هذا السؤال الذي إخترته كعنوان لمقال هذا الأسبوع، كان محور مناقشات جانبية عاصفة خلال “منتدى الإتحاد” السنوي الخامس الذي إنعقد في مدينة أبوظبي مؤخرا، وكان لي شرف المشاركة فيه مع نخبة من ألمع كتاب الوطن العربي ومثقفيه وأكاديمييه. بل جاء أيضا في ثنايا ورقة بحثية قدمها أحد الزملاء الأكاديميين من إحدى الدول الخليجية ضمن المحور الخاص بعلاقات العرب مع الولايات المتحدة الإمريكية.
التساؤل المذكور أعلاه لايخرج – بطبيعة الحال – عن نطاق الأماني والأحلام التي تختلخ في صدور الكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي. غير أن الواقع والمنطق يقولان بإستحالة حدوثه في المدى المنظور. فالولايات المتحدة ليست الإتحاد السوفيتي السابق الذي كان يـُدار بعقلية شمولية، ونظام بوليسي، وأيديولوجية غير قادرة على تجديد نفسها أمام التحديات العالمية المتسارعة، وإنما هي مجتمع ليبرالي ديناميكي حي، وبهذا الوصف فهي قادرة على تجديد دمائها وتطويرأهدافها وإستراتيجياتها ومواقفها بحسب الحاجة والمتغيرات. ثم أنه – سواء شئنا أم أبينا – لم يتوفر قط لدولة ما في التاريخ المعاصر ما هو متوفر اليوم لهذه الدولة، لجهة الإمكانيات الإقتصادية والعسكرية والعلمية، والتحالفات السياسية، والتواجد في مختلف أصقاع العالم، ناهيك عن حضورها القوي في حياة كل المجتمعات شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، إلى الدرجة التي صارت معها موجودة في منازلنا، عن طريق مسلسلاتها وأفلامها، وفي مطاعمنا، عن طريق الوجبات السريعة، وفي جيوبنا، عن طريق بطاقات الإئتمان، وفي خزائن ملابسنا، عن طريق الجينز الأزرق، على نحو ما ذكره صديقنا المحلل اللبناني الأستاذ “حازم صاغية” في مداخلته له خلال الجلسة الخاصة بعلاقات العرب مع أمريكا.
وهكذا، لا يُجدي القول بأن هذه القوة العظمى سوف تزول قريبا، لحساب قوى أو تكتلات أخرى صاعدة، أو بسبب قيام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. فحتى الصين والهند اللتين ينتشي بعض المحللين فرحا بصعودهما المشهود، وإحتمالات أن تصبحا ندين للولايات المتحدة مع نهايات القرن الحالي، لا يمكن أن يكون لهما نفس التأثير المدوي للولايات المتحدة الإمريكية في حياة البشر. ذلك أن القطبين الآسيويين – رغم كل ما سجلاه ويسجلانه من إنجازات – أمامهما مشوار طويل جدا للتخلص من الكثير من المشاكل والتحديات الداخلية التي تعيق بروزهما كقوتين عظميين.
لقد إستندت ورقة الزميل الخليجي في تبشيره بقرب أفول الولايات المتحدة كقوة عظمى، وفي قوله أن الأخيرة تعيش حاليا “حقبة الوهن” التي سوف تؤدي لا محالة إلى تفسخها وإنحلالها على معطيين لا ثالث لهما: الأول هو ما كتبه بعض المفكرين الأمريكيين من آراء في دورية “فورين أفيرز” الجادة حول هذا الموضوع تحديدا، والثاني هو الأزمة الإقتصادية العالمية التي رأى الزميل أنها قد ألحقت بالفعل ضررا كبيرا بالولايات المتحدة، وأن تداعياتها سوف تؤدي عاجلا أو آجلا إلى إفلاس المؤسسات الإمريكية، وإرتفاع نسبة البطالة، وإزديداد أعداد الفقراء والمعوزين في المجتمع الإمريكي.
كان ردي المتواضع على هذين المعطيين أثناء تعقيبي على ورقة الزميل أن الآراء والأفكار المنشورة في دورية – وإن كانت مرموقة كـ “فورين أفيرز” – ستظل مجرد آراء غير ملزمة، وأفكارا ليس لها نصيب من التقديس، بمعنى أنه يمكن الجدال حولها طويلا، خصوصا وأن مصدرها المجتمع الإمريكي الحر والمنفتح، الذي يسمح لمواطنيه وغير مواطنيه بتناول سائر شئونه بحرية وشفافية، أي دونما إقصاء أو تخوين أو حجر على العقول مثلما يحدث في دول العالم الثالث، بما فيها الصين الصاعدة التي لا تزال مجتمعاتها مكبلة بأغلال منيعة، تقيد حرية الرأي والتعبير.
أما فيما يتعلق بالمعطى الآخر، فكانت وجهة نظري أن تداعيات الأزمة الإقتصادية العالمية لا تقتصر على الولايات المتحدة وحدها، وإنما خيمت على كل دول العالم، وربما كانت أضرارها أشد حدة ووضوحا في دول الشرق عنها في دول الغرب، وفي دول الجنوب عنها في دول الشمال. هذا ناهيك عن أن العمل المؤسساتي المستند إلى القانون والنظام في الولايات المتحدة، والمجتمع الإمريكي الحر والخلاق كفيلان بأن يبتكرا حلولا سريعة لتجاوز أزمات من هذا النوع بأقل التكاليف، مثلما حدث في مناسبات سابقة، لعل أبرزها “الكساد العالمي الكبير” في ثلاثينيات القرن المنصرم.
وبطبيعة الحال، لم تسر طروحاتي هذه بعض الزملاء ممن يحملون في صدورهم وعقولهم عداء مزمنا للولايات المتحدة وسياساتها العالمية والإقليمية لأسباب أيديولوجية منيعة، رغم أن الشواهد تشير إلى أن ألد أعداء إمريكا هم في مقدمة من يرسل أولاده للدراسة في الجامعات الإمريكية، أو يستميت للإستشفاء في المراكز الطبية الإمريكية، أو يفضل التقنيات والأجهزة الإمريكية على ما عداها.
كنت أتمنى أن يتداول الزملاء موضوع العلاقة الملتبسة بيننا وبين الولايات المتحدة بروح جديدة، وبرؤى عقلانية ناضجة، تتواءم مع مكانتهم العلمية والأكاديمية، غير أني إكتشفت في المناقشات الجانبية التي جرت على هامش المنتدى تمسكهم بحلم زوال الولايات المتحدة. هذا الحلم الذي ينبع في معظمه من ثاراتهم الإيديولوجية مع واشنطون، ليس إلا.
وهذا لعمري يذكرنا بمواقف الأنظمة الثورية الراديكالية في المشرق العربي، والتي إرتمت بقضها وقضيضها في أحضان المعسكر الشرقي زمن الحرب الباردة، ولم تستمع إلى أو تناقش الأفكار التي طرحتها في المقابل زعامات عربية وطنية حكيمة كانت تقود وقتذاك الدول التي سميت ظلما بـ “الدول الرجعية”. تلك الأفكار التي كانت تقول ببساطة أن التعامل مع الولايات المتحدة يجب أن يكون بحكمة وروية، إنطلاقا من أن الأخيرة قوة عالمية عظمى لا يجدي معها التهديد والوعيد والشعارات التحريضية، ثم إنطلاقا من أن الإرتباط بواشنطون بعلاقات وثيقة أفضل لجهة إيجاد حل مقبول لقضية فلسطين، ومنع الكيان الصهيوني من تجيير قوة ومكانة الولايات المتحدة لصالحه وحده.
فمتى تعترف النخب العربية أن إدارة العلاقات مع قوة عظمى كالولايات المتحدة، التي لها مصالحها وأجنداتها الخاصة من تلك التي ليس شرطا أن تتطابق مع رغائبنا وأحلامنا، تتطلب عقلية مختلفة عن تلك التي سادت زمن الحرب الباردة؟ بل متى تعترف أنه بمثل ما يقع اللوم على الإدارات الإمريكية المتعاقبة في ما تعرضت له العلاقات العربية – الإمريكية من صعوبات وأزمات وخلافات ، فإن اللوم يقع أيضا على بعض الأنظمة العربية التي راهنت على خصوم واشنطون، وتنافست على التحريض ضدها، ناهيك عن بعض التنظيمات والحركات العربية التي بذرت بذور الكراهية في مجتمعاتنا لكل ما هو إمريكي وغربي، ولكأنما الغرب كله شر، والشرق ملائكة بالمطلق! وأخيرا متى نتعلم من اليابان وفيتنام – وهما البلدان اللذان ذاقا ما ذاقاه على يد الإمريكيين – كيفية هندسة علاقاتنا مع الآخر القوي، وكيفية الإستفادة القصوى من إمكانياته الهائلة دون ضجيج ومهاترات وشعارات عفا عليها الزمن.
* باحث ومحاضر أكاديمي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh