إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
ــ I ــ
ينطلق مشروع الإحياء الإسلامي، ويتمحور حول فكرة رئيسية هي “الإنسان المستخلف”. فقد شاءت إرادة الله أن يجعل الإنسان خليفة لـه على الأرض، وفي دين كالإسلام صارم في التوحيد فإن هذا يكون أعظم تكريم يمكن الوصول إليه، كما يلحظ أن الله أمر الملائكة أن تسجد لآدم، في حين أن لا سجود في الإسلام إلا لله.
لهذا خلق الله الإنسان، كما خلق الأرض، بصورة مميزة ليكونا مجلي الله ومشيئته في الكون، فخلق آدم من طين إشارة لارتباطه بالأرض، ثم نفخ فيه من روحه فوهبه الضمير والوعي والإرادة ثم علمه الأسماء كلها، وهو تعبير عن تملك الإنسان لمفاتيح المعرفة، كما خلق الأرض كوكبًا مميزًا بين ملايين الكواكب فجعل مناخها محتملاً، وشق فيها البحار والأنهار، وبسط السهول والجبال، واختزن في جوفها المعادن، وأوجد على سطحها الحيوان والغابات والنبات، ليكفل للإنسان حاجته من المأكل والمسكن والملبس.
وأنزل الإسلام ليهــدي هذا الإنسان المستخلف، فالإسـلام ــ كائناً ما كان ــ وسيلة، أما الغاية فهو الإنسان.
ــ II ــ
فهم الرسول جيدًا هذا فأقام على الأرض، في المدينة، مجتمعًا يحقق للإنسان العزة والكرامة وأرسى القيم التي تؤدي إلى هذا وكان أبرزها المساواة، فكل المسلمين عدول يسعى بذمتهم أدناهم وهم كأسنان المشط، ولا يعلو أي واحد على القانون، فالرسول نفسه قبل القصاص منه، والرجال والنساء، والفقراء والأغنياء سواء في الحقوق والواجبات، كما وضع نظامًا يكفل الأمن والأمان للجميع ويبعد الخوف، فلم يكن في المدينة بوليس ولا سجون، كما كفل الأمن الغذائي وما تتطلبه المعيشة بسن الزكاة والتكافل الاقتصادي فحقق إسلام الإنسان.
نعم أننا لا نجد في هذا المجتمع إشارات إلى حقوق الإنسان لسبب بسيط هو أن النظام بأسره قام أصلاً للإنسان، فذكر حقوق الإنسان فضول وعلى كل حال فإن لكل عصر لغته واصطلاحاته وما يركز عليه من قيم أو شعارات. المهم أن مضمون الحكم للإنسان كخليفة وتنظيم المجتمع الذي يحقق ذلك بتقرير المساواة والأمن والكفاية كان محققاً بالفعل.
ــ III ــ
لم يستمر مجتمع المدينة وإسلام الإنسان سوى ربع قرن تقريبًا، عشرة أعوام حكم الرسول، وعندما طعن عمر بن الخطاب، طعن هذا المجتمع، وبدأت الفتن والقلاقل مع انحراف عثمان عن سُنة الشيخين، واحتدام الخلاف فقتل عثمان وهو يقرأ القرآن وتدفع عنه زوجته حتى بترت السيوف أناملها، وقامت حرب عنيفة حول هودج السيدة عائشة ما بين الذين يوجهون سهامهم إليه والذين يدافعون عنه، ثم أخذ نصف المسلمين يحارب النصف الآخر في صفين، وقتل علي بن أبي طالب الذي أراد إعادة مجتمع المدينة، وختمت الحقبة سنة 40 هـ بتحويل معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلى ملك عضوض لا يختلف عن أي ملك كسروي أو قيصري فهو وراثي سلطوي مستبد، ومن هذا التاريخ، واستمر هذا الحكم السلطوي الفاسد حتى أنهى مصطفى كمال الخلافة سنة 1924.
ــ IV ــ
يعود هذا الانتكاس إلى أسباب عديدة، منها فساد نظام الحكم الذي أشرنا إليه آنفاً، وأن الانتصار السريع للإسلام على ممالك طبقية شائخة أدخل في المجتمع الإسلامي الملايين من أفراد هذه الممالك، ودخلوا في الإسلام لبساطته وسماحته، ولأن هذا الدخول يفتح الطريق أمامهم إلى المراكز، واستطاعوا بحكم ذكائهم أن يتولوا التفسير والحديث والفقه واللغة.. الخ ولكنهم وقد كانوا حديثي العهد بالإسلام طرحوا مفاهيم وراثاتهم الحضارية على الإسلام، فبعدوا به عن روحه الأصيل، الحر، البسيط، وكان المجتمع الإسلامي يموج بملل ونحل ومذاهب عديدة، وأضيف إليها آثار ترجمة الفلسفة اليونانية التي تأثر بها الفقه الإسلامي في مراحله الوسطى (الحكم العباسي).
ولم يخل الأمر من كيد دفين للإسلام.
ــ V ــ
مع توالي القرون تبلور “إسلام السلطان” في الفكر السلفي الذي سيطر على منظومة المعرفة الإسلامية، وأصبح هو المقرر أو كما يقولون “إسلام السُنة والجماعة” واكتسب أئمته وقادته قداسة، وظل الأمر كذلك حتى مشارف العصر عندما بدأت اليقظة الإسلامية.
ــ VI ــ
لم تستطع اليقظة الإسلامية التي بدأت مع جمال الأفغاني ومن عاصره وزامله أن تقضي على الفكر السلفي، لأن قوة جديدة كانت قد فرضت نفسها على العالم الإسلامي هي الاستعمار الأوروبي ومحاولته طمس الإسلام والعربية في عديد من الأقطار فتركزت الجهود للقضاء عليه، وأصبح ذلك هو الشغل الشاغل، وشغلوا به عن قضية تجديد التنظير الإسلامي فانفسح المجال للمؤسسات الدينية التي أخذت في الظهور واحتكرت تمثيل الإسلام، كما أن الانتلجنسيا في الدول الإسلامية لم تسهم بدور في هذا المجال لأن بعضهم آمن بنظريات مجافية للإسلام كالاشتراكية والقومية ولم يكن لدي معظمها الإحكام الفني للموضوع، ولأن الحكومات وكلت إليهم المناصب خاصة في الإعلام فاصبحوا يسبحون بحمدها.
وهكذا كان على دعوة الإحياء أن تقوم بمهمة التجديد الإسلامي الجذري وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية، وكانت دعوة الإحيــاء مهيئة لذلك، ففي سنة 1946 أصدر داعيتها جمال البنا كتاب “ديمقراطية جديدة” وخصص فيه فصلاً عن “فهم جديد للدين” وجه فيه الحديث للإخوان المسلمين الذين كانوا قد وصلوا إلى الأوج “لا تؤمنوا بالإيمان ولكن آمنوا بالإنسان”، وظلت فكرة “إسلام الإنسان” طوال خمسين عامًا تختمر وتتطور ولم يعلن عنها إلا سنة 2000، لمناسبة صدور الجزء الثالث من كتاب “نحو فقه جديد”.
وكانت الخطوة الأولى هي إبراز المبدأ المحوري مبدأ “الإنسان المستخلف”، والبرهنة عليها بدلائل من القرآن الكريم، وأن الرسول طبقها بالفعل في الفترة القصيرة التي حكم فيها وخلفه أبو بكر وعمر بحيث كان مجتمع المدينة مجتمعًا إنسانيًا بمعنى الكلمة تسوده المساواة ويكفل للفرد الأمن والأمان.
ووضحت دعوة الإحياء كيف أن هذا المجتمع انتهى تمامًا سنة 40 هجرية عندما حول معاوية بن بي ســـفيان الخلافة إلى ملك عضوض، وأن ما أطلق عليها الخلافة التي استمرت حتى ألغاها مصطفى كمال في تركيـــا، لم تكن خلافة، ولكن حكمًا سلطويًا وراثيًا مستبدًا للأسباب التي أشرنا إليها آنفاً.
تريد دعوة الإحياء العودة مرة أخرى إلى إسلام الإنسان وترى أن روح العصر الحديث تساعد على ذلك، وهي ترى ضرورة إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية على أسس “إسلام الإنسان وليس إنسان السلطان”، ووضعت مجموعة من الكتب تفتح الطريق لذلك وتشرح أسس التأسيس الجديد والمبادئ التي يقوم عليها.
وتضمنت المراجع التي وضعتها الدعــوة أكثر من ثلاثين كتابًا كبيرًا تعالج كل جوانب القضية الإسلامية ( السياسة، المـرأة، حرية الفكر والعقيـدة، الدعوات الإسلامية المعاصرة، الفقه، التفسير، الحديث).. الخ.
ـ VII ـ
المبادئ العملية التي تمخض عنها المشروع، وكلها من صميم ما جاء في القرآن وهي :
(1) الإنسان المستخلف هو الغاية التي جاء لها الإسلام، فالإنسان هو الغاية، والإسلام هو الوسيلة.
(2) المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس جميعًا، وبلا استثناء هي أساس مجتمع الإنسان المستخلف.
(3) العقل، وما ينشأ عنه من علم ومعرفة هو ما يميز الإنسان وما جعل الله تعالى الملائكة تسجد له، ولهذا فإن العقل أساس النظر الديني، ولا شيء يستعصي عليه سوى ذات الله وطبيعته والعالم الآخر.
ويستتبع هذا إشاعة العلم والمعرفة في المجتمع.
(4) العودة إلى القرآن الكريم واعتباره كتاب هداية واستبعاد كل التفاسير وكل ما جاء به المفسرون من نسخ أو أسباب نزول، إن الصياغة القرآنية فيها قوة الهداية والقرآن يؤتي أثره بالانطباع.
(5) السُـنة يجب أن تضبط بضوابط القرآن، وليس لها تأبيد القرآن.
(6) اعتبار “الحكمة” أصلاً من أصول الإسلام.
(7) اعتبار الزكاة فريضة مقدسة كالصلاة وتنظيمها بحيث تؤدي دور “الضمان الاجتماعي والتأمين”.
(8) كل ما جاءت به الشريعة من أحكام عن الدنيويات، وسواء كانت في القرآن أو السنة إنما أنزلت لعلة هي بصفة عامة العدل والمصلحة، فإذا حدث أن جعل التطور الحكم لا يحقق العلة (أي العدل والمصلحة) عدلنا في الحكم بما يحقق الغاية، وهو ما اهتدى إليه عمر بن الخطاب في اجتهاداته المعروفة.
(9) مجاوزة السلفية وعدم الاعتداد بها، فالسلفية هي الماضوية ولا نستطيع أن نعيش حاضرنا في ماضينا.
(10) استبعاد فكرة أن الإسلام يسيطر على كل شيء، أن الإسلام على أهميته القصوى ليس إلا بُعدًا واحدًا من أبعاد متعددة للحقيقة كالعلوم والفنون والآداب والفلسفة التي تنطلق كل من منطلقها الخاص، وتقدم عطاءها الذي وإن اختلف عن عطاء الدين، فإنه لا يزاحمه، كما لا يستبعده الدين.
(11) حرية الفكر والاعتقاد مطلقة والعلاقة ما بين الأديان هي علاقة تعايش.
(12) تحرير المرأة من الدونية التي جاءت بها بضعة أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وتقرير مساواتها بالرجل.
نُشِر هذا المقال في “لشفاف” في Feb 25, 2007. كان جمال البنّا الشقيق الأصغر لحسن البنّا، وأحد مؤسّسي “الشفاف.