبية.
ربما من سخرية الأوضاع والوقائع، أن جزءاً من هذه الوحدة تبلور في وجه الفلسطينيين وبرفض هيمنتهم على الجنوب واستدراجهم للقوات الإسرائيلية المتربصة لاحتلال جزء من الجنوب أو الدخول كعامل أساسي في الحياة اللبنانية.
هذه الوحدة، مهّدت الطريق لنشأة متأخرة على أنقاض دخول الشيعة في السياسة وعلى أنقاض دخول الشيعة الى حياة سياسية قائمة على التنوم وعلى الاعتراف بالفراغ، هو معروف في الدول الديموقراطية. وبحجة ذلك جمدوا الشيعة في قالب باسم اقتسامهم وتشاركهم في الحرمان، في الأطوار اللاحقة للحياة السياسية والعلاقات السياسية اللبنانية من انفجار حرب أهلية وهي حروب أهلية وليست حرباً واحدة، وهي أهلية وملبننة على صورة القوى الكبيرة التي دخلت ساحة النزاعات اللبنانية مثلما يجري الآن في سوريا.
شخص مثل المبعوث الدولي للأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا يقول «ما عاد الحل على أيدي السوريين»، وبتقديري أن الاختبار الأول لمثل هذا النوع من النزاعات جرى في لبنان ورعاه السوريون، كما رسمته أطراف ثانية. والفلسطينيون غير بريئين من رعاية هذا النوع من النزاعات التي تدخل على المجتمعات وتُخرج منها سيادتها. في الأطوار اللاحقة للنزاعات في لبنان، جرى بلورة هذه الوحدة بما يشبه «مذهب في السياسة» قوامه الزعم أن كل اختلاف، كل نزاع على برنامج سياسي أو نهج سياسي أو قضايا سياسية، كل نزاع محرّم، حرام. والحياة السياسية ينبغي أن تقوم على سيطرة طرف على الأطراف الثانية والحكم على برامج هذه الأطراف ومصالحها. الحكم عليها بالحرمان، بالإسكات واتهامها بالخروج «الخوارج» وبالخيانة والتواطؤ مع العدو الخارجي. برنامج غير واقعي وغير ممكن. لكن الممكن هو تركيب «حزب الله» صورة مشبّهة لهذا البرنامج ودعائية متخيلة/ سينمائية أو تلفزيونية أو الكترونية عن المثال المزعوم أو المدّعى. قوة هذا الزعم وهذا الإيهام مصدرها اختلال موازين القوى بما يسمح لصاحب الدعوى بالقول إن هذا المثال إن لم يعمل فعلاً بحذافيره فهو الأفق المسدود السائرين نحوه. وهذا شيء نجح بمعنى من المعاني.
تدمير الفروق والاختلافات
ثمن ذلك هو ما سبق وظهر في عملية تدمير للفروق والاختلافات والنزاعات والتباين في «الشعب الشيعي» وما كان سبباً أساسياً، وهو ما لاحظه كل المراقبين على حساب الحيوية الشيعية. ما فعله «حزب الله» هو تدمير هذه الحيوية وتسطيح الشيعة اللبنانيين وجر التشوه والفوارق والاختلافات مما أعطى المجتمع الشيعي اللبناني صفة القائم على الانقياد التام، وعلى التجانس المفتعل والكاذب وعلى فقر سياسي وثقافي ليست له حدود.
في هذه العقود الثلاثة وبشكل خاص في العقد الأخير، استطاع «حزب الله» و«أمل» كملحق به، أن ينفذ إلى الخلايا الصغيرة/ النواتية في المجتمع الشيعي! «حزب الله» متواجد في الحسينيات، في المساجد، في محطات البنزين، في الصيدليات، في النقابات والجامعات والمدارس، وفي روابط رجال الأعمال والمهاجرين والمغتربين. ولكن هذا الوجود باستمرار يؤدي إلى خمول المجتمعات والخلايا وافتقارها لحركة ذاتية طوعية، وأكثر من هذا الأمر، «مضطر حزب الله إلى أن يشتري ولاء الشيعة فرداً فرداً» بوسائل بعضها مشروع وبعضها غير مشروع.
من برج البراجنة ومن العام 2006 إلى اليوم هناك 3500 مخالفة بناء على حدود المباني، بناء مرخص ببناء طابقين فيه جرى توسيعه إلى 7 طوابق. أي خدمات تحتية مستحيلة في ظل طغيان البناء غير الشرعي، التعليم إنهار في تلك المناطق. لم يعد للتعليم معناه، لأن الحزبيين يمرون على رقاب الأساتذة والمديرين والطلاب غير المنتسبين للحزب وعلى مكان التلقي والتثقيف وبلورة القهر الاجتماعي. المكان لم يعد مدرسة بل صار الاجتماع الحزبي إن حصل يشتري الولاء بهذه الطريق. اشترى «حزب الله» الولاء لتوزيع إعاشة واسعة جداً، اشتراه بحماية مخالفات البناء ومخالفات الكهرباء وحماية سرقة المياه وحماية البناء غير المرخص.. أما بالنسبة للمقاتلين في سوريا فقد سقط منهم 2000 مقاتل وربما أكثر أو أقل، و«حزب الله» يشتري ولاء أهلهم بوسائل مادية واجتماعية لا تُحصى فعدا المخصصات المالية التي تذهب إلى هؤلاء، هناك شعائر اجتماعية كاملة أشاعها الحزب في أوساط الناس، وما عاد يعرف إذا ما كانوا مناصرين للحزب طوعيين أو مناصرين مجبرين.
الأهم أن السيطرة هذه لها ثمن اجتماعي ومادي وسياسي وهو ثمن الحيوية. دخل «حزب الله» على خلايا الإجماع الشيعي وسيطر عليها، السيطرة التي تسمح له بأن يقول إن النظام الانتخابي النسبي هو النظام الوحيد الذي ينتج عنه ممثل صحيح للجماعات.. وهذا كلام كاذب من ألفه إلى يائه لأنه يتستر على مصالح فئوية كبيرة وعلى مصالح جماعية لها مواردها السياسية والاجتماعية».
تصدير نموذج «حزب الله»
..ودخل على خلايا الجماعات الأخرى؟
– «حزب الله صدّر نموذجه الاجتماعي والسياسي للأطراف الثانية، وهنا الخطر الكبير ومكمن الداء. حض الجماعات الثانية أن يكون لها قوة سياسية وحيثية سياسية، وبأن تنزع إلى نوع من الدمج الثنائي بشكل سيسكت تعدد أصواتها ومصالحها، ولجعل التمثيل السياسي صورة فوتوغرافية للسطح الخارجي للجماعات، بدل أن تكون تمثيلاً سياسياً وصورة عن الحركة داخل الجماعات ومصالحها الحقيقية، وهو ما يبني عليه وحدة قائمة على النزاع المجدي والبنّاء والمفارقة الولود تتناسل بثمرات وطرق حكم وبرامج تنفيذية.
ماذا عن الكلام عن رصد لسلوك عند «حزب الله» ينتقل فيه من الموقف الدعوي إلى الموقف السياسي الواقعي مع الحفاظ على الثوابت وهذا يمهّد من خلاله للعودة إلى القتال في سوريا، وهل لدى الحزب القدرة على هذا الانتقال والانخراط في المؤسسات التي تخضع للقرارات السيادية للدولة اللبنانية؟
– «هذا زعم، يشبه زعم تربيع الدائرة بشكل قوي جداً. الزعم أن حزب الله ممكن أن يحافظ على ثلاثة أضلاع: الموقف أو الدعوى والدولة والثوابت.
هذا المثلث نتائجه ظاهرة للعيان ووضح بعض مظاهرها. وهو إمعان «حزب الله» في إنشاء كيانات لبنانية في ما بينها فروق صارت لا تُحصى. هذه الفروق لا تتعلق فقط بالمواقف السياسية، نذهب إلى سوريا أو نعود من سوريا، نعمل على نظام انتخابي نسبي أو أكثري أو مختلط (هجين) ولا يتعلق الأمر بإصدار الموازنة بقانون بالمجلس النيابي أو تقطيع الدوائر الانتخابية، وإنما هذه الفروق صارت تتعلق بتراث وتقاليد الكيانات وانقسام تواريخها بصورة لا يمكن أن تلتقي معها.
الإحياء الشيعي
اعتبار شيعة الشرق الأوسط كيان سياسي وخارجي متصل، اعتبار معايير الكيان مستمدة من تاريخ الانقسام الإسلامي على الأقل منذ العهد الأموي أو العباسي. افتراض أن هذا الكيان الشيعي قائم بذاته ومعاييره لا تمت إلى العالم إلا بصلة العداء والحرب وإلا بصلة الثأر من اليزيديين. هذه الهوة، من المستحيل ردمها، لأن من المستحيل إقناع الجماعات اللبنانية المتفرقة بأن ما يحلّ لشيعة لبنان في ظل قيادة «حزب الله» لا يجوز للجماعات الثانية مثله أو نظيره ولا يحل لها هذا المثل وهذا النظير.
افتراض أن الموارنة يعودون إلى مار مارون وإلى وادي النصارى وإلى النزاعات بين الفرق المسيحية اللاهوتية وإلى شهداء النزاعات وإلى قيادة الكنيسة. اعني أن ثمة مَن يدعو الموارنة إلى التمثل «بالإحياء الشيعي». إذاً، الإحياء وفق «حزب الله» يعني أن اعزل نفسك واستقل بولايتك، وهذا يتفق تماماً مع النظام الامبراطوري/ السلطاني الكسروي الذي ينصب شعباً فوق ويرتب الجماعات والشعوب الأخرى تحت. وهذا أمر ينص عليه الدستور الإيراني الخميني نصاً صريحاً.
يُعتبر الفقه الجعفري وحده فوق الدولة، ومدارس الآخرين ليس لها حق أن تتحاور مع الفقه الغالب.
إذا كان هذا قطب الرحى في البناء السياسي الامبراطوري أو السلطاني، فإن تعميمه على الجماعات الثانية هو مدعاة لالتحاق الولايات الثانية بسلطانها ومراكز سلطتها».
ويختم شرارة: «الزعم أن طرفاً يقول في الوقت نفسه إن تاريخي الخاص لا يشاركني فيه أحد ولا أشارك أحداً فيه، وهو تاريخ الجماعة، وفي الوقت نفسه يقول إنه مع هذا الكيان اللبناني وعلى ضفة هذا الكيان يمكن بناء جماعة سياسية وطنية واحدة.
هذان رأيان لا يجتمعان إطلاقاً».