وصف صديقي حازم صاغية، قبل سنوات، سلوك حماس بشخص اشعل النار في بيت أبويه، ثم ملأ الدنيا صراخاً احتجاجاً على عالم لا يعطف عليه لأنه يتيم. وبقدر ما كان هذا الوصف صحيحاً في وقت مضى، فإنه يبدو في الوقت الحاضر أكثر صحة والتصاقاً بالواقع.
وهذا ما يمكن التدليل عليه، والكلام عنه، في ظل التحذير من تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في قطاع غزة، بعد إغلاق أنفاق التهريب على الحدود مع مصر. وبالمنطق، معنى هذا الكلام أن عدم تدهور الأوضاع الاقتصادية، والمعيشية، في قطاع غزة مشروط، في جانب منه، بعدم إغلاق الأنفاق.
لا بأس. فلنستمر في لعبة المنطق: ماذا ستكون النتيجة إذا قلنا إن الأنفاق غير شرعية؟
يصبح عدم تدهور الأوضاع الاقتصادية، والمعيشية، في قطاع غزة، مشروطاً بما هو دون، أو فوق، الشرعي. بمعنى أن اللاشرعي مشروعٌ إذا اقتضت الحاجة. ولكن، ماذا إذا التبس الأمر فأصبح اللاشرعي، منظوراً إليه، بعيني غزة مشروعاً، ومنظوراً إليه بعيني القاهرة خطراً على الأمن القومي، وانتهاكاً للسيادة؟
ولعل في التباس كهذا ما يعيدنا إلى مَنْ أحرق بيت أبويه، وملأ الدنيا صراخاً ضد عالم لا يرحم اليتيم. إذ ينبغي لليتم أن يكون أعلى شأناً، وأكثر أهمية، من إحراق البيت. وهذا ما يمكن فهمه بالعودة إلى تقليد في الشعر العربي يجيز للشاعر ما لا يجيز لغيره، بمعنى أن من حقه انتهاك بعض القواعد العروضية واللغوية. وبالقياس نستنتج أن من حق حماس، أو “المقاومين”، مهما كانوا، وأينما كانوا، انتهاك قواعد سياسية، وقانونية، ودستورية تخص عالم الدول، والسيادة، والأمن القومي، والاستقلال.
وهذا، في الواقع، ليس وهم حماس وحدها، بل هو وهم فلسطيني بامتياز، وقد عاد على الفلسطينيين، منذ أواخر الستينيات في القرن الماضي، بأكثر من كارثة، وورطهم في أكثر من حرب أهلية. ومن حسن الحظ أن الحركة الوطنية الفلسطينية، أو ما تبقى منها، تحررت أخيراً منه، ولكن من جاءوا من خارجها للاستيلاء عليها، لم يتحرروا بعد.
وهذا الوهم، أيضاً، جزء من مكوّنات الحمض النووي لكل الجماعات الإخوانية الجهادية، والقاعدية، والسلفية المسلحة، العابرة للحدود، والقوميات، والأوطان. بيد أن تجلياته في قطاع غزة تبدو كارثية بقدر ما هي عبثية ومجانية.
ففي كينونة اللاشرعي مسكوت عنه يفوق ما في مرافعة الحصار من شكوى اليتم. ومنه أن التهريب يشكّل مورداً رئيساً من موارد حماس المالية، ويُسهم في إنشاء ومأسسة ما يمكن تسميته بالاقتصاد السياسي للتهريب، الذي يتجلى في، ويضم، شبكات عابرة للحدود، ومصالح متبادلة في “سوق” مشتركة، وسياسة تستهدف تأمين الشبكات، وحماية وتعزيز المصالح، وتنشيط “السوق”، وإنشاء اللاشرعي لغوياً، ودلالياً، باعتباره جزءاً من “فقه الضرورة”.
في غزة كلام عن أشخاص اصبحوا من أصحاب الملايين. ومن الحماقة، بالتأكيد، تجاهل العلاقة بين السلطة والثروة، وبين السوق وآليات إنشاء خطاب سلطة الأمر الواقع عن نفسها وعن العالم.
ثمة مسألة إضافية مفادها أن اللاشرعي، وبقدر ما يتعلّق الأمر بسلطة الأمر الواقع في غزة، يقوم على مبدأ الحضور والغياب: حضور سلطة حماس على مدخل النفق في غزة، وغياب السلطة المصرية عن مدخل النفق في مصر. بمعنى أن كينونة أحد الطرفين على جانبي النفق لا تتحقق إلا إذا انتفت كينونة الآخر، أي إذا غاب، أو غض الطرف (وغض الطرف من علامات الغياب). لا بأس.
ولكن، مع اللاشرعي وقد أصبح مشروطاً بحدي الحضور والغياب، ماذا يحدث إذا لم تقتصر البضائع المهرّبة على السلع الغذائية، بل شملت في الاتجاهين أسلحة ومتفجرات، إضافة إلى أشخاص يحتمل ضلوعهم في أعمال تمس بالأمن المصري؟
وهذا الاحتمال واقعي، وحقيقي، وماثل للعيان، طالما أن فتحة النفق على الجانب المصري في سيناء، التي تشهد حرباً حقيقية بين الجيش المصري وجماعات إرهابية. وماذا يحدث إذا وقع هذا كله في ظل تحوّلات تاريخية في مصر، نجمت عن موجتين ثوريتين، أطاحت ثانيتهما بحكم الإخوان المسلمين، وفتحت صراعاً مفتوحاً معهم، وهم جذع الشجرة التي نبتت عليها حماس؟
وماذا يحدث، أيضاً وأيضاً، إذا كانت حماس، وكل الجماعات الإخوانية في مناطق مختلفة من العالم، قد انخرطت في الصراع المفتوح على السلطة، وجنّدت أجهزتها الدعائية والإعلامية في الحرب على السلطات الجديدة في القاهرة؟ وماذا يحدث عندما تتهم جهات إعلامية، وسياسية، ورسمية في مصر، حماس بالإسهام في زعزعة الاستقرار في مصر، وتقدّم بيانات، ووقائع، وشهادات؟
حماس تنفي هذا كله، تقول إنها لا تتدخل في الشأن الداخلي المصري، وتشكو إغلاق الأنفاق، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، والمعيشية في غزة، ولكنها تتصرف على الأرض بطريقة مغايرة، وآخر دليل عليها امتناع بعض الفصائل في غزة عن المشاركة في عرض مشترك احتجاجاً على شعارات رفعتها حماس ضد مصر.
لا بأس. المهم مع هذا كله، وفي ظل هذا كله، أن حماس تقايض “بكلمة شرف” على عدم التدخل في الشأن الداخلي المصري، مقابل بقاء اللاشرعي، مشروطاً بحدي الحضور والغياب، ومسكوناً بالمسكوت عنه، واقتصاده السياسي، ومرفوعاً على ساعد الشكوى من ظل ذوي القربى. وفي المقابل: المطلوب من المصريين، ومن العرب، والعالم أن يصادق، ويصدق، ويصفق. وهذا لعمري فصل جديد من كتاب نزهة المشتاق في علم الأنفاق.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
نـزهة المشتاق في علم الأنفاق..!!شكرا على المقال. بدايته رائعه. نهايته فيها غموض بالاسلوب مثل: ( أن حماس تقايض “بكلمة شرف” على عدم التدخل في الشأن الداخلي المصري، مقابل بقاء اللاشرعي، مشروطاً بحدي الحضور والغياب، ومسكوناً بالمسكوت عنه، واقتصاده السياسي، ومرفوعاً على ساعد الشكوى من ظل ذوي القربى) هذه لا يفهمها الكثير وانا منهم.. ثانيا: الى الاستاذ المحرر: هل الصورة المنشورة صوره لنفق من انفاق غزة وسيناء؟ ثالثا: رغم اني اتفق معك لكني اتساءل: ما معنى الشرعيه والشرعي؟ أسرائيل دوله حسب القوانين الدوليه وكل الاعراف العالميه دوله شرعية . فهل على العرب ن يقبلوا بها ويصونوها لانها شرعيه؟ هل ان من… قراءة المزيد ..
نـزهة المشتاق في علم الأنفاق..!!
يا أخ يا كاتب!
كفى هذا اللف والدوران والفذلكات اللغوية! إذا أردت أن تقول شيئًا فقله مباشرة، ولا تُنهك القارئ بهذه اللغة العقيمة التي تمتلئ بالدسم اللغوي الذي يفضح مرضًا عربيا مزمنًا في الكتابة.
والكلام للجميع ممّن يمارسون هذه العادة العربية في الكتابة.