“من الذي يملك أوطاننا؟”
تساءل مفكرنا الجليل نصر حامد أبو زيد. وكاد ان يكون مندهشاً.
فهل اندهشتم؟
وأنا لن اردد السؤال من بعده. ولن أسأل. فالجواب نعرفه، أنتم وأنا. أمام أعينكم. فهل رأيتوه؟
ولإن لكل سؤال مقدمة، دعوني أقص عليكم الحكاية من بدايتها. بعدها إطرحوا السؤال على أنفسكم، لكن في صيغة أخرى. أسالوا أنفسكم: من يخش نصر أبو زيد إلى هذا الحد؟ وحينها ستفهمون.
البداية تعرفوها. خبر سمعتوه، بعد أن كررتها وسائل الإعلام: منعت سلطات الأمن الكويتية يوم الثلاثاء الموافق 16 ديسمبر مفكرنا الجليل نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت. كان مدعواً من قبل مركز الحوار للثقافة (تنوير) والجمعية الثقافية الأجتماعية النسائية ليلقي محاضرتين عن “الإصلاح الديني في الدولة الدستورية” و عن “قضايا المرأة بين آفق القرآن والفكر الفقهي”.
كان مقررأ ان يحاضر. فمنعوه.
منعوه رغم أن وزارة الداخلية الكويتية منحته تأشيرة دخول.
ولأن التأشيرة كانت على جواز سفره، سافر وهو مطمئن. ظن أنه يتعامل مع دولة ذات مؤسسات. وكنا نظن الكويت كذلك. لكن ظنه خاب عند وصوله إلى مطار الكويت.
لماذا منعوه؟
قالوا “منعناه حماية له”. قالوا إن الحكومة الكويتية، التي وفرت الحماية للرئيس الأمريكي السابق بوش بجدارة، غير قادرة على توفير الحماية الأمنية للمفكر المصري. وذّكروا بفتوى إهدار دمه الشهيرة. خافوا أن يتعرض لمحاولة إغتيال!
هل إبتسمتم؟ انا ايضا كدت ابتسم.
فالمذهل حقاً، ان من ردد هذا العذر (الذي لن اصفه)، توقع ان نصدقه.
كالنعامة تدفن رأسها في التراب وتنسى أن تغطي مؤخرتها. اليست كبيرة؟ المؤخرة، لا النعامة.
وصمتوا عن الجعجعة التي اثارها إسلاميون كويتيون، ينسى المرء اسمائهم من فرط تشابهم في اللفظ والفكر. من فرط إصرارهم على إقصاء الأخر. أياً كان هذا الأخر.
وصفوا مفكر القرن الواحد والعشرين ب”الزنديق”، و”الكافر”، و”الملحد”. وكلهم، اراهنكن، لم يقرأوا سطراً من كتبه. أعتمدوا على السمع. “طوبى للعقلاء، وغفر الله للببغاوات”، على حد قول مفكرنا الجليل.
لكن ألفاظهم كما ترون تتناسب مع فكرهم، وتعكس ببساطة متناهية رؤيتهم للعالم. ولذا، إسمعوني جيداً، لم يكن غريباً ان يصفوه هكذا. هل إنتبهتم؟ موقفهم لم يكن غريباً. هم إسلاميون، وفكرهم متطرف. هل نتوقع منهم أن يلاقوه بالأحضان والزهور؟
ولأن الأمر كذلك، فإن دعوتهم إلى منعه أيضا طبيعية.
هم يرون فيه عدواً. عدواً تمكن بجدارة من تعرية خطابهم الديني.
فمفكرنا عندما قال إن “النصوص الدينية تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر”، لم يفعل اكثر من أن سحب البساط من تحت اقدام هؤلاء الذي يعتاشون على ويرتزقون من الخطاب الديني، بعد أن حولوا النصوص إلى صنم يعبدوه.
لذا، أكرر، لم يكن موقفهم مفاجئاً. بل كان طبيعياً، بتماشى مع نسق فكرهم.
السؤال الذي يجب طرحه هو: إذا كان من الطبيعي ان يطالب إٍسلاميون بمنع دخول نصر أبو زيد إلى الكويت، فهل كانت إستجابة السلطات الحكومية لهذا الطلب مفاجئة؟
بعضكم سيرد بنعم، ويذكر بأن نفس هذه الجهات الحكومية سمحت بدخول المفكر محمد أركون الكويت العام الماضي.
وتحديداً هذه المقارنة بين نصرحامد أبو زيد ومحمد أركون هي التي تفسر التفاوت في موقف السلطة. وهي التي تظهر في الواقع أن منع دخول ابو زيد لا يجب أن يكون مفاجئاً، بل يتماشى هو الأخر مع طبيعة أنظمتنا الحاكمة.
المفكر الكبير محمد أركون كان ولازال مهموماً بدراسة النص الديني، والقرآن تحديداً، دراسة علمية، وبصورة نقدية تفكيكية، مستخدما في ذلك مناهج بحث علمية حديثة. تماماً كمفكرنا أبو زيد.
لكن الدكتور نصر حامد أبو زيد قرر في الوقت ذاته ان يعري المدلولات السياسية لتفكيك الخطاب الديني، معبراً عن إستقلاليته كمفكر ومثقف.
قرر أن لا يصمت عن الزواج القائم بين خطاب السلطة السياسية والخطاب الديني. قال ببساطة إنهما وجهان لعملة واحدة. كل يعتمد على الأخر، وكل يستمد بقاءه من الآخر.
هل نسيتم ما قاله في نقد الخطاب الديني؟
“إن دعوى إحتكار الحقائق، وما يترتب عليها من دعوى إحتكار القرار، تمثل الأساس النظري لمفهوم الحاكمية الديني، ولا يكتفي الخطاب السياسي بهذه الدعوى الخطيرة، بل يقرنها بدعوة لا تقل عنها خطورة من حيث قيام مفهوم الحاكمية عليها، تلك دعوى الصواب الدائم وعدم إقتراف أي خطأ. وتتبدى هذه الدعوى واضحة في تحميل الخطاب السياسي كل اوجه القصور والعجز في سياساته، بل وكل أزمات الواقع ومشكلاته، على أكتاف المواطن العادي…”
بكلمات بسيطة، لم يكتف نصر أبو زيد بنقد الإسلاميين، وتعرية خطابهم، بل إنتقد أيضا السلطة السياسية التي تعتمد على هذا الخطاب في تبرير بقائها حتى وهي تحارب الإسلاميين.
وهو ما يعني بداهة، أن أي حديث عن إصلاح ديني نسعى إليه في أوطاننا لا معنى له دون إصلاح سياسي مرادف له.
الأثنان يأتيان معاً.
نصر أبو زيد لم يمسك العصا من الوسط. وضع إصبعه على الداء، ووصف الدواء في الوقت ذاته.
ولأنه كذلك كان خطرأً، ليس فقط على الإسلاميين، الذين جعجعوا لغطاً، بل على السلطة التي منحته التأشيرة ثم أدركت أن محاضرة تجمع في عنوانها “الإصلاح الديني” “والدولة الدستورية”، ستعري عورتها. فغيرت رأيها.
لم يكن موقف السلطات الكويتية مفاجئاً.
تماماً كموقف الإسلاميين وحناجرهم الزاعقة.
في الواقع، المفاجأة الوحيدة والسارة، كانت في الموقف الملتزم المتحدي الراقي لمنظمي الندوة، الذي أصروا على عقد الندوة في وقتها، وأتصلوا بالمفكر نصر أبو زيد، الذي القى محاضرته على مدى ساعة كاملة. لسان حالهم:”حتى لو منعتوه من دخول الكويت، فصوته، ومعه فكره، معنا!”
إصرارهم وإصرارهن أظهر أن الأمل في الإصلاح قائم.
وإن الإنسان في أوطاننا هو حامل شعلة هذا الأمل.
فالإنسان، لا تنسوا، هو الحل.
الإنسان.
من يخشَى نصر أبو زيد؟
شكرا لك سيدة إلهام على مقالك الجميل وخاتمته الرائعة.