في الآونة الأخيرة، وفي إطار المفاوضات التي تدور بين إيران وأطراف من المجتمع الدولي بشأن عدد من الملفات الإقليمية التي للجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقة بها، ذُكر أن طهران أكّدت أن ليس لديها مشروعٌ “تفجيري” في لبنان وأنها حاضرةٌ للمساعدة على حلّ الأزمة اللبنانية.
وتردّد كثيراً أن إيران، في سياق إبدائها الاستعداد للمساعدة في حلّ الأزمة اللبنانية، طرحت معادلةً سياسية “تقول” إن “حزب الله” في لبنان لن يحتفظ بسلاحه “الى الأبد”، لكن لا بد، في اللحظة التي سيقرّر فيها التخلّي عن سلاحه، من أن يكون تعديلٌ أساسي قد طرأ على “الصيغة اللبنانية”، بما يحسّن ظروف الشراكة الشيعية في هذه “الصيغة”. وفي هذا الإطار، “رمت” إيران في التداول اقتراحاً بأن تقوم “الصيغة” على فكرة “المثالثة”.
الوجوه الإيجابية:
تفسير طرح “حزب الله” لـ”المشاركة”
قبل نقاش المقترح الإيراني الذي تؤكّده مصادر ديبلوماسية عدة، تعرب أوساط سياسية لبنانية “معنيّة” عن اعتقادها أن ثمة وجوهاً إيجابية لـ”سياق” هذا الطرح، وذلك أخذاً في الاعتبار الجوانب الرئيسية الآتية:
لا شك أولاً أن تكرّر الإشارات الإيرانية بين الفينة والفينة الى أن سلاح “حزب الله” ليس أبدياً، وجهٌ إيجابي في حدّ ذاته.
ولا شك ثانياً أن قيام إيران بنفسها بتقديم اقتراحات نيابةً عن “حزب الله” أو باسم “حزب الله”، إنما يؤكد أن لهذا الحزب مرجعيةً إقليمية قادرةً على حسابِ ما يصلُح للحزب وما لا يصلُح له في إطار أشمل هو الإطار الإقليمي، بحيثُ تشكّل إيران مرجعية أساسية للتفاوض “حول” الحزب. وبحيث يظهر انّ ايران بصرف النظر عن الاقتراح نفسه، ربما تريد حلاً ما في لبنان. وهذا وجه ايجابي آخر.
ثم لا شك ثالثاً أن الاقتراح المشار إليه، يبدو مبنيّاً على معادلة “الأخذ” من “حزب الله” من أجل “إعطاء” الشيعة، وهذا ما يعنيه في العمق طرح “المثالثة” في الصيغة في مقابل سلاح “حزب الله”، ولو أن أحداً لا يمكنه القول أن إيران “تفصُل” بين الحزب والطائفة، ولو أن أحداً لا يمكنه القول أن إيران لا تعتبر “حزب الله” حزب الطائفة على طول الخطّ. وفي الإجمال، هذا وجهٌ إيجابي أيضاً.. على الرغم من “إشكاليّته”.
ولا شك رابعاً وأخيراً أن المقترح الإيراني يسمحُ بـ”تفسير” ما يطرحُه “حزب الله” منذ مدّة تحت عنوان “المشاركة”، وينقلُ المسألة الى مرتبةٍ أعلى من “الوضوح”. وفي ذلك إيجابية مؤكّدة.
سلاحُ “حزب الله” و”الثمن الباهظ”
بيدَ أن للمقترح الإيراني معاني لا بد من تسليط الضوء عليها، تنطوي على قدر عالٍ من الخطورة.
فالاقتراح أشبه بـ”تنبيه” أو “تحذير” مفادُهما أنه إذا كان أحدٌ يظن أن تخلّي “حزب الله” عن سلاحه “في وقت من الأوقات” سيكون لـ”وجه الله” أو لحساب “فكرة الدولة”، فإن الأمر لن يكون ذلك، و”المقابل” سيكون باهظاً.
كذلك، فإن الاقتراح يعني ـ بالفعل ـ أن الحزب يريد، أو أن إيران تريد للحزب، أن يؤسّس على سلاحه تغييراً في بُنية الصيغة، واختلالاً معيّناً في معادلاتها.
“المثالثة” تنسف “المناصفة”
ماذا تعني “المثالثة” المطروحة؟
يقوم اتفاق الطائف على مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وفيه تأكيدٌ على أن المناصفة هذه هي البديل من “العددية”. فأياً يكن “العدد” يتمثّل المسلمون والمسيحيون بالتساوي. وإذا كانت المناصفة كُرّست لطمأنة المسلمين والمسيحيين معاً، فالأمانة تقتضي القول أنها كانت لطمأنة المسيحيين بالدرجة الأولى من جهة وكانت في إطار تأكيد “معنى” لبنان بما هو كيانٌ للعيش المشترك، وفي إطار التأكيد على “النكهة” المسيحية في لبنان البلد المتميّز في تعدديّته عن سائر بلدان المنطقة من جهة أخرى.
لذلك فإن “المثالثة” تعني أول ما تعنيه نسف “المناصفة” التي يقوم الطائف فلسفةً ونصوصاً عليها.
.. وتنسف “المثالثة ضمن المناصفة”
من ناحية أخرى، في التطبيق العملي لاتفاق الطائف، وفي نطاق احترام نصوصه، ثمة “مثالثة من ضمن المناصفة”، أي أنه من ضمن “المناصفة” الإجمالية التي تجعل عدد النواب والوزراء المسلمين من كل المذاهب متساوياً مع عدد النواب والوزراء المسيحيين من كلّ المذاهب، يتمثّل الموارنة والسنّة والشيعة بعدد متساوٍ، ويتوزّع المسلمون من المذاهب الأخرى والمسيحيون من المذاهب الأخرى “الحصص” الملحوظة لهم.
بكلام آخر، ليس لكل من الموارنة والسنّة والشيعة الثلث في المؤسسات الدستورية. ولذلك لا تستطيع طائفة واحدة إمتلاك الثلث بمفردها في أي من المجلس النيابي أو مجلس الوزراء.
وتطرح “التعطيل المتساوي”
مِن هنا، فان “المثالثة” المقترحة تنسف الانتظام المحدد في اتفاق الطائف ـ والدستور ـ للمؤسسات الدستورية.
وواقع الأمر أن “المثالثة” عندما تكون مطروحةً بديلاً من “المناصفة” من ناحية وبديلاً من “المثالثة ضمن المناصفة” من ناحية أخرى، لا يمكن أن تعني عملياً غير الترجمة الآتية: المسيحيون بكل مذاهبهم ثُلث، المسلمون غير الشيعة ثُلث والشيعة ثُلثٌ ثالث.
لا يمكن لـ”المثالثة” أن تعني عملياً غير ذلك، بالاستناد إلى حقيقة أن “الثلث المعطّل” لا يمكن أن يتشكل حالياً مِن ممثلي أي طائفة بمفردها. والحال أن طرفَين في “المعارضة” نظّرا في الشهور الماضية لـ”الثلث المعطِّل”. فبعض المسؤولين في “حزب الله” اعتبرَ أن كل طائفة من الطوائف الكبرى تملك حق النقض (الفيتو)، وأحدُ نواب “تكتل التغيير والاصلاح” زلقَ فاعتبر أن “الثلث المعطل” ضمانةٌ للمسيحيين.. لا بل ذهب في حينه إلى القول أن البطريرك الماروني أعطى مظلته لاتفاق الطائف على أساس ضمانة “الثلث المعطل”(!).
الإنتقال من الشراكة الوطنية إلى “الفيتوات”
تأسيساً على هذه المقدمات “السريعة”، من الواضح أن “المثالثة” تنطوي على نتائج خطيرة.
فهي أولاً “قرارٌ” بإنقاص عدد المسيحيين من النصف إلى الثلث.
وهي ثانياً تعلن التساوي بين المسلمين الشيعة من جهة وسائر المسلمين سنة ودروزاً وعلويين مجتمعين من جهة ثانية.
وهي ثالثاً تؤول إلى تحويل الطائف من فكرة الشراكة الوطنية “المتساوية” إلى شراكة الفيتوات المتبادلة.
ومن شأنها رابعاً ليس فقط أن تنسف فلسفة الطائف للعيش المشترك، بل أن تقيم نوعاً من النظام الكونفدرالي في لبنان، بما أن “حقّ الفيتو” لا يسمح حتى بقيام نظام فيدرالي.
ويتأسس عليها خامساً نسف فكرة الدولة المركزية في لبنان.
وإذا كان المقترحُ يؤدي إلى كل ذلك، فمعناهُ أن يَنتج عنه “تطفيش” للمسيحيين وإخلالٌ بالتوازن الوطني… وهذا نوعٌ آخر من “الأسلمة” للبلد، لا بل لا مبالغة في القول انه مرحلة تأسيسية لـ”الأسلمة” على طريق أن تقوم إحدى “الكونفدراليات” بالسيطرة على الأخرى في مرحلة من المراحل.
لذلك، فعلى افتراض أن الاقتراح “بريء” من كلّ ما سبق ذكرُه، فان “المثالثة”، مفهوماً وترجمةً، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى النتائج الخطيرة التي سبقت الإشارة اليها.
إبقاء الوضع على ما هو عليه أو إبقاء “مفاعيله”؟
في ضوء ذلك، ما الذي يجب “اكتشافه” إذاً؟
إذا كان لـ”المقابل” المطروح لسلاح “حزب الله” كل هذه الأثمان الباهظة، يكون المطروح هادفاً بهذا المعنى إمّا إلى جعلِ مقاربة عنوان سلاح “حزب الله” أشبه بـ”إستحالة” تقود إلى إستبقاء الوضع على ما هو عليه، وإمّا إلى تكريس “مفاعيل” ما هو قائم بصيغة أخرى.
مِن هنا، وعلى الرغم من الايجابية المتمثلة في الكشف عن “اللغز” أو “القطبة المخفية”، ممّا يفترض نقاشاً صريحاً، لا بد من القول إن “المثالثة” تناقض اتفاق الطائف وتناقض معنى الكيان اللبناني وجوهر وجوده.
الشيعة: الحقوق المحفوظة في الطائف
وبعد، ثمة زاوية شيعية في النقاش لا بد من التطرق إليها.
جرت الإشارة في مقدمة هذه المقالة إلى أن اقتراح “المثالثة” في ظاهره “يأخذ” من “حزب الله” من أجل أن “يعطي” الشيعة. والسؤال: هل يرضي الاقتراح الشيعة؟
ربّ قائل هنا أن المقترح الإيرانيّ يُعطي لبنان “شيئاً” كبيراً جداً هو تخلي “حزب الله” عن سلاحه في وقت من الأوقات، وان هذا الشيء الكبير أكبر من “الخيال”.
وربّ قائل آخر أن المقترح الإيراني يريدُ تعزيز الوضع الشيعي في الصيغة اللبنانية، ويسأل: لماذا إعتبار “المثالثة” لصالح “حزب الله”؟ ومن قال إن “حزب الله” سيبقى متحكماً بالوضع الشيعي؟ ومن قال إن متغيّرات سياسية لن تطرأ على الوضع الشيعي مستقبلاً؟ ومن قال إن “حزب الله” حتى بـ”المثالثة” سيبقى هو نفسه في مرحلة “ما بعد السلاح”؟
هذا كلّه، أي تلك الأقوال وتلك الأسئلة طرحت بالفعل في الآونة الأخيرة. طُرحت في الوسط الشيعي غير المؤيّد لإيران وغير المؤيّد لـ”حزب الله”. و”الفكرة” أن الأساس هو تخلّي الحزب عن سلاحه في وقت من الأوقات، بما يوفّر ظرفاً أفضل لـ”تعددية شيعية”، ومما لا يجعل “المثالثة” تنطوي بعد فترة من الزمن، أي بعد سنوات، على الأبعاد الخطيرة نفسها التي تنطوي عليها اليوم.
أما الجواب عن كل ذلك، فهو بصرف النظر عن إيران و”حزب الله”، وبصرف النظر عن الاختلاف الحقيقي بين “حزب الله” والشيعة “الآخرين”، أن “المثالثة” يجب ألاّ تدغدغ الشيعة في لبنان. فالطائف “أوصل” كل الطوائف الى حقوقها، وأوصل الشيعة الى حقوقهم. وكما الطائف ميّز بين الطائفة و”حزب الطائفة” فقال إنه مهتم بالطوائف وليس بأحزابها، فإن الشيعة معنيّون بأن يحافظوا على الصيغة، وعلى الطائف الذي يشكّل مرجعية الكيان النهائي والدولة.
وفي جميع الأحوال، يشكّل المقترح الإيراني أو المنسوب الى إيران، فرصةً للنقاش. ليس مطلوباً “استنفارٌ” ضدّه، بل المطلوب مواقف تشرح أبعاده ونتائجه وعواقبه.. لأن المطلوب إعادة تشكيل الوعي اللبناني الجماعي لمميّزات اتفاق الطائف.
(المستقبل)