أمر تطورات الأحداث في الواقع العربي خلال أسابيع، لم يكن، من الناحية النفسية، حدثاً عادياً، كي نستطيع التعبير عنه بمقال حيادي عقلاني. كان مفاجئاً ومذهلاً، كان، كأن للأبوين ولد كبر على غفلة منهما. هتافات الناس في الشارع، أثارت الكثير من مشاعر الحنان، والذهول الأمومي، وبعض الندم الغامض، كما يحدث عادة مع الأمهات حين يكتشفن أنهن تأخرن لأمر ما.
مشهد مصر وتونس! لم يعد أرضاً جغرافية واسعة وملايين السكان، صارت هذه البلدان في العين، مناطق أسطورية وشعوباً أسطورية وشباباً شطّار، وحكايات واعدة بالكثير. الحدث كان إنسانياً بحتاً وليس سياسياً، هموم الناس متقاربة والتوق واحد، وبدون مصالح وخبث سياسي، تماماً كما يتمنى المرء للشأن العام أن يكون، شأناً حقيقياً، ويتعلق بأخلاق كل فرد على حدة.
بات لدينا مدائح وفرحاً متوثباً، قريباً ويخص ذاكرتي وظروفي الخاصة أيضاً، وهي وإن كانت تتقاطع مع معظم ظروف السوريين لكنها استيقظت بتفاصيلها مع مشهد الثائرين، ومنذ أيام الطفولة. فكانت هذه الثورات كبلسم سحري، وصرت كمن شفي ببضع أيام من أرق مزمن. الذاكرة سطعت، وثبت بالدليل القاطع أن شعور الذنب الذي يسيطر على كل إنسان من منطقتنا، ليس مسؤولاً عنه، كما يريدون له أن يكون، و أن تردد المواطن في قول ما يؤمن به، لم يأت خلقة ربه. تَجمّعَ المواطنون معاً وهدروا بأصواتهم، وعبّروا بإحساس وانسجام بديع في الشوارع. ورغم أن الثورات كانت في دول عربية لست قادمة منها، إنما اكتشفت أيضاً أن لدي غريزة عربية، بلغة عربية. وانتابني إحساس شاب ومراهق بأمل النصر ونزعة الفوز، محرض الحياة. أمر أُجبرت على إسكاته في داخلي منذ المراهقة، كأنه ليس من حقنا أي شيء. كانت الظروف السياسية ومانتج عنها، يعني أن نكبت كل ما لدينا.
كيف نفصل الظروف السياسية عن ظروفنا الخاصة؟ فالأب حين تتحطم تطلعاته ويشعر بالظلم والخوف على رزقه وأسرته، يتحول إلى أب نزق وشديد العزلة، ويوحي لأسرته في كل دقيقة أن الشارع يعني الحرب أوالتلوث. تصاب الزوجة بالخيبة، وتنشغل عن أولادها وإن اهتمت بهم فسوف تهتم بوجه حزين وفاتر، مما يبعث أيضاً على الإحباط المبكر عند الأطفال وتموت لدى الطفل بالتدريج همة العمل الطبيعية وشهوة التحصيل الصحية وحلم المستقبل المشروع، لأن هذا الكبير الأب أو الأم، ينبؤه من دون أن يقصد، أن المستقبل قاتم والكبار أناس محبطون ومهمومون ومهزومون.
قبل بدء عهود الاستبداد في سوريا ورغم الانقلابات وأوضاع فلسطين، لم يهيمن الاحباط حسب ما نشعره من استذكارهم، على العكس، ظل اهتمام الناس بالقضية الفلسطينية عفوياً وكانت حديث البيت، الكبير والصغير، والأغنية الوطنية كانت تسمعها الأم وهي تعد طعام الغداء، كان الاهتمام بالراحة وليس بالقوة.
الأم شابة غندورة، تدير على نشرة الأخبار وتدندن الأغاني الوطنية، وحين تسمع صوت مفاتيح زوحها قادماً، تقرص خديها وتهندم تنورتها وتهرع إليه ضاحكة.. كانت حركة الحياة وحيوية الناس وآمالها، لا تعني الا اهتماماً صحياً طبيعياً بالوطن وهمة للغد. كان اهتمامهم واقعياً، رضاهم السياسي وغضبهم نابعان من أنفسهم وليس من أمر فرض عليهم وأجبروا على افتعاله أوخُدِعوا به. كانت البنات يتبارين، بجمل وشعر وطني عن فلسطين، ومع الموسيقا والنشيد، كان إيقاع اليوم.
بعد بدء التشدد والاستبداد، اختلف شكل اهتمام الناس، صارت فلسطين على الأغلب قضية تدرس في مناهج المدرسة وواجباً يدخل في منهاج الوطنية، وليس إحساساً عميقاً فعلياً كما كان قبل بدء الاستبداد. وقبل أن ينجح الحكام في تجميد الناس على صفة واحدة وهيئة واحدة، طميشة على عيون المواطنين.
الغاية القول إن الانتماء للوطن وللعروبة، وللاسلام “لمن يشاء”، لا يكون صحيحاً وفعالاً إلا في جو نفسي صحيح، وشعور بالثقة والشجاعة، وحرية في الانتماء، وأوضاع حقيقية شفافة تحترم عقل المواطن.
ما جعل الأرق الطويل ينقشع في أيام خلال الثورات العربية، هو أنني تأكدت ان هذه الانظمة الديكتاتورية وجدت وتغذت من أجل جعل المنطقة مسكونة بشعوب منقسمة ومريضة، تذوب بالتدريج، وتذوب معها ثقافتها وتاريخها كله.
نعم، كنت استعدت أحاسيس أو ربما خلقت لدي أحاسيس لأول مرة أعيشها، أنه يمكن لإنسان منطقتنا أن يرفع الرأس، ولدينا حقوق يجب أن تستعاد، ولدينا آلام من حقنا أن نعلنها في وجه من لايشبعون من الاستبداد ولا يكلّون، وكلما رؤوا منا صمتاً وانشغالاً عن ذواتنا كلما زادوا في التعسف والعنجهيه.
ومثل كل مواطن، سيكون لمشاركته شأناً وقيمة، ليس مواطناً نكرة وعدداً زائداً. مواطن ليس قوياً وليس ضعيفاً، إنه موجود وله حقوق، إنما بواقع صحي حقيقي غير مخادع، فهل هذا في وطننا سوريا قريب من المنال؟
sarraj15@hotmail.com
مواطن ليس قوياً، وليس ضعيفاً، إنه موجود
مقال ساذج..وهذه الكاتبه تظهر بين الفينة والأخرى بمقالات سخيفه فقط لغاية إثبات وجود.