لا تفارق اصابعه لفافة التبغ الا لماما، الثمانيني نشأت السلمان. هكذا يستقبل المعزّين بفقدان ابنه، عند اطراف بلدة عدلون الساحلية: يجلس متلفتا، فيما عيناه تبدوان مسمرتين في البعيد. كأنما، وهو الذي ودع نجله هاشم القتيل قبل عشرة ايام، لايزال ظلّ ولده يتنقل بين غرف البيت، في الحديقة امام المنزل. كأني بعينيه تهربان من ظلال هاشم بحثا عنه، هو الولد الذي لا يهدأ ولا يستريح حتى في حضن ابيه.
ما اقسى ان يؤبن الاب ابنه، ما اقسى ان يودع الاب مرغما أصغر ابنائه، بل أحبهم اليه. اليس هو الغائب الذي لن يعود؟ اليس هو الصغير الذي مهما كبر سيبقى أصغر اخوته وآخر العنقود؟
حصرم هوالغياب يا عنقود هاشم. لقد صار زبيبا قبل الخريف. ما اسرع خطوك. كم ربيعا وصيفاً قضيت في دقائق؟ هي رصاصة الغدر، التي ظللتَ تراوغها في سفرك بين الفصول، لكنها غلبت جسدك الفارس، فهوى… يا هاشم ما كان قاتلك أدهى منك “لكنه يغدر ويفجر”.
هاشم السلمان وكفى هو “قتيل الغدر، ولن اسميه شهيدا”، قال الثمانيني: “حين جاء قريبنا المهندس رياض الاسعد مشكورا ليضع صورة هاشم المذيلة بوصف الشهيد في باحة البيت، طلبت منه ان يسقط هذه الكلمة. لا احبها ولا اريدها لولدي القتيل”. يتابع الاب باعتداد وأسى: “لقد تحدث البعض باسمنا، دون حق، لقد امعنوا بقتله اولئك الذين صدّروا بياناً باسم العائلة تتهم احمد الاسعد بمسؤولية قتل هاشم، ولم يسألنا احد من الذين تحدثوا باسمنا عن رأينا في ما يدّعون. لقد وضعوا الكلاشينكوف فوق اسم الله على اعلامهم. وصار السلاح والمال والسلطة فوق الله والدين؟”.
مزدهرة تجارة الدين قال الاب: “منذ سنوات بعيدة اخذت على نفسي الا ادخل حسينية البلدة ولا غيرها. ولطالما آلمني ان يتحول الموت والقتل الى تجارة، كنت لا استطيع تحمل ان اكون شاهدا على سرقة الدين، وابقى صامتا، لذا آليت على نفسي الا ادخل الى اماكن يسرق فيها الدين وتصادر فيها العقول على مرأى من الناس”. يتابع: “واريت ولدي الى جانب امه وجدته، فقالوا اننا مُنعنا من دفنه في جبانة البلدة، التي لم يقصّر كرامها بما يجب ويزيد. وكما قيل: خاب قومٌ لا سفيه لهم. فبعض السفهاء في البلدة عمدوا الى محاولة التعدي على نسائنا حين كن تجتمعن على قبر هاشم، لكن ما لبثوا ان رُدوا على اعقابهم.
وانا ابو هاشم اقول: صرت كبيرنا يا هاشم. هي كنيتي الجديدة. هي هديتك في عيد الاب، لكنني لا استحق هذا الكرم يا ولدي، ومنذ سفح دمك الفارس ظلما، صرت ابي، اعلم انك في حضن امك الآن، فقل لها كم تغيرت دنيانا، لكن قل لها ايضا انها على عهدها بنا نحب الله بلا تحزب ونحب الرسول والانبياء بلا تكلف ولا عصبية، ولا نبارك للقاتل رغم ازدهار تجارته في بلادنا، نساند المظلوم ونحب الائمة، رغم سجنهم في زنازين المغالاة الضيقة، هم علمونا الحب، والرأفة بأنفسنا وبالناس وما نسينا الدرس بعد، وما نسينا انهم كانوا غرباء في زمانهم، لا سلاح ولا مواكب ولا انصار ولاشبيحة ولا شاشات… كانوا غرباء كغربة القمم، قل لها ان ابناءك كما احببت ان يكونوا، لا يحقدون حتى على من قتَلَك، كما لا نحب الدم ولا نسفكه، قل لها اننا على عهدها بنا نحب الوطن ونعشق الدولة ولو قالوا كل يوم لنا بتحريض انهما لا يستحقان، ونأنس بالناس في وطننا، لا دين يفرقنا ولا مذهب. أعرف يا ولدي انها ستسألك ماذا يعني المذهب والمذهبية وكيف ينقسم الناس فيهم وعليهم، سيصعب عليك ياهاشم ان تشرح لها عما تنبذه وتزدريه… قل لها بيتنا لم يزل على سيرته الاولى، زاده الالفة…
alyalamine@gmail.com
إعلامي لبناني
البلد