ينشر “الشفّاف” مقال العفيف الأخضر “المفجوع” بسقوط بن علي (وكانت نخبة تونس المعادية للأصولية الإسلامية تأخذ عليه، منذ سنوات سبقت سقوط بن علي، تأييده لحاكم بلدها المطلق) ومبارك (والقذّافي!) لأنه “الضد” لما يمثّله “الشفّاف” في هذه “الأزمة الثورية” التي تجتاح بلاد العرب! فنحن لم نشعر يوماً بالإرتياح لتنظير يبرّر قمع ملايين البشر، ونزع كرامتهم وإنسانيتهم، وحقوقهم وموارد بلادهم، (هذا عدا تحويل المرأة العربية إلى كائن دون مستوى البشر في بلاد “الوهابية”..) بإسم الحؤول دون “الأسوأ الأصولي”! و”الجنون” الذي يتطرّق إليه العفيف الأخضر في مقاله كنا نجده في صف احكّام معربدين في سلطاتهم “المطلَقة”، وليس في صفّ الناس العاديين الطامحين إلى “كرامة” إنسانية “عادية”. كرامة الإنسان “الإنترنيتي”!
وخصوصاً، فنحن ننشر مقال العفيف الأخضر لأنه يمثّل تيّاراً موجوداً ضمن المفكرين التنويريين العرب فحواه “كل شيء” أفضل من الأصولية الإسلامية!
ما نتّفق مع العفيف الأخضر حوله هو أن “القرار (الحكيم) هو الفرار”! ولكننا نعتقد، ربما مثله، أن هذه “الحكمة” ليست من خصال معظم حكام العرب.
وما نختلف معه فيه هو هذا “التنميط” لـ”العربي” كـ”مخلوق” لا يحرّكه إلا “لاوعي الإنتقام من جرح الهزيمة” مع إسرائيل! وفي هذا التنميط “يأس” من “العرب” (هل العرب “شيء” ثابت لا يتغيّر و”لا تاريخي” وغير قابل للتنوير؟) قد يصل إلى “العنصرية”!
سقوط الأنظمة، بنظرنا سيسقط وهم “”ممانعة” من نوع آخر: “ممانعة” الأنظمة ضد الأصولية الإسلامية! بعد السقوط سيُفتَح المسرح التاريخي لكل أنواع السيناريوات. ولعل الأفضل بينها يكون أمامنا.
بيار عقل
*
“لا مدعاة للضحك ولا للبكاء بل للفهم” سبينوزا
ما يجري من أحداث ظاهرة على السطح هو زَبَد البحر. لا يخاطب في الفاعلين للأحداث والمكابدين لها والمتفرجين السلبيين عليها إلا الغريزي والإنفعالي. إلا الآني، أما الدّماغ المعرفي، أما العقل التّحليلي البارد الذي يهتم بما يحرك ديناميك الأحداث، فمكانه، بين الدماغين الغريزي والإنفعالي المُشتغِلين بكل طاقتهما، هو مكان الأيتام على مائدة اللئام. مهمة هذا الدماغ التحليلي هو محاولة البحث عن الخيط الناظم للأحداث التي تبدو مشتّته، هي محاولة رصد معالم موج الأحداث المتدفق التي ليست إلا تدشينا لمسار تاريخي يجري أمامنا لكن لا أحد – باستثناء الأنبياء وما أكثرهم ! – يرى مجْراه ومَرْساه.
هذه هي الخلفية الفكرية التي أكتب بها هذا النداء، الذي هو توطئة لـ “رسائل تونسية” أحاول فيها فهم – بداية فهم على الأقل – لما جرى ويجري في تونس، وتوقع بعض – أقول جيّدا بعض – احتمالاته المتناقضة.
أيها الحكام أعرف أنكم متعودون على قراءة التقارير السهلة والمختصرة. إذن أقول لكم باختصار وأترك لقرائي قراءة باقي النداء : إنكم تواجهون عاصفة، انتفاضة – ثالثة – ظافرة؛ إنكم في الساعة الخامسة والعشرين التي يفوت معها كل إنقاذ. القرار الوحيد والشجاع حقّا هو الفرار منذ أول مظاهرة جدّية وبلا إراقة قطرة دم واحدة. لماذا؟ لأنه كلما طال الصراع مع شبابكم المتميّز غيضا وغضبا تجذّر واتّسع وتعاظمت حظوظ الإحتمالات الكارثية التي قد يسفر عنها بعد رحيلكم كارهين. فليكن شعاركم الوحيد : “بيدي لا بيد عمرو”. الشجاعة أيضا هي أن يعرف القائد البعيد النظر كيف يفرّ من هزيمة محتومة للحدّ من الخسائر. إصراركم على شجاعة اليأس سيعطي شرعية لأكثر الشعارات راديكالية ولأكثر خصومكم تطرّفا. قراركم برفض المقاومة اليائسة، المدمّرة لمستقبل بلدانكم سيكون أفضل وآخر هدية تقدمونها لشعوبكم وأفضل ذكرى سيذكرها لكم – مع إيجابياتكم الأخرى – مُؤرّخو أجيال الغد.
هل ستكون بلدانكم بعدكم أفضل؟ ربّما، ولكنها احتمالية تبدو اليوم متدنّية في المستقبل المنظور. الإحتمالات الأسوأ هي التي تلوح في الأفق : حكومات أقصى اليمين الإسلامي السياسي مع الفوضى، حكومات عسكرية أكثر سلطوية، أو – وهذا الأدهى – فوضى عمياء على الطريقة الصومالية تجعل بلدانكم غير قابلة للحكم ingouvernables، أو حكومات بين بين قال عنها شاعر عباسي شهد اهتزاز الإستقرار في عصور انحطاطنا:
“ذهبت آفات حرنا في أسمائها وأتت آفاتٌ ما لهُنَّ أسامي”
يقال أن الرئيس مبارك كان مُصرّا على الصمود قائلا: “أنا لست بن علي”. ويا ليته كان. لكانت الخسائر إذن أقل فداحة وحظوظ نجاح فترة الإنقال أكثر. لحسن حظ مصر أن عندها جيش قوي ومطاع حتى الآن – يا حيّ يا قيّوم اجعل ها الحالة تدوم-، تولى قيادة مرحلة الإنتقال وربما الإعداد الجيد والخفي لما بعد الإنتقال، وهي التي ستكون حاسمة. فوّتت تونس هذه الفرصة : تحالف الجيش والأمن الداخلي على الإشراف، بحكومة مدنية، على فترة الإنتقال والإعداد الجيد لما بعد الإنتقال لوقاية تونس من مسار ومصير مخيفين.
أيها الحكام، انسحابكم السريع من مسرح الأحداث يُسهّل المصالحة الوطنية، التي هي في نظري، إمكانية ثمينة لحكومة إيئتلافية واسعة ممثّلة للطيف السياسي والإجتماعي بجميع نخبه سواء من عمل منها في ظل حكمكم ومن لم يعمل – أو أقصيتموه وهذه واحدة من أفدح سلبياتكم – فالحكومات ما قبل الديمقراطية يُفترض فيها، لتوفير الإجماع الوطني الضروري للإستقرار، إشراك جميع النخب – خاصة في بلدان تشكو من نقص النخب – في تدبير مؤسسات الدولة والتقاسم العادل للإمتيازات بين النخب والطبقات والجهات…
لم تتوقعوا وما زلتم لم تفهموا ما حدث لكم. اطمئنوا لستم وحدكم. السفارات الأجنبية في بلدانكم والمخابرات الغربية، المتخصصة في رصد دبيب النمل فيها، هي أيضا لم تتوقعه ومازالت لم تفهم لماذا تنتقل الأحداث من بلد إلى آخر بسرعة البرق. المنجّمون يفسّرون ذلك. خرافيا باقتران زُحل مع كوكب كذا … حسب المعطيات الإقتصادية ما حدث لكم ما كان له أن يحدث : تونس تحقق منذ 15 عاما معدّل تنمية غير مسبوق : 5٪ ومصر تحقق منذ 2004 معدل تنمية : 6٪ غير مسبوق هو الآخر في تاريخها الحديث حيث تفوقت دائما معدلات النمو السكاني على معدلات النمو الإقتصادي.
الإنتفاضات والثورات كانت وما زالت تطرح على دارسيها أسئلة أبو الهول: لماذا تندلع دائما فجأة “كرعد من سماء صافية الأديم” كما قال فيكتور هيغو عن انقلاب لويس بونابارت، وكيف تنتقل انتقال النار في حقول الهشيم؟ تنتقل بتأثير قانون المحاكاة Mimétisme؛ هذا القانون هو الذي يفسر أيضا انتشار الموضة في بلدان عدة في وقت واحد أو في أوقات متقاربة. خوفا من محاكاة الشباب الصيني لمشاهد الإنتفاضة المصرية، حذفت الحكومة الصينية من شبكات الإتصال اسم مصر. (يعتقد حكام الصين، عن معلومات أم عن بارانويا؟ أن واشنطن ترمي، من تشجيع مسلسل الإنتفاضات العربية وفي إيران، إلى تفكيك الدولة الصينية إلى دويلات متنافسة لقطع الطريق على تفوق الصين عليها في المستقبل المنظور، وذلك بإعادة شياطين انتفاضة 89 إلى ذاكرة الشباب الصيني).
قانون المحاكاة هو الترجمة الإجتماعية لـ “خفقة جناح البعوضة” في خليج الصين التي تثير زوبعة في خليج كوبا في نظرية الفوضى chaos الفيزيائية. هكذا يمكن فهم محاكاة انتحار محمد بوعزيزي حرقا بالنار غداة وقوعه في خمسة بلدان عربية على الأقل؛ وكان الصاعق الذي فجّر الإنتفاضة التونسية والمصرية والبقية تأتي. فلماذا يصعب توقع اندلاع الثورة؟ أو كما تقول روزا لوكسمبور : “الثورة لا يمكن التنبؤ بها ساعة واحدة قبل اندلاعها” : في اشارة للثورات الأوروبية في القرن 19 وبدايات القرن 20. لاحظ ماركس أن الثورة أحيانا ضرب من “الجنون” : فقد حذّر صانعي كومونة باريس (1871) من الثورة على الحكومة البرجوازية الوليدة بعد سنوات طويلة من دكتاتورية عسكرية : “من الجنون، قال، مهاجمة الحكومة البرجوازية”، ناصحا لهم باغتنام المناخ الديمقراطي الجديد لتنظيم أنفسهم بدلا من الهدف المستحيل: قلب الحكومة البرجوازية. لكن الجموع الهائجة والمنقادة بلا هوادة لمزاجها المتقلب ردت عليه، بلسان حالها: من الجنون عدم محاولة قلب الحكومة البرجوازية.
عالم الإجتماع الفرنسي ريمون آرون R. Aron رأى في ثورة الشباب (مايو 1968) جنونا جماعيا قائلا : “الثورة هي هجوم الجنون في التاريخ”. كلمة “الجنون” عند ماركس وعنده دقيقة: الإنتقال من الهمود والخمود إلى الهياج والإبتهاج هو ما يسميه الطب النفسي “الذُّهان [= الجنون] الهوسي – الإكتئابي La psychose maniaco-dépressive الجماعي.
الذهان هو العامل النفسي الكامن وراء الثورات التي تفاجئ الجميع بمن فيهم صانعيها أنفسهم. هذا ليس حكم قيمة بقدر ما هو معاينة لواقعة تاريخية؛ جزء مهم من تاريخ البشرية صنعه المهووسون أفرادا أفْذاذا وجماعات هائجة. فما هو هذا الذهان؟ هو حالة نفسية فردية أو جماعية تعبر عن نفسها بالمراوحة بين طورين: طور نوبات الهوس [= الهياج والإبتهاج] وطور نوبات الإكتئاب [= الهمود والخمود] يصيب خاصة الشباب من بين 18 و 40. المعدل الوسطي لسن المهووسين هو 30 عاما. في طور نوبات الإكتئاب، يسقط المكتئب في بئر بلا قاع، يجتر هذيان نهاية العالم، الملازم للأنبياء، وخاصة نهايته هو نفسه الوشيكة، يتهم نفسه الأمّارة بالسوء، تعذبه الأفكار الحزينة والأفكار السوداء الإنتحارية. سرعان ما ينتقل من الفكرة إلى الفعل عند أول صدمة نفسية كقطيعة مع محبوب أو خطيبة أو شجار عائلي حاد يشعره بأنه غير مرغوب وغير محبوب؛ الإنتحار يبدو للمكتئب حلاّ مثاليا للنزاع بين ذاته وبين العالم الخارجي لأنه يقضي على الطرفين معا؛ التصرفات غالبا انتحارية لا تقرأ حسابا للعواقب، الرغبة في الموت عارمة لأنه يبدو للمكتئب كدواء نهائي لآلامه النفسية المبرّحة وشعوره الساحق بالذنب واتهامه الدائم لذاته. وهذا ما يجعل الإنتحار سهلا ودراماتيكيّا، أي مسرحيّا مؤثّرا. أما في طور نوبات الهوس، التي ينتقل إليها المكتئب كدفاع لاشعوري ضد الإكتئاب واحتجاج عليه، يغيب التفكير المنطقي لحساب تداعي الألفاظ والشعارات المسجوعة السهلة التي لا رابط بينها؛ يطغى جنون العظمة على الواقعية، على قراءة موازين القوة؛ كتب أحد زعماء الإسلاميين : “لا يجب أن نقيم وزنا في صراعنا مع عدونا لموازين القوة بل لإرادة الله سبحانه الذي ينصر من ينصره”. وهكذا يعيش المهووس، فردا أو جماعات، حالة نفسية، شبيهة بالمخدر، تُفقده الشعور بالمستحيل. لا شك أن نابليون كان يكابد هذه الحالة عندما قال: “المستحيل ليس فرنسيّا”. المنتفضون يقولون لكل واحد منكم، بلسان الحال ولسان المقال، المستحيل ليس شبابيّا: ارحل، ارحل، ارحل إلى غير رجعة!
التاريخ النفسي-السياسي للنزاع العربي الإسرائيلي منذ 1947، تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، هو تاريخ المزاج العربي المتقلب بين الهوس والإكتئاب، الذي ظل منذ 54 عاما يصنع تاريخ الشرق الأوسط المضطرب دافعا الضباط الشباب في الجيوش لصنع الإنقلابات والشباب لصنع الإنتفاضات والثورات. بعد خيبة الآمال العريضة أو الهزيمة الجارحة يدفع الجموع إلى الإكتئاب، إلى السُّبات، إلى الهمود والخمود. وهكذا دواليك.
ما جرى ويجري اليوم هو العاقبة الوخيمة لعدم حل النزاع العربي الإسرائيلي سلميّا؛ الرغبة الهوسية في الإنتقام لجروح الهزائم عفّنت الوعي العربي الإسلامي الجمعي برُهاب اليهود الهستيري بقدر ما هي عاجزة عن تحقيق أي انجاز يقرّبها من هدفها النهائي؛ وعفّنت، إلى حدّ خطير، الوعي اليهودي الإسرائيلي باليأس من السلام مع عرب كلّ زادهم ثقافة كراهية اليهود السقيمة والعقيمة.
في 47، دفع الهذيان اللفظي جموع المتطوعين من كل البلدان العربية للمشاركة في الجهاد ضد اليهود الذي أعلنته الدول العربية كرد على قرار التقسيم الأممي الذي أعطى العرب 45٪ من فلسطين. كانوا على يقين أعمى بالإنتصار ففاجأتهم الهزيمة على غير انتظار. كانت صدمة. انطبعت هزيمة 47 في اللاشعور الجمعي كحداد دائم على فقد كائن عزيز : فلسطين. سبّب ذلك للشباب العربي، الذي حشا التعليم الديني دماغه بثقافة رُهاب اليهود الذين وصفهم القرآن بأنهم “أشدّ عداوة للذين آمنوا” وحمّلتهم الأسطورة “التاريخية” جريرة “الفتنة الكبرى” التي ولّع شرارتها “ابن السوداء”: عبد الله بن سبأ اليهودي. وهكذا بعد الهوس بالنصر الوشيك، سقط الشباب في الإكتئاب، متسلّيا بأسطورة أن الهزيمة هي هزيمة الأنظمة التي خانت جيوشها عندما زوّدتها بالأسلحة الفاسدة التي كانت تنفجّر في الجنود الذين يطلقونها … عندما بدأ شباب الضباط انقلاباتهم على “الأنظمة الفاسدة” وجدوا المناخ ملائما. فعاد الهوس بقدرة الجيوش على تحرير فلسطين بالأسلحة غير الفاسدة. عززت الوحدة المصرية-السورية وهم الكماشة العسكرية لسحق إسرائيل في رمشة عين. لكن سقوط الوحدة المصرية-السورية (1961) صبّ دوش باردا على الرؤوس الساخنة. بل وطرح تساؤلا جديّا عن إمكانية الوحدة العربية نفسها. لكن انقلاب اليمن (1961) واستقلال الجزائر (62) أنعش الآمال الخائبة في الوحدة وردّ الروح للهوس مجدّدا بحتمية النصر على إسرائيل. حكى لي الزعيم القومي العربي اللبناني، محسن إبراهيم، قصة وعْد المارشال عامر لعبد الناصر عشيّة حرب 67 بحضوره. قال المارشال معلّقا على تعيين موشي ديّان وزيرا للدفاع في الحكومة الإسرائيلية: “يا ريّس، بعد أسره سأضعه في عربة حنطور لتتفرّج عليه القاهرة …”. محسن إبراهيم الذي كان آن ذاك، مثلنا جميعا، الشاب العربي الحالم بنصر يضمّد جرح هزيمة 47 أمام “العصابات الصهيونية” خرج من الإجتماع مع ناصر وعامر قبل الحرب بيومين و”رأسه في السماء” كما قال. ثم كانت الهزيمة غير المنتظرة فسقطنا شبابا وشيبا في اكتئاب عميق. لقد انهار آخر وهم: تحرير فلسطين بالجيوش العربية المسلحة بأسلحة “غير فاسدة”. وهكذا دفنت “أم الهزائم” وهمين كبيرين داعبا المخيال العربي منذ حرب 1947: حتمية الوحدة العربية وحتمية تحرير فلسطين. “معركة الكرامة” في الأردن (1968)، التي حققت فيها المقاومة الفلسطينية بقيادة عرفات، متعاونة مع الجيش الأردني، نجاحا على الكتيبة الإسرائيلية، خلقت وهما جديدا: حتمية تحرير فلسطين بالحرب الشعبية كبديل لحرب الجيوش التي خيّبت آمالنا بهزيمة 67. انتصار حرب التحرير في الجزائر ومعارك الحرب الشعبية الفتنامية الظافرة مع الجيش الأمركي غذّيا بقوة هذا اليقين الأعمى. ثم جاءت هزيمة المقاومة الفلسطينية في “أيلول الأسود” (1970) أمام الجيش الأردني ثم هزيمتها في بيروت (1982) أمام الجيش الإسرائيلي وتسفير قياداتها وكادرها إلى تونس لتنسف هذا اليقين وترسل بالشباب العربي إلى طور الإكتئاب.
في ما يخصني داعبني، بعد معركة الكرامة وهم آخر: استخدام المقاومة الفلسطينية كَسِنان رُمح لثورة عربية شاملة تُسقط جميع الأنظمة العربية لتُقيم على أنقاضها حكومات شعبية ديمقراطية تعرف كيف تقول ليهود إسرائيل بخطابها وانجازاتها: تخلصوا من القيادة الصهيونية وتعالوا لنحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لنعيش معا في شرق أوسط مسالم، عادل، مستقر ومزدهر … درس هزيمة 67 علّمني أن أنسى الحرب، نظامية أو شعبية، كحلّ للنزاع العربي الإسرائيلي. كنت أنتظر ثورة شعبية علمانية، فباغتني التاريخ بانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية؛ أدركت فورا أنها ستكون لها آثار فتاكة في العالم العربي. فغيرت الإتجاه 180 درجة: المساندة النقدية للأنظمة العربية الحديثة أو شبه الحديثة – عدا الأنظمة الخليجية التي كانت آنذاك لا تقل مساندة للحركات الإسلامية من إيران – لتشجيعها على التقدم إلى الحداثة أكثر فأكثر عسى أن تقطع الطريق على الثورة الإسلامية أو، على الأقل، تؤجلها لتتمكن القوى الحية في مجتمعاتنا من تحصين قطاع من السكان ضد هذيانها الديني … لم يعد بإمكاني النشر في بيروت إذْ لا أحد بإمكانه تصحيح ما أكتب لسوء خطي، فشرعت في كتابة الرسائل للحكام العرب الذين أتوسم فيهم ميلا إلى الحداثة لتشجيعهم.
جرحت هزيمة المقاومة الفلسطينية في “أيلول الأسود” (1970) أمام الجيش الأردني وهم تحرير فلسطين بالحرب الشعبية.
حرب أكتوبر 73، عبَر فيها الجيش المصري القناة وحطّم خطّ برليف ووصل فيها الجيش السوري إلى صفد، أعادت الشباب العربي إلى طور الهوس بالنصر على إسرائيل. لكن انتصار الجيش الإسرائيلي في النهاية على الجيوش المصرية والسورية، وقف إطلاق النار ثم سلام كمب دفيد، دقّ المسمار الأخير في نعش حلم تحرير إسرائيل بالحرب النظامية. ثم جاءت هزيمة المقاومة الفلسطينية في بيروت (1982)، أمام الجيش الإسرائيلي وتسفير قياداتها وكادرها إلى تونس، فعمقت جرح هزيمتها في “أيلول الأسود” (1970) أمام الجيش الأردني. مرة أخرى يعود الشباب العربي إلى طور الإكتئاب. لكن الوهم كان جريحا ولم يكن قتيلا، فعاد مع “انتفاضة أطفال الحجارة” التي أثارت تعاطف وإعجاب الإعلام العالمي ونزعت الشرعية عن الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين المحتلة في 1967. ضمُّ صدام حسين الكويت في 1990 أعطى الشباب العربي جرعة هوس غير مسبوقة. تلقّى اللاشعور الجمعي العربي، خاصة في فلسطين والمغرب العربي، “تحرير” الكويت من آل الصباح وشعبهم كمقدمة منطقية لتحرير صدام لفلسطين بـ “المزدوج الكميائي”. اكتشف الجميع، تحت تأثير الهستيريا الجماعية، أن النبيّ تنبّأ بحتمية انتصار صدام. وأن ابن عربي قال فيه شعرا واعدا بنصره. وعثر الجميع، من الأردن إلى المغرب، على الشعرة الشهيرة في سورة البقرة كعلامة على النصر … هزيمة صدام في “أم المعارك” أعادت الجميع إلى طور الإكتئاب. فجأة اندلعت الإنتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، إسما ومسمّى. أدخلت لأول مرة سلاحا جديدا اعتقد الكثيرون أنه قنبلة الفلسطينيين والعرب النووية : الحزام الناسف الذي ينسف الإستشهادي الفلسطيني وضحاياه من الإسرائيليين. مَرْأى الإسرائيليين يتساقطون كالذباب في العمليات الإنتحارية ألهب الحماس والهوس. لأول مرة يحمل الفلسطينيون الحرب إلى قلب العدو، ويضربونه حيث يحسّ بوجع الضربة، ويحتقرون الموت. ويحتقرون الحياة، حياتهم وحياة أعدائهم … كل ذلك جعل العرب، جمهورا ونخبة، يستثمرون بإفراط في الإنتفاضة الثانية كل طاقاتهم الوجدانية ويعقدون عليها الآمال لتحقيق جميع أحلامهم المغدورة وفي مقدمتها النصر النهائي على إسرائيل التي أذاقتنا كأس الهزيمة طويلا. الفيلسوف المغربي، الجابري، عبّر عن هذا الهوس قائلا: “الإنتفاضة علّمتني ما لم أكن أعلم”، علّمته كيف سيقضي الحزام الناسف على إسرائيل، زايد عليه مطاع صفدي: “ستُحرّر الأمة العربية، بالإنتفاضة البشرية، من الصهيونية والإمبريالية ..”!
هزيمة الإنتفاضة الثانية وتلاشي الأوهام التي طُلب منها تحقيقها أرسلا الشباب العربي وبأي عنف إلى طور الإكتئاب.
أيها الحكام، الإنتفاضة التي بدأت في تونس تتضافر القرائن على أنها ستكون ظافرة، لأن هدفها داخلي ونسبيا سهل: تحرير كل بلد عربي من رئيس دولته ومعاونيه. إنها تحاكي استشهاديي الإنتفاضة الفلسطينية الثانية في احتقار الموت. محمد بوعزيزي وهو يصبّ على ثيابه البنزين ويشعل عود الكبريت يقلّد لاشعوريا الإستشهادي الفلسطيني وهو يضغط على زرّ الحزام الناسف. الهدف الحقيقي اللاشعوري لهذه الإنتفاضة هو أخذ ثأر هزيمة الإنتفاضة الفلسطينية الثانية منكم. أنتم في لاشعور معظم المنتفضين بديل “المحتل الإسرائيلي” الذي فشلت الإنتفاضة الثانية في طرده من الأرض المحتلة. وطردكم من كراسيكم ومن بلدانكم هو، لاشعوريا، مساوي لطرد المحتل الإسرائيلي، تخييلا، من الأرض المحتلة … وإذا لم تكن إبِلاً فمَعْزى كما يقول امرؤ القيس، بالتأكيد، الظروف الموضوعية تختلف من بلد إلى آخر. الوعي يفهم هذه الظروف ويقرأ لها حسبانا. لكن اللاوعي لا يعيها ولا يعيرها اهتماما. قانون المحاكاة اللاشعوري قد يجعلها انتفاضة شاملة وظافرة. قد تمتد إلى الملوك أيضا!
بعد ندائي للمثقفين المغاربة “الجمهوريين” ليكونوا حزب الملك محمد السادس كسدّ أخير أمام طوفان أقصى اليمين الإسلامي. فكرت أيضا في نداء ثان إلى تحويل الجمهوريات الوراثية إلى ملكيات. الجمهورية تعريفا تعني تداول المهام، تحويلها إلى وراثية هو، كما يقول المناطقة : “تناقض في الحدود contradiction dans les termes” استفزازي. نقلها إلى ملكيات يعطيها شرعية المملكة، إذن استمرارها خاصة إذا تخلى الملك لرئيس وزرائه عن القرارات الثانوية مُكتفيّا بحق الإشراف على القرارات الأساسية التي تصنعها معاهد صنع القرار. ترياق الإستبداد الشرقي هو صناعة القرار بالعلم بعد أن كانت تصنعه الإرادوية volontarisme الفردية الهاذية غالبا. لكن الملكيات العربية هي الأخرى في حاجة عميقة إلى الإصلاح لتأمين الصناعة العلمية للقرار والإستقرار وبناء دولة القانون ليس هنا مكانه المناسب.
التنازلات الظرفية المتأخرة لن تقطع الطريق على الأرجح على الإنتفاضة. التنازل الوحيد المطلوب منكم هو التنازل عن كراسيكم. النابه فيكم هو من ينظّم قراره كما فعل الرئيس مبارك بتسليم اختصاصاته إلى الجيش ليشرف على فترة الإنتقال وربما – قد يكون له إذا نجحت التجربة – القدرة على رقابة شبه خفية لعمل الحكومة المنتخبة حتى لا تقطع مع دور مصر الإقليمي، الذي كان دائما دور الوسيط، ولا مع التزاماتها الدولية. أما الإنتقال على غير هُدى كما في تونس فقد يكون انتقالا إلى المجهول. كان من الضروري نقل سلطات الرئيس بن علي إلى قيادتي الجيش والأمن لمنع تفكيك الدولة التونسية بالعصابات المسلحة والمافيا والنزاع بين الجهات وتمرّد كل إدارة على مديرها لعزله أو لرفض بديل عنه. حتى الآن عزل موظفو وزارة الخارجية وزيرين ويحتجّون على تعيين الثالث بالرغم من أنهم جميعا ذوو كفاءة. في الدول الحقيقية أساسيات النظام باقية. ما يتغير هو أسلوب إدارة النظام.
المهووسون هم عادة ثوريون هواة. والأجيال الصاعدة هي التي ستدفع ثمن أخطاء الثوريين الهواة من مستقبلها. هل سيكون بإمكان المهووسين العودة لا إلى الإكتئاب بل إلى العقل؟ كم أتمنّى ذلك.
* الناشر لا يحبذ إثبات تاريخ كتابة المقال الضروري خاصة في وضع تسارع فيه التاريخ إلى الدرجة القصوى. لذلك، إذا وجد القارئ أن بعض المعطيات قد تقادمت فليعلم – وللضرورة أحكام – أن وقتا طويلا مر بين تسويد المقال وتبييضه وكتابته بالكمبيوتر وتصحيحه ونشره. فالمعذرة.
المقال الثاني : هل سيكون خلفاؤكم أفضل منكم؟
نداء إلى الحكام العرب: القرار هو الفرار
العفيف الاخضر ليتك تعود الى نايف حواتمة وتريحنا فعلا انت ومجموعة دانيال بايبيس من ترهات الثقافة التي كانت تجلس في حضن اعتى الديكتاتوريات وهي تنظر لليبرالية غريبة وعجيبة حتى شوهتم معنى الدولة المدنية ومفردة العلمانية بحق فكما ال سعود بالنسبة لبعضكم هو هواء المال وملاذ الفكر فانتم بصراحة خضتم ضد الشعب العربي مع اليمين الاميركي المحافظ ما هو عار على الثقافة.. فارحموا عقولنا رجاءا