فليعذرنا نقّاد الاستشراق وخصومه إذا لاحظنا تعزيزاً جماهيريّاً كثيفاً لبعض ما قاله بعض المستشرقين وأُخذ عليهم. فـ «حزب التحرير الاسلاميّ» نجح في أن يجمع في العاصمة الاندونيسيّة جاكرتا ثمانين ألفاً يطالبون بإحياء الخلافة الإسلاميّة. وكانوا، للغرض نفسه، قد جمعوا في بلدة البيرة بالضفّة الغربيّة عشرة آلاف مُطالب.
طبعاً، لم يتنبّه المحتشدون الى إن إسلاميّي تركيا نفسها، وتحت وطأة التجربة المباشرة، كفّوا، منذ زمن طويل، عن طلب السلطنة، ولا تنبّهوا الى أن الهمّ المطروح على الفلسطينيّين، والذي يزداد صعوبةً، هو إقامة دولة فلسطينيّة صغرى، لا بعث سلطنة مترامية الأطراف.
مع هذا، يجوز التوقّع أن حزباً كـ «التحرير الاسلاميّ»، الذي يحتفي سنويّاً بـ «هدم مصطفى كمال أتاتورك لدولة الخلافة»، سيقوى ويعزّز مكانته الجماهيريّة ما بين فلسطين واندونيسيا، كما يجوز الظنّ بأن مطلباً كـ «إحياء الخلافة» سوف يكسب مزيداً من الانتشار والتوسّع. ذاك أنه في ظلّ انسداد الأفق المستقبليّ لا يبقى إلا الانغراز في رمل الماضي الميّت والعود، مثنى وثلاثاً، على بدء أوّل.
والحال ان الغضب حيال العالم المعاصر الذي تنعقد قيادته للغرب، والاستياء من ذاك التحوّل التاريخيّ الضخم الذي لا يد لأحد فيه، هما بعض عناصر تفسير الظاهرات التي نعيش راهناً، بما فيها الإرهاب. فالسعي وراء القوّة والمنعة هو ما يجعل إحياء الخلافة مطلباً، مثلما يقدّم سقوطها بوصفه انتقالاً نوعياً من الوحدة الى التجزئة ومن العظمة الى التردّي والانحطاط. وعلى هدي السعي هذا، ترتسم النماذج الفضلى للعيش أقوياءً في العالم المعاصر. لكن الوقوع على خيار السلطنة لا يدفع أحداً الى التذكير بأن تلك الدولة «القويّة» اضطرّها ضعفها الى «التنظيمات» والى دستور حكمت باشا قبل أن ينقلب عليه السلطان عبد الحميد، أو أن المهابة العسكريّة لتلك السلطنة لم تحل دون استيراد سكك الحديد والمدارس كلما عنّ لأهلها أن يتّصلوا ويتواصلوا أو أن يتعلّموا ويعلّموا أبناءهم. وفي النهاية، جاء الامتحان العسير للمهابة المذكورة في الحرب العالميّة الأولى، فحصل الانهيار في بؤرة القوّة ذاتها، ولم يفعل أتاتورك إلاّ ترجمة الواقع ذاك ومأسسته.
فاشتهاء النماذج تبعاً للقوّة التي تنطوي عليها، في معزل عن الاقتصاد والتعليم والصحّة، هو كمثل التعويل على الزندين فيما الرأس معطوب وباقي الجسم يترنّح. وحتى في حال كهذه لا بد أن ينعكس الضعف، عاجلاً أو آجلاً، على الزندين «القويّين» فيضعفان.
وهو ما نراه اليوم في حالة بلد كسوريّة لا يردّ إسمه إلاّ عند الكلام عن الحروب واحتمالها، و»المؤامرات» و»التصدّي» لها، أو بلد كإيران يقول وزير شؤونه الاجتماعيّة، عبد الرضا مصري، إن أكثر من تسعة ملايين من مواطنيه يعيشون تحت عتبة الفقر، يشكّلون، في ذاك البلد النفطيّ الغنيّ، 10.5 في المئة من سكّان المدن و11 في المئة من سكّان الأرياف. وإذ تقول الأرقام الرسميّة إن في البلاد ثلاثة ملايين عاطل عن العمل وتضخّماً وصلت نسبته الى 14.8 في المئة، يقدّر «مركز الأبحاث في البرلمان» نسبة التضخّم خلال السنة الماضية بـ 22.4 في المئة. وكانت ظهرت، قبل أشهر، تقارير تشير الى تراجع القدرة الايرانيّة على انتاج النفط بسبب تآكل التقنيّات المعتمدة وصعوبة الحصول على قطع غيار ونزيف الكفاءات… إلاّ أن هذا وذاك لا يهمّان الموعودين بقنبلة نوويّة!
الحياة