لم تعد هزيمة 5 حزيران 1967 مجرد هزيمة في معركة عسكرية.لقد اقتربت،بفعل السياسات الرسمية،أكثر فأكثر من هزيمة شاملة.فقد وظفت السلطة السورية الهزيمة العسكرية في إحكام السيطرة على المجتمع،وبذريعة طريفة:مواجهة الهزيمة ،وألقت بالشعب في موجة هابطة ما زال قرارها غير محدد النهاية إلى الآن.
لقد عكست الهزيمة العسكرية السريعة والصاعقة هشاشة وترهل نظام كان ملأ الفضاء الوطني والعربي بوعود الثورة والتغيير الشامل اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.وقد تجسدت استجابته للهزيمة في التضييق على الشعب وإحكام السيطرة على حياة ومعاش المواطنين وحرياتهم العامة والخاصة بدل محاربة إسرائيل وتحرير الأرض المحتلة.
فالسلطة،التي أقامت نظامها على قاعدة اعتبار القوة مدخلا وحيدا لضبط المجتمع،كيفت القانون والإدارة بما يقوي دور السلطة على حساب دور المجتمع،وكرست هيمنة السلطة التنفيذية على السلطات التشريعية والقضائية بتركيز السلطات في يد رئيس الجمهورية بصياغة دستور يمنحه صلاحيات شاملة تمكنه من هيمنة شبه مطلقة على الدولة والمجتمع.كما سيطرت على المجتمع سيطرة مباشرة عبر دمج السلطة والحزب الحاكم والنقابات والتنظيمات الشعبية التي أقامتها في منظومة واحدة وظيفتها ضبط إيقاع الحراك الاجتماعي دون أن ننسى استخدام الريع السياسي : مناصب،ترقيات،مكافآت،مهمات خارجية،السماح باستغلال النفوذ،الرشوة … الخ في توسيع دائرة المؤيدين والأنصار والأزلام.وهذا قاد إلى سيادة مفهوم للسياسة يعتبرها مجموعة من المشكلات الإدارية،ويسمح بالحوار حول المشكلات فقط من أجل رفع مستوى الأداء ليس إلا.وقد ترتب على هذا المفهوم تحوّل الأطر الحزبية والشعبية،التي أقامتها هذه السلطة،إلى أطر تحشيد وتحييد وتنميط ،فالبرامج مفروضة من الأعلى.
كما استخدم التشديد على ” الديموقراطية الاجتماعية ” لتبرير تغييب” الديموقراطية السياسية “واستبعاد التفكير والعمل السياسي الحر والمستقل.ما حول النظام السياسي السوري إلى نظام بيروقراطي مركزي يركز على العمل التنفيذي لا السياسي.وقد استكملت السلطة معادلة الهيمنة الداخلية بفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية،قيدت بها المواطن ووضعته تحت طائلة المساءلة عند كل همسة،حتى بات دون حول ودون قوة،وإطلاق يد أجهزة المخابرات التي أتت على ما تبقى من حرية وكرامة المواطن بتحويله إلى إنسان خائف،فأصبح المجتمع كله محكوم بعقلية “الجماهير” “القطيع” والخوف.وحولت الجيش بتبنيها لفلسفة الجيش العقائدي إلى قوة هدفها حماية النظام .
وقد زاد انتقال النظام من نظام حزبي سلطوي إلى نظام ” عبادة الفرد ” ،بمحورة العمل السياسي والإداري حول القائد:صفاته،سجاياه،مكرماته على الشعب،مع إسباغ هالة من التقديس على شخصه،من سلبياته وجعله أقرب إلى النظم السلطانية منه إلى النظم الجمهورية.
أفرزت هذه السياسة واقعا وطنيا محطما أفقد المواطنين تحفزهم الذاتي وحماسهم الوطني بعد أن ذبل الأمل وغابت الفكرة الحافزة التي كانت تدفعهم إلى المشاركة في الشأن العام والنزول إلى الشوارع عند كل حدث وطني أو عربي.لقد استسلموا” لقدرهم” بالسكوت على الظلم وضياع الحقوق وتقبل حياة الذل والمسكنة والتكيف السلبي مع الظروف والمتغيرات بالتنازل عن المطالب والأحلام الشخصية والاجتماعية وعن المشاركة القومية التي طالما كانت سمة الشعب السوري البارزة.فقد خرج هذا الشعب في حرب السويس وحرب تحرير الجزائر إلى الشوارع وشارك بفعالية في معارك فلسطين بينما تمر الآن صور القتل الوحشي الذي تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين والقوات الأمريكية والمنظمات الإرهابية ضد العراقيين،بشكل يومي،دون أي رد فعل سوى الألم والإحساس بالذل والقهر والمهانة.فأغلبية المواطنين غارقة في الاغتراب،الذي انعكس بين أبناء الطبقات العليا والوسطى بتطليق الحياة العامة والغرق في حياة يومية هامشية،وبين أبناء الطبقات الشعبية بممارسة العنف الاجتماعي .
اجتمعت هزيمة الجيش في القتال ضد قوات العدوان الإسرائيلي يوم 5 حزيران 1967 إلى هزيمة المجتمع في صراعه المرير مع الظلم والقهر المديد إلى تكريس الاحتلال الإسرائيلي لأرض الجولان كل هذه السنين.فالشعوب/المجتمعات الحرة والمواطنين الأحرار وحدهم يستطيعون،بما يملكون من حرية،اجتراح المعجزات في مقاومة المحتل،لأنهم في ظل الحرية يعيشون العزة والكرامة وهذه تدفعهم إلى رفض الذل على يد الأعداء والغبن والظلم على يد السلطات.وسيادة العدالة والمساواة تجعل المواطن شريكا وصاحب مصلحة في استمرار الوضع القائم فيندفع للدفاع عن الوطن والنظام والتضحية من أجلهما،أما العبيد الذين سحق القمع والقهر روحهم وضيع كرامتهم وإنسانيتهم ودفعهم إلى استمراء الهوان فلا يفرزون إلا المذلة والانكسار والهزيمة. كل هذا أدى إلى تعميق ضعف وعجز المجتمع السوري أما التحديات الداخلية والخارجية وأدى بدوره إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأرض السورية.
في كتب التاريخ السياسي رواية عن استشارة قدمت لغليوم الأول إمبراطور ألمانيا والنمسا ذات صلة بحديثنا.تقول الرواية أن الإمبراطور سأل مستشارة أيتوجه لاحتلال باريس أم لاحتلال الأستانة/استانبول عاصمة السلطنة العثمانية آنذاك ؟. فأجابه المستشار أنه إذا توجه لاحتلال باريس فسيجد جيشا ضعيفا سرعان ما سيهزمه لكنه سيواجه شعبا قويا تعوّد على الحرية ولن يتركه هذا الشعب يستقر ويهنأ في احتلاله.أما إذا توجه لاحتلال الأستانة فإنه سيواجه بجيش قوي سيتعب كثيرا قبل أن يهزمه لكنه إذا هزمه فإنه سيبقى في هذه البلاد طويلا لأن الشعب الذي تعوّد على القهر والظلم من حكامه لن يقاوم محتليه.
لقد حولت السلطة هزيمة عسكرية في معركة مع العدو من خسارة معركة في حرب إلى خسارة الحرب.
*كاتب سوري.