انشغال علماء الغرب بإطالة عمر الإنسان ما زال مستمراً. والرقم الأخير الذي بلغته توقعاتهم، بحسب أشهر المؤسسات، «ميتوزيلا فوانديشن» الأميركية، فسوف تمكن الأبحاث الجينية (من جينات) الإنسان من العيش حتى 130 و140 سنة. والأرقام التي تتوقعها هذه المؤسسات وغيرها، تتّجه الى العيش فوق المئة سنة، تصيب بدوار، وتدفع المخيّلة الى تصوّر أشخاص في «المئات من العمر»، على وزن الثلاثينيات أو الاربعينيات أو الخمسينيات… جديرة بعوالم أدولف هكلسي السابقة لزمنها.
ولكن بموازاة هذه الجهود الجبارة لتمديد العمر، اخترع الغرب أيضاً، عبارة «التمييز العمْري» (agism)، بالتلازم مع التمييز العرقي أو الجنسي: ذاك الميل الجارف في مجتمعاته لاعتبار التقدم في العمر عيباً في حدّ ذاته. «الطاعون الرمادي»، هكذا يسمي الأميركيون التقدم بالعمر. فتجدهم، مثلهم مثل الأوروبيين الذين يشاركونهم ثقافتهم الشعبية، مترقّبين دقيقين لأول التجاعيد والانحناءات والترهّلات والتكدّسات، يهجسون بها، يلاحقونها لو استطاعوا، أو يستسلمون لـ»نقاط الضعف» التي تجتاح أصحابها، بوعي مؤلم للزمن وآثاره. وبوسواس حاد، هو الطاقة الجبارة التي دفعت الى قيام صناعات وعلوم تدور كلها حول إخفاء معالم العمر، محو عيوبه وقرفه ولعنته.
إذاً، إننا في عصر يمدّد للعمر البشري ويرذله في آن. ماذا يقف خلف هذه المفارقة؟
علينا أن لا ننسى أن الغرب تجاوز مرحلته الحداثية، وانتقل الى ما بعد الحداثة. في عهد الحداثة الظافر والواثق كان ينتج أفكاره ومواقفه بالتطلّع الى المستقبل، بالحنين الى المستقبل؛ وإن شابت مسيرته الحداثية التناقضات والمفارقات. أما في المرحلة الما بعد حداثية، فقد بقي مخاطباً للمستقبل، ولكن مع فتح النوافذ مع الماضي. وما الماضي، في قياس الزمن الفردي البشري، غير الشباب، الماضي حتماً…
ولكن أيضاً، من بين الأشياء التي اخترعها الغرب: الصورة. الصورة في كل حالاتها: في المطبوع والمرئي السينمائي والتلفزيوني؛ وحتى المسموع، إذ يقولون لك «يبدو من صوته العذب أنه ما زال شاباً…». والصورة في حالتها المعاصرة هي المرآة الدائمة، المكرّرة، التي لا مناص منها. ولنقس مفعولها، ليس علينا سوى تصور مجتمعات محرومة، ليس من الكاميرا فحسب، بل من المرآة العادية، تلك القطعة الصلبة من الزجاج المطلية بالدهان من خلفها. هل نتخيل كيف تكون العلاقة مع العمر في هكذا مجتمعات؟
والحرب العلمية من أجل إطالة العمر هي بداهة حرب ضد الموت. هي حرب يمولها كبار القوم، الـ«سيليكون فالي» مثلاً، وجماهير الغفيرة من المواطنين العاديين الشاكين من عمرهم والمصفّقين لإنجاز الباحثين والممولين. وهي، أي الحرب، لم تبدأ البارحة؛ بل عمرها من عمر الحداثة نفسها وكل الإنجازات العلمية التي دشنتها ضد الأمراض الوبائية والمميتة، واستمرت نحو منطقها الأخير: أي إطالة العمر البشري. العداوة هذه ضد الموت، العداوة الموسوسة ضد عدو أوحد، تطبعك مع الوقت بسِماته. أن يكون الموت عدوك بهذا الإصرار والإنجاز يعني أن تتطبّع بأخلاقه. أخلاق الترقّب لأي إشارة من إشاراته، وهي قد لا تحمل دائماً معنى الموت بقدر ما تكون مجرّد إشارة عمر… التطبع بأخلاق الموت، ومرافقة إشارته، خصوصاً المبكرة منها.
هذه الحرب صنعت أعداءها، وهذه أيضاً من سمات الحداثة الغربية: بأن تسارع الى انتاج الحلول لمفارقاتها وتناقضاتها. بعد الإرشادات والجراحات والمراهم والتقنيات، التي اهتمت بها النساء أولاً، ثم ما برح الرجال، شيئاً فشيئاً، ينكبّون عليها.
وعلى اختلاف درجات اهتمامهم، ما زال هؤلاء الرجال يجرّون معهم رغبة العصور القديمة بالاقتران بصغيرات السن. وقد أصبح لهذه الرغبة نظيرها الانثوي، أي اقتران المزيد من النساء بالأكثر شباباً منهن.
هذا الوجه الحداثي والما بعد حداثي للغرب، كيف بلغ بلادنا؟
تماماً كما بلغته السيارات وناطحات السحاب والتلفزيونات: وصل إلينا عشوائياً، محموماً، متخماً. من دون لوجيستية فكرية تنظمه أو تؤطره أو تضع حدوداً لفوضاه العارمة. ما بلغنا، هو الرغبة النسائية الجامحة بإطالة المظهر الشبابي، نظراً لما بات يعنيه تقدم العمر من عيب ورذيلة.
الوسواس بالعيب العمري، التمييز العمري دخل خلسة الى يومياتنا، تسلل الى سلوكنا، ليس فقط في علاقة الشباب، بالغوى، أو الغرام، أو الفن، حتى في الفن… بل في تقييمنا لمهارات خارجة عن ذلك، في المهن والأوضاع التي لا تتطلب مظهراً شبابياً مغرياً، فأصابت الغالبية العظمى من النساء. خصوصاً أولئك المتنطّحات في المسرح العام.
والأهم من ذلك أن موجة التمييز العمري هذه تطعّمت بجانب قديم من تراثنا الاجتماعي؛ ألا وهو اقتران المقتدرين من الرجال، ومهما بلغت أعمارهم، بالفتيات الصغيرات، اللواتي من أعمار بناتهم أو ما دون. وعندما تقصّر الحيلة، تحلّ عليهم مجرد الرغبة بهن، والتهويم حول فضائلهن الجنسية والايروتيكية. هذه الاستعارة من أكثر العصور الماضية تحقيراً بالنساء، ومن تخصيصهن بهذا النوع تحديداً من التمييز العمري، تترافق مع إحالة جانب آخر من هذا التراث الى قارعة النسيان: وقوام هذا الجانب هو الاحترام الذي كانت تكنّه المجتمعات التقليدية للذين بلغوا أعماراً مديدة؛ لكونهم أصحاب حكمة وعمق وتجربة. من يكترث بهذه الصفات الآن؟
النتيجة: مبالغة في التمييز ضد عمر النساء، ونقله الى اللغة. الرجال يهجسون بعمرهم كما يفترض أن يهجسوا بفحولتهم؛ لكنهم، ومعهم نساء، يعنّفون المتقدمات بالعمر، من دون أن يعوا، من دون أن يدركوا. وهذا سلوك لا يقتصر على الأوساط العادية أو التقليدية، إذ تجده بين متعلمين ومثقفين؛ يقولون عن فنانة فاتها الشباب، إنها «منتهية الصلاحية». يردون على خصومهم في الموقف من النساء بأخذ العمر عليهن، «شمطاء»، أو «متصابية»… كحجّة «فكرية». لا يعرضون على شاشاتهم غير الصبايا، وينفون من إعلامهم المرئي ومن صحافتهم المكتوبة مَن تخطّت التجاعيد على وجوههن النسبة «المقبولة». لا يوجد بين هؤلاء صحافية مثل هيلين توماس تلعب دوراً في الإعلام، أو تساجل في الحياة السياسية، وقد تجاوزت الثمانين. منفى العمر عند النساء نهائي، والدور بالغٌ الرجال، الذين، حتى الآن، وموقتاً، يستفيدون من هذا التجاور العبثي بين تقدم العمر ورذله في آن.
كل هذا يجري بالتعايش بين أقدم البنى الفكرية وأحدثها. ولبنان أرض خصبة لهذه الحالة؛ ربما بسبب ثقافته المظهرية وتأثره السريع بموجات الغرب. والوجه الايجابي لهذا التأثر تحيّده تلك العلاقة الإنتقائية التي يقيمها أبناؤه مع بناه التقليدية. من نبذ لحكمة العمر وعمقه وتجربته الى الانجذاب للصغيرات الطفلات، إرضاء لنرجسية العمر الجريحة. طبعاً العلاقة تنقلب الى عكسها عندما تتمكن النساء أكثر فأكثر، لأن الموضوع كله علاقة «ميزان قوة«: الأقوى هو الذي يستطيع الارتباط بالأصغر، هو الأقدر على مكافحة الموت وإشاراته.
الآن، ماذا لو استطاع الإنسان أن يعيش أكثر من 130 عاماً؟ هل سيقضي مئة عام من بقية عمره منبوذاً؟ لا لسبب سوى لأنه تجاوز في يوم من الأيام الثلاثين من عمره؟ أي بمعنى آخر، هل سنراوح في مكان التعييب على العمر في حال تحقق هذا الإنجاز العلمي؟ الوضع الآن قريب لما نتخيّله عن المستقبل، مع فارق بسيط بالأرقام: كان معدل عيشنا 40 عاماً، وبات الآن حوالى 70. أي أمام إنساننا المعاصر 40 عاماً من العيب. هذه المعادلة لا تستطيع أن تستمر، وإلا كان البحث العلمي عن تمديد العمر عملية غبية، مؤلمة وساذجة. لا بد لهذه المفارقة أن تنتهي، لا بضربات الجراحة التجميلية فحسب، بل ببدائل فكرية أكثر احتفاء بالحياة وأقل توجّساً من الموت.
آخر طرائف عن هذه الحالة: قناة الـ»بي بي سي» البريطانية صرفت ميريام أوريلي (53 عاماً)، مقدمة برنامج الريف الانكليزي منذ 25 عاماً. السبب؟ إدارة المحطة أنذرتها قبل أشهر بضرورة معالجة التجاعيد التي ظهرت على وجهها. وهي رفضت القيام بذلك، فصُرفت. ميريام أوريلي رفعت دعوى قضائية ضد المحطة، أدانت «التميز الجنسي والعمري»، ووصفته بهذه الكلمات البسيطة: «لا أعتقد أن البي بي سي تسائل رجلاً بشأن تجاعيد وجهه». متى تصل نساؤنا الى حق رفع الدعاوى القضائية ضد الذين يصرفونهن، ضمناً أو علناً، من العمل وعن الحياة، بسبب ظهور التجاعيد على وجوههن؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية – بيروت
نوافذ “المستقبل”
هذا العصر الذي يطيل العمر ويرذله في آن د. هشام النشواتي — طبقوا الديمقراطية تفلحوا مع الاسف لولا علم الديمقراطية واحترام حقوق الانسان التي اوجدها العالم الغربي وليس العرب او المسلمين والتي استطاعت ان تنهض به وتحذف القوة بين دوله اي حققت قانون العدل وايضا حققت لا احد فوق القانون . ثم من الذي دمر البرجين وبدا بارهاب الطائرات اليس قادتهم من الخوارج العرب او المسلمين وينتمون الى الدول العربية اوالاسلامية الذين شوهوا سمعة الاسلام والمسلمين. ان اسرائيل هي نتيجة حتمية لتخلف العرب اي لعدم او محاربة العرب لعلم الديمقراطية وعدم احترام حقوق الانسان. يقول العالم الاجتماعي الجزائري مالك بن… قراءة المزيد ..
هذا العصر الذي يطيل العمر ويرذله في آن
stern — stern_43@yahoo.de
العيب عند العرب بكل شيء هو ثقافة . ثقافة العيب. وهذة احدى مشاكل العرب