من بين الواقفين أمام باب المحكمة الدستورية في القاهرة، التي حاصرها إسلاميون، نرى شخصاً يحمل مكبراً للصوت يهتف بالعامية المصرية، وأصحابه يرددون الهتاف: “صوِّتي يا تهاني، الشرع راجع تاني”.
التصويت، هنا، يعني الصراخ تعبيراً عن الفزع، أما المعنية بالأمر فهي تهاني الجبالي، عضو المحكمة الدستورية العليا، التي اعترض الإسلاميون على تعيينها كأوّل قاضية مصرية في المحكمة الدستورية قبل تسع سنوات. بمعنى أن المشكلة معها ليست وليدة اليوم.
لن يفشل أحد في العثور على قدر صريح من التشفي في الكلام المسجوع الذي، وإن كان موجهاً إلى سيّدة بعينها، يمكن تعميمه على بقية النساء. والمقصود، هنا، أن قضايا السفور، وتولي المناصب العامة، بما فيها القضاء، والمساواة، والاختلاط، ليست مضمونة تماماً في قادم الأيام.
وإذا وضعنا السلفيين جانباً، فإن أحداً من الناطقين باسم الأخوان المسلمين في مصر، لن يتكلّم بهذا القدر من الصراحة والوضوح. ربما نسمع كلاماً عن التدرّج، والتوعية، وعن ضرورة الالتزام بالتقاليد، واحترام الآداب العامة..الخ.
والمهم، في الواقع، ليس ما يقوله هؤلاء، بل كيف تتجلى دعوتهم في أذهان أنصارهم والمتعاطفين معهم. وهي لا تتجلى، على الأرجح، بطريقة تختلف كثيراً، وإن اختلفت الصياغات، عن الكلام المسجوع الذي أطلقه الشخص المذكور على باب المحكمة الدستورية، وردده جمهور من المؤيدين.
نسترجع، هنا، ملاحظة سوسيولوجية، تتجلى في حقيقة أن نسبة رافضي مشروع الدستور كانت أعلى في المناطق الحضرية منها في المناطق الريفية، والمُريّفة. وربما من المبرر التفكير في احتمال أن تكون نسبة الرافضات في المناطق الحضرية أعلى من نسبة الرافضين الذكور. في هذه الملاحظة السوسيولوجية ما يحيل إلى توتر دائم بين المراكز الحضرية والمناطق الريفية والمُريّفة، وحتى بين المدينة والمخيّم.
مثلاً، في بحث أجراه، قبل سنوات، باحثون وباحثات في جامعة بيرزيت، في الضفة الغربية، حول العلاقة بين مدينة رام الله، والمخيمات القرية منها، تبيّن أن مشاعر الارتياب التي يبديها أبناء المخيمات تجاه “المدينة”، تصدر في جانب كبير منها عن إحساس بالخوف من الاختلاط، والتحلل الأخلاقي في المدينة. وإذا كانت هذه مشكلة رام الله، وهي ليست مدينة بالمعنى الكامل للكلمة، فما أدراك كيف يكون الأمر بالنسبة لمدينة كالقاهرة.
على أية حال، يمكن التفكير في ملاحظة كهذه بطرق مختلفة، من بينها حقيقة أن المرافعات الأغنى والأقوى في جعبة الإسلام السياسي تتركز في حقل الأخلاق العامة، وآداب السلوك. وكلها تعبيرات مختلفة لمراقبة وضبط وتقنين الإيروس (معنى الإيروس حتى بالتعبير الفرويدي التقليدي يتجاوز فكرة الجنس، ويتصل بكل ما له علاقة بالحياة والحب والتقدّم والإنجاز). الثورة، في الجوهر، فعل أيروسي. ويحضرني إذ أكتب هذه الكلمات مشهد تشي غيفارا (أحد أعظم الثوريين في كل العصور) في الفيلم الشهير لستيفن سودربرغ، عندما يرد على سؤال: ما هي أهم صفات الثوري؟ يقول: الحب.
وعلى أية حال، أيضاً، إذا شئنا الكلام عن مشروع الدستور المُقترح على المصريين (وهناك الكثير من المداخل المحتملة) فلنقل: يمكن تحليله استناداً إلى آليات مراقبة وضبط وتقنين الإيروس، الصريحة أو المُضمرة، التي أرساها المُشرّع في مجال الحريّات الفردية والعامة.
وإذا كنّا لا نجد صعوبة، عند الوصول إلى هذا الحد، في اكتشاف المعنى العميق، الحقيقي والمعقّد لتعبير الثورة المضادة. فمن الممكن، أيضاً، وفي السياق نفسه، مقاربة معنى الثورة، مطلق ثورة، ومعنى الثورة المصرية بشكل خاص.
سارع الكثيرون على مدار العامين الماضيين إلى الكلام عن الربيع العربي، الذي تحوّل إلى شتاء “إسلامي”، وأخذوا على الثورات افتقارها إلى القيادة والبرنامج. وقد نجمت هذه الأحكام السريعة عن فشل في إدراك معنى الثورة، باعتبارها حدثاً لا تتجلى ملامحه الحقيقية، ولا نتائجه المرجوّة، قبل مرور عقد وربما عقود.
وفي الأثناء، ينبغي النظر إلى كل ما يحدث كنوع من الهزات الارتدادية، التي خلقها الزلزال الكبير. ومنها ما شهدته مصر على مدار الأسابيع القليلة الماضية، نتيجة انفتاح الحقل السياسي، الذي فتحته الثورة على مصراعيه: أولاً، صراع مكشوف على هوية الدولة. وثانياً، صراع، للمرّة الأولى منذ ظهوره قبل ثمانية عقود بين الإسلام السياسي ومعارضيه في الشارع وعلى الشارع.
بمعنى آخر: لم تعد هوية الدولة جزءاً من هموم واهتمامات النخب السائدة فقط، ولم يعد الإسلام السياسي قادرا على إدعاء تمثيل كافة شرائح المجتمع، أو على ممارسة دور الضحية في ظل أنظمة تعاديه. ومع هذا كله، وفوق هذا كله، نعرف كيف قوّض شعار “الحرية والإخاء والمساواة” أركان النظام القديم في أوروبا، ومناطق أخرى من العالم، وشعار “الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية”، الذي أطلقته الثورتان المصرية والتونسية، ربما يختزن في بساطته كل ما يكفي لتقويض أركان النظام العربي القديم.
هذه كلها تحوّلات تاريخية من العيار الثقيل ستنتهي بعلمنة المجتمعات والدول في العالم العربي. هذا لن يحدث غداً. وليس ثمة ما يضمن بقاء الحقل السياسي مفتوحاً بشكل دائم، وليس ثمة ما يضمن عدم نجاح الثورة المضادة، ووقوع صراعات اجتماعية مُفزعة، وصعود أنظمة شعبوية جديدة أسوأ من أنظمة الطغاة.
هذه الأشياء، وغيرها، ممكنة ومحتملة، طالما أن صناعة التاريخ لا تحدث في معامل معقمة الهواء، بل في الواقع بكل ما فيه من دم وطين وهموم واستيهامات فردية وجمعية، صاغها مصريون ومصريات في شعار “الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية”، بينما اختزلها آخرون في دعوة السيدة تهاني الجبالي، عضو المحكمة الدستورية، إلى “التصويت”. واللبيب بالإشارة يفهم.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
رام الله – برلين