حين كُـلّف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة بعد إطاحة المعارضة السابقة بحكومة الرئيس سعد الحريري، سعى إلى الإيحاء بأنه لم يعط <أي تعهدات أو ضمانات> للجهة التي أوصلته بل أخذ منها <ضمانات>، فُهمَ أنها ضمانات لإطلاق يده في عملية التأليف وعدم محاصرته بشروط تعجيزية·
كان طبيعيا أن يطلب ميقاتي ذلك، وهو الذي خَبِرَ منذ أن دخل المعترك السياسي العوامل المؤثرة في مخاض ولادة الحكومات اللبنانية، ولا سيما تلك الحكومة التي ترأسها عام 2005 وما تلاها من حكومات أعقبت الخروج السوري العسكري من لبنان.
يُدرك الرئيس ميقاتي الذي شارك أيضاً وزيراً في العديد من الحكومات أيام الوصاية السورية، أن لدى المجتمع الدولي
مقاربة خاصة للبنان قد لا تنطبق على غيره من دول المنطقة، ولا سيما منذ دخول رجل الأعمال رفيق الحريري عام 1992 الحكم رئيساً لأول حكومة أفرزتها الانتخابات النيابية بعد إقرار <إتفاق الطائف> الذي شكّل تسوية سياسية داخلية- إقليمية – دولية لخروج لبنان من الحرب الأهلية· فالحريري نجح في دفع المجتمع الدولي إلى تفهّم الوضع الخاص للبنان، حتى بات هذا المجتمع، منذ ذاك التاريخ وحتى اليوم، على اقتناع تام بأن لبنان بلد مغلوب على أمره بفعل تشابك عوامل ومصالح إقليمية عدة على أرضه أفادت من تركيبته المذهبية والطائفية والمجتمعية· وكان المجتمع الدولي يتماهى مع القدرات المحدودة لمسؤوليه وإمكاناتهم السياسية من دون أن يمارس ضغوطاً يدرك سلفاً ان لبنان ليس في مقدوره تحمُّلها·
ذاك التفهم يطمح ميقاتي إلى أن يحظى به من المجتمع الدولي ولا سيما من واشنطن وباريس، على غرار ما حظي به الحريري الأب ثم الحريري الابن – في رأي أوساط واسعة الاطلاع في المعارضة الجديدة. ولكن السؤال هو ما إذا كان المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة وفرنسا، سيُغيّر من نظرته للوضع اللبناني اليوم مع الرئيس المكلف وحكومته المزمع تأليفها؟·
لا تبدو الإجابة على هذا التساؤل تحمل في طياتها ملامح مطمئنة لأسباب عدة أهمها:
– إن الرئيس المكلّف جاء نتيجة لخرق تفاهمات أميركية – إيرانية – سورية حيال لبنان· وهي كانت جزء من تفاهمات أوسع في المنطقة لم تعد سراً في واشنطن أو غيرها من العواصم· ويعزو مستشار لجنة مكافحة الإرهاب في الكونغرس الأميركي وليد فارس هذه التفاهمات إلى تأثير عدد من المستشارين في الإدارة الأميركية خلال العامين الماضيين على قرار البيت الابيض بألاّ يذهب هجوماً في علاقاته مع ايران وسوريا، بل التراجع إلى المنطقة الوسط· ويحلو له بأن يشبه هذه التفاهمات بـ <اتفاق يالطا> الإقليمي، على غرار <اتفاق يالطا> الدولي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية والذي رسم حدود نفوذ كل من المحورين في فترة الحرب الباردة· وفي رأيه أن قرار الإدارة الأميركية كان خاطئاً منذ البداية لأن الطرف الآخر هو طرف عقائدي ولديه طموحات كبرى في المنطقة ككل· وقد أدركت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ الخريف الماضي هذا الخطأ بعدما خرقت إيران كل التفاهمات من العراق مروراً باليمن فشرق الجزيرة وصولاً إلى لبنان وحتى أفريقيا· وهي بدأت تتشدد في مقاربتها الجديدة، وإنْ ضبطت إيقاع إجراءاتها في ملاقاة الواقع العربي الجديد في ضوء الثورات المتدحرجة· هذا التشدّد مرشح للتصاعد مع إنهاء الكونغرس الأميركي آلية عمله الداخلي وجهوزيته للضغط على الإدارة لاتخاذها مواقف أكثر تصلباً حيال المشاريع الإيرانية في المنطقة·
– إن الرئيس المكلف رغم نجاحه في صوغ شبكة علاقات عربية ودولية خلال الأعوام الماضية، لم يستطع أن يُبدّد الاقتناع السائد لدى مراكز القرار الكبرى أنه خرج من فلك المنظومة السورية، لا بل هو وليدها في السياسة، وربما اقترب من تقاطعاتها مع المنظومة الإيرانية·
– إن الظروف التي أحاطت بتسميته رئيساً وضعته منذ اليوم الأول في مواجهة المجتمع الدولي، وإن كان هذا المجتمع قد منحه فترة سماح طبيعية، مردها إلى المسار الشكلي الدبلوماسي في العلاقات بين الدول، كون عملية التكليف اكتسبت طابعاً دستورياً ولو ملتبساً، بمجرد مشاركة القوى السياسية المعارضة لما سُمي بــ<الانقلاب الأبيض> في الآلية الدستورية لعملية التكليف·
– إن المعارضة الجديدة المتمثلة بقوى الرابع عشر من آذار، والتي هي حليف طبيعي للمجتمع الدولي الذي وقف إلى جانبها في معركة استعادة سيادة لبنان واستقلاله، قد سحبت الغطاء السياسي عن القوى المنضوية تحت المظلة السورية – الإيرانية، والحاملة لأجندة سياسية ذات أبعاد إقليمية بلباس وطني· فحركة 14 آذار التي أمّنت سابقاً غطاءً سياسياً لحزب الله وسلاحه، وهو غطاء أعاق بشكل عملي تنفيذ القرارات الدولية الآيلة إلى بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، قد اتخذت موقفاً أكثر وضوحاً في معركتها السياسية راهناً، مما يكشف الحكومة المقبلة في قدرتها على حماية ازدواجية السلاح ودوره·
– إن العنوان الذي رفعه <حزب الله> للإطاحة بحكومة سعد الحريري والمتمثل بالمحكمة الدولية يشكّل ركناً من الأركان الأساسية لدى السياسية الخارجية للإدارة الأميركية، ويحظى بدعم مطلق من الكونغرس الحالي، مما يعني أن أي قرار ملتبس يتضمنه البيان الوزاري حيال هذه المسألة لن يمر أميركياً وتالياً دولياً، وسوف تترتّب علية إجراءات متعددة الجوانب·
– إن قوى الرابع عشر من آذار، في معركتها دفاعاً عن المحكمة الدولية وإسقاط السلاح خارج الشرعية، سوف تلقى دعماً دولياً طبيعياً، بل إن نجاحها في تحقيق وقائع صلبة في هذا السياق سيدفع بالمجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات متقدمة تدعم تلك الخيارات·
فحين يتجاوز الرئيس المكلّف العُقد الداخلية المتمثلة بحرب <تقاسم الحصص> وتصفية الحسابات، وينجح في تأليف حكومته بوجوه ذات صدقية في حقائب سيادية هي تحت المجهر، فإنه سيكون أمام امتحان اجتياز البيان الوزاري الذي لا ينفع أن يكون شبيهاً بالبيانات الوزارية السابقة لأن تلك قد حظيت يومها بغطاء سياسي من الأطراف اللبنانية للمجتمع الدولي الذي كان متفهماً لخصوصية الواقع اللبناني، وهو غطاء لم يعد متوافراً اليوم·
ولعل التحديات التي تواجه لبنان في الآونة الراهنة تكمن في احتمال دخوله في واقع يشبه إلى حد بعيد واقع غزة، في ظل الاقتناع الغربي بأنه سقط في فلك <حزب الله> وسوريا وإيران، وفي ظل قرار واشنطن عدم التخلي عن لبنان كجبهة أساسية في مواجهة القوى الإقليمية المناهضة لها وللمجتمع الدولي، رغم أنه قد تراجع اليوم إلى الوراء في سلم الأولويات الاميركية لكنه، في رأي أوساط أميركية، مرشح للتقدّم إلى الحيّز الأمامي، إذا قررت المعارضة الجديدة في لبنان سلوك طريق المواجهة، وسيكون المجتمع الدولي برمته أيضاً إلى جانبها·
إزاء هذا الواقع، هل من حظوظ أمام ميقاتي لتكرار تجربة الحريري الأب والابن في خطب ود المجتمع الدولي واستمالته إلى <موقع المتفهّم>؟·
المعطيات في الداخل والخارج توحي بصعوبة المهمة وربما استحالتها، ولا سيما في ضوء التحوّلات العاصفة التي بدأت في المنطقة وتلفح سوريا وتضع إيران أمام وقائع إقليمية جديدة قد لا تكون في مصلحتها·
rmowaffak@yahoo.com