تتصرّف ايران مع دول المنطقة ومع الولايات المتحدة من منطلق أنّها ربحت الحرب في سوريا. ربحت الحرب التي يشنّها النظام على شعبه. هل مثل هذا التصرّف سليم أو هل هناك ما يبرّره؟
الأكيد أن من السابق لأوانه الحسم بأن ايران ربحت في سوريا وأن في إستطاعتها مطالبة المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج والمنطقة بالتفاوض معها من هذا المنطلق، من منطلق أنّ بشّار الأسد باق في السلطة وأنّ أيّ بحث في مستقبل سوريا لا يمكن أن يتمّ من دون مشاركة النظام وبشّار نفسه فيه.
بغض النظر عن كلّ ما قيل ويقال عن أنّ ايران وضعت خطة لإنهاء الأزمة السورية. وبغض النظر عن واقع متمثّل في أنّها صارت لاعبا أساسيا، بل اللاعب الأساسي في هذا البلد، خصوصا في ضوء تحوّل بشآر الأسد إلى مجرد أداة تديرها طهران ولم يعد فارق بينه وبين “حزب الله” في لبنان، يظلّ أن هناك تحفّظات معيّنة لا بدّ من أخذها في الإعتبار.
في مقدّم هذه التحفظّات أن هناك جانبا طائفيا ومذهبيا في الحرب الدائرة في سوريا. هناك بلد فيه أكثرية سنّية ترفض بأي شكل البقاء في أسر عائلة تنتمي إلى مذهب معيّن وذلك مهما حاولت هذه العائلة التلطي بشعارات حزب البعث والمتاجرة بما يسمّى “المقاومة” و”الممانعة” حتّى آخر لبناني وفلسطيني.
بكلام أوضح، ونظرا إلى أنّه يجب تسمية الأشياء بأسمائها تفاديا لمزيد من إضاعة الوقت، هناك نسبة نحو خمسة وسبعين من السنّة في سوريا. التركيبة السكّانية معقّدة وبسيطة في الوقت ذاته. هناك طوائف ومذاهب وقوميات عدّة في سوريا. لكنّ الأكثرية سنّية في حين لا تتجاوز نسبة العلويين بين السكّان الإثني عشر في المئة. هؤلاء السنّة يرفضون أصلا وبكلّ بساطة، بأكثريتهم الساحقة، بقاء الحكم العلوي، فكيف عندما يتعلّق الأمر بعائلة معيّنة من هذه الطائفة احتكرت لنفسها السلطة والثروة منذ العام ألفين عندما خلف بشّار الأسد والده؟
كان حافظ الأسد يمتلك كمية لا بأس بها من الدهاء. عرف باكرا أنّ من الصعب على علوي حكم سوريا من دون تحالفات معيّنة مع قسم من السنّة. لذلك لجأ منذ البداية إلى الإستعانة بسنّة الأطراف بعدما قضى على أي نفوذ لسنّة المدن الذين كان يكرههم كرها شديدا. تولّي حافظ الأسد، بشكل تدريجي، قبل توليه مقاليد السلطة كلّها في العام أالف وتسعمئة وسبعين من القرن الماضي تصفية كل وجود لكبار الضباط السنّة في المؤسسة العسكرية. استهدف على نحو خاص الضباط المنتمين إلى المدن الكبرى، أي دمشق وحلب وحمص وحماة. إستعان في المقابل بضبّاط من سنّة الريف مثل مصطفى طلاس وحكمت الشهابي وناجي جميل وكثيرين غيرهم، في حين كانت السلطة الفعلية في يد الضباط العلويين الموالين له. هؤلاء الضباط العلويون الذين تنكّر بشّار الأسد لمعظمهم هم الذين حموا عرش حافظ الأسد عندما سعى شقيقه رفعت إلى خلافته باكرا في العام ١٩٨٣ و١٩٨٤.
مع وصول بشّار الأسد إلى السلطة وإقامته تحالفا هشّا مع مجموعات معيّنة غير علوية لا وجود لأي تأثير لها على صعيد القرار السياسي أو الأمني، وحتّى الإقتصادي، ملأت إيران الفراغ. فعلت ذلك بطريقة مباشرة أحيانا وعبر أداتها اللبنانية زي “حزب الله” في أحيان أخرى.
في كلّ الأحوال، أدركت إيران باكرا نقاط الضعف لدى رئيس النظام السوري. احتوت النظام تدريجا. بات النظام السوري تحت رحمتها كلّيا في لبنان بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط ـ فبراير من العام ٢٠٠٥ واضطراره إلى سحب قواته وعناصره الأمنية من الأراضي اللبنانية في السادس والعشرين من نيسان ـ ابريل من تلك السنة. لولا “حزب الله” وما يمثله إيرانيا، لما عاد للنظام السوري وجود يذكر في لبنان…
مع اندلاع الثورة السورية في آذار ـ مارس ٢٠١١، صار الوجود الإيراني في سوريا نفسها طاغيا. ما كان لبشّار الأسد أي أمل في الصمود في وجه الشعب السوري لولا الدعم الإيراني. كان هذا الدعم على كلّ المستويات وفي كلّ المجالات. في النهاية، لا مفرّ من الإعتراف بأنّ معظم الإنتصارات التي حقّقها بشّار الأسد على السوريين كانت بفضل ايران وميليشيا “حزب الله” التابعة لها والميليشيات الشيعية العراقية التي تقاتل في غير مكان من سوريا. ايران هي التي فتحت حدود العراق ليتدفق منه المال والرجال والسلاح خدمة للنظام وايران. فوق ذلك كلّه، إنّ ايران التي أرسلت “حزب الله” إلى سوريا، هي التي تدفع فاتورة السلاح الذي يحصل عليه النظام من روسيا التي لا تتردّد في استخدام الفيتو في مجلس الأمن متى دعت الحاجة إلى ذلك حماية للنظام السوري.
استطاعت ايران منع سقوط النظام السوري. هذا أمر لا يمكن تجاهله. ولكن هل يكفي ذلك كي تعتبر طهران أنّ سوريا صارت ملكا لها وصولا إلى حدّ لعبها الدور المحوري في التوصّل أخيرا إلى اتفاق خرج بموجبه الثوّار من أحياء معيّنة من حمص بإشراف الأمم المتحدة؟
من حقّ ايران أن تعتدّ بما حقّقته في سوريا. لكنّ ذلك ليس كافيا للذهاب إلى حدّ الإعتقاد أنّ البلد صار في جيبها.
لم تقل ثورة الشعب السوري بعد كلماتها الأخيرة، وهي ترفض ايران تماما كما ترفض النظام. المؤسف أن الثورة أخذت منحى طائفيا ومذهبيا لا سبيل لتجاهله بأيّ شكل. المؤسف أكثر من ذلك وجود من يعتقد أنّ سوريا مجرّد ورقة في مفاوضات بين طهران من جهة والرياض أو واشنطن من جهة أخرى، في لعبة لا تزال في بدايتها.
من الصعب تخلّي ايران عن بشّار الأسد الذي تخلّى من أجلها عن كل العلاقات العربية لسوريا. ولكن ما هو أصعب من ذلك أن تكسب ايران رهانها السوري. هذا أمر مستبعد لسبب في غاية البساطة عائد إلى أن شعبا بأكثريته الساحقة لا يريدها. لو كان في الإمكان القضاء على الشعب السوري لما كانت ثورته مستمرّة منذ ما يزيد على ثلاث سنوات على الرغم كلّ ما تتعرّض له من ظلم وطعن في الظهر من الداخل والخارج في الوقت ذاته.