تنشغل المراكز والمنتديات الثقافية في الضاحية الجنوبية لبيروت بمتابعة الملف الإيراني من مختلف جوانبه وخصوصا بعد الانتخابات الرئاسية وتداعياتها السياسية والشعبية داخل ايران وخارجها. ولاول مرة منذ انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 تتم مقاربة الملف الايراني في البيئات القريبة من “حزب الله”من منظار نقدي وليس من منظار ايديولوجي او عقائدي. صحيح ان هذه البيئات تؤكد دعمها للجمهورية الاسلامية وارتباط بعضها بولاية الفقيه والقائد السيد علي خامنئي، لكنها بدأت تطرح العديد من الاسئلة حول واقع النظام الاسلامي في ايران ومدى قدرته على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية بعد 31 عاما من قيام الجمهورية الاسلامية. وقد عقدت خلال الاشهر الستة الماضية اكثر من ندوة ولقاء فكري وحواري كان محورها الملف الايراني.
كما ان العديد من القيادات والمسؤولين والباحثين الايرانيين الذين زاروا لبنان خلال الاشهر الماضية شاركوا في هذه الحوارات والنقاشات وقدّموا وجهات نظر مختلفة حول الوضع الايراني بين مؤيد للنظام او داع لضرورة التغيير في الاداء او محذر من مستقبله اذا لم ينجح في استيعاب المتغيرات.
ومن ابرز المراكز والمنتديات الثقافية التي اهتمت بالشـأن الايراني في الضاحية الجنوبية: “المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق (التابع لـ”حزب الله”)، المركز الاسلامي الثقافي (مسجد الحسنين)، معهد المعارف الحكمية (يشرف عليه الشيخ شفيق جرادي)، مركز الامام الخميني الثقافي، منتدى الحوار الثقافي، مؤسسة الفكر الاسلامي المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الانساني، المستشارية الثقافية الايرانية.
اما مركز شؤون الاوسط للبحوث والدراسات والتوثيق والذي كان من المؤسسات البحثية الناشطة حول ايران وتركيا فقد توقف عن اقامة الندوات الحوارية ويقتصر دوره حاليا على اصدار مطبوعتين فصليتين (الاولى باسم “شؤون الاوسط” والثانية باسم “العرب وايران”). فما هي ابرز القضايا والمواضيع المتعلقة بالملف الايراني والتي جرى النقاش حولها في هذه اللقاءات والندوات الحوارية؟ وما هي المعطيات والمعلومات التي قدِّمت من الباحثين والمسؤولين الايرانيين حول مختلف القضايا؟
مستقبل النظام
منذ اجراء الانتخابات الرئاسية والتداعيات السياسية والشعبية التي أدت اليها، وأهمها تطور حركة المعارضة الاصلاحية، بات السؤال الاساسي الذي يطرح في الندوات واللقاءات الحوارية: ما هو مستقبل الجمهورية الاسلامية الايرانية؟ وهل لا يزال النظام الاسلامي قادرا على استيعاب المعارضة الداخلية؟ وكيف سيتم التعاطي مع قيادات المعارضة الآتية من جانب النظام الاسلامي؟
حول هذا الموضوع تنوعت اجابات المسؤولين والباحثين الايرانيين او الباحثين اللبنانيين المعنيين بالشأن الايراني او المقيمين في ايران.
فأما المسؤولون الايرانيون الذين زاروا لبنان وعقدوا سلسلة لقاءات حوارية مع كوادر ونخب ثقافية لبنانية فقد اكدوا “متانة النظام الاسلامي في ايران وقدرته على استيعاب التحديات الداخلية والخارجية وتراجع دور قوى المعارضة”. وشن بعض هؤلاء حملة قاسية ضد بعض القيادات الايرانية وخصوصا قادة المعارضة (السيد محمد خاتمي، السيد مير حسين موسوي، الشيخ كروبي) وشبهوهم ببعض اصحاب الرسول (ص) والامام علي (ع) الذين تراجعوا عن اقتناعاتهم وغيروا مواقفهم في سني حياتهم الاخيرة رغم موقعهم الرسالي والايماني. ودافع هؤلاء عن “ديموقراطية النظام” وعن نظرية ولاية الفقيه وقدرة هذه النظرية على حماية النظام من اعداء الداخل والخارج.
لكن في موازاة وجهة النظر الرسمية هذه برزت خلال المناقشات وجهتا نظر مختلفتان عنها، الاولى يعبر عنها باحثون وعلماء ايرانيون او لبنانيون مقيمون في ايران وحتى بعض الشخصيات القريبة من “حزب الله”، تؤكد ان النظام الاسلامي يواجه حاليا معضلة اساسية للدفاع عن احد انجازاته التأسيسية وهي التوفيق بين “ولاية الفقيه” و”الديموقراطية الشعبية”، في ظل تنامي حالة الاعتراض الداخلية لدى النخب الثقافية وبعض المرجعيات الدينية، وفي اوساط الشباب والطلاب وحتى لدى اركان اساسية في النظام، وكذلك الحفاظ على صورته النقية في تطبيق المشروع الاسلامي للحكم والادارة”.
وتضيف هذه الرؤية ان “النظام الاسلامي معني بتطوير هيكلياته السياسية وبعض رؤاه الفكرية لاستيعاب المتغيرات وحالة الاعتراض الشعبية والا فستزداد حالة الابتعاد بين الجمهور الايراني الواسع والقيادة الاسلامية”.
اما وجهة النظر الثانية والتي عبر عنها بعض الباحثين الايرانيين الذين يزورون لبنان بشكل غير رسمي فهي تعتبر ان “النظام الاسلامي وصل الى مأزق صعب وان حالة الاعتراض الشعبية ستزداد مستقبلا إن لاسباب سياسية او فكرية او اقتصادية مما قد يفتح الباب اما تغييرات كبيرة تطول هذا النظام واسسه”، ويعتبر هؤلاء ان “اللجوء الى العنف لقمع التحركات الشعبية لن يؤدي الى حماية النظام بل سيساهم ذلك في تكرار تجارب غيره من الانظمة غير الديموقراطية، مما يعني اننا امام نقطة البداية لانهيار النظام”.
الحرب مع اميركا واسرائيل
القضية الثانية التي برزت في النقاشات والحوارات في المراكز والمنتديات الثقافية في الضاحية الجنوبية هي “الملف النووي” ومستقبل الصراع مع اميركا واسرائيل، او حول السؤال الاساسي: هل ستشن اميركا او اسرائيل حربا ضد ايران وحلفائها في المنطقة؟
حول هذه القضية او هذا الملف الحساس تداخلت الاسئلة والملاحظات مع المعطيات والمعلومات العسكرية والميدانية،مع الاشارة الى وجود اجماع لدى جميع الذين يناقشون هذا الملف من ايرانيين او لبنانيين او حتى بعض العرب والفلسطينيين من الذين شاركوا في النقاشات، على التأكيد على حق ايران بالحصول على الطاقة النووية السلمية وحتى الحصول على قنبلة نووية، مع ان بعض المسؤولين الايرانيين اكدوا “انه حتى لو ان ايران استطاعت تصنيع قنبلة نووية فإنها لن تقدم على هذه الخطوة حاليا لأنها ليست بحاجة لها اولا ولأن قرار القيادة الايرانية الشرعية (الامام الخامنئي) يؤكد على عدم السماح بذلك حاليا”.
وشرح بعض المسؤولين الايرانيين في اللقاءات خطورة المعركة التي تخوضها اميركا واسرائيل، وبدعم من جهات اقليمية وعربية لمنع حصولها على التكنولوجيا الغربية، فأكد هؤلاء على انه هناك ستة علماء نوويين تم خطفهم او قتلهم خلال الأشهر الماضية وان كل الجهود الخارجية تتركز على تأخير المشروع النووي الايراني لكن العلماء الايرانيين يحققون نجاحات مهمة.
اما في الجانب العسكري فيقول احد القياديين القريبين من الحرس الثوري الايراني في احد اللقاءات “ان اسرائيل واميركا غير قادرتين على شن حرب ضد ايران، لان هناك 180 ألف جندي اميركي تحت مرمى النيران الايرانية (150 الفا في العراق، و30 الفا في الخليج والبحر) وان ايران هي اقوى قوة صاروخية في المنطقة، واسرائيل ليس لديها قدرات صاروخية قوية، وان اي هجوم اميركي او اسرائيلي على ايران سيؤدي الى اشعال المنطقة كلها في حرب مدمرة وسيكون لهذه الحرب تداعيات عسكرية وامنية واقتصادية خطيرة، واميركا غير قادرة على تحمل نتائج هذه الحرب حاليا، لانها مشغولة بحرب اخرى في افغانستان وباكستان واليمن، ولان عملية التسوية تمر في مأزق خطر”.
ويضيف هذا القيادي انه “رغم استبعاد شن الحرب من اميركا واسرائيل، فان القيادة الايرانية اتخذت كل الاجراءات لمواجهة اي احتمال للحرب وقد تمت اعادة هيكلة القوات الايرانية من جيش وحرس وباسيج وتعبئة وان هناك مليونا ومئتي الف مقاتل ايراني مستعدون للقتال، وانه تم تطوير وتعزيز القدرات العسكرية الى مرحلة غير تقليدية”.
ويختم القيادي ان “اسرائيل شنت حربين كبيرتين عام 2006 و2009 ضد لبنان وغزة، وخرجت منهما بخسائر كبيرة وهي غير قادرة على شن حرب جديدة لا تضمن الانتصار فيها”.
اما عن فرض العقوبات الاقتصادية ضد ايران فيقول المسؤولون الايرانيون خلال المناقشات: ان هذه العقوبات لم تمنع سابقا من تطور ايران وهي لن تقف حجر عثرة امامها مستقبلا. وحول مستقبل “حزب الله” اية حرب قد تحصل فإن المسؤولين الايرانيين او مسؤولي “حزب الله” لا يقدمون اجابات واضحة او دقيقة حول ما سيجري لكنهم “يجزمون ان الامور مفتوحة على كل الاحتمالات وهذا مرتبط بظروف الحرب وتطوراتها”.
ايران ودول المنطقة وقوى المقاومة
لكن ماذا عن علاقة ايران بدول المنطقة وخصوصا السعودية وسوريا وتركيا، وبقوى المقاومة (“حماس”، “حزب الله”)؟ وماذا عن الرهان على فك التحالف السوري – الايراني في المستقبل القريب؟ وهل تكتفي ايران بكونها دولة اقليمية قوية ام انها تطمح لتكون نداً للولايات المتحدة الاميركية في اطار المشروع التمهيدي “للدولة المهدوية”؟
هذه النقاط شكلت مدار نقاشات مطوّلة في اللقاءات الحوارية التي جرت في المنتديات الثقافية. وبدا واضحا ان هناك اتجاهين اساسيين، الاول الذي يتحدث بواقعية وموضوعية يقول ان على ايران ان تدرك حجم المخاطر والتحديات وان تسعى للتصالح مع الدول الاقليمية والعربية وخصوصا المملكة العربية السعودية لان اي صراع سعودي – ايراني يتحول صراعا مذهبيا وان العودة للعب دور شرطي المنطقة ليس من مصلحة ايران والشيعة، كما ان تحمل اعباء المواجهات مع الغرب والدول الكبرى سيؤدي الى تكرار “تجربة الاتحاد السوفياتي” وبدء الانهيار الداخلي نتيجة الاعباء الكبيرة للصراع.
في مقابل هذه الرؤية طرحت خلال النقاشات وجهة نظر ايرانية يؤيدها بعض اصحاب الاتجاهات الفكرية والدينية الشيعية تقول ان ايران هي “مشروع دولة الامام المهدي” وان مسؤوليتها التحضير للمرحلة الجديدة من الصراع مع الغرب.
اما على صعيد التحالف السوري – الايراني وعلاقة ايران بقوى المقاومة فقد اكدت الحوارات على ثبات هذه العلاقة وعدم صحة الرهانات على انفكاك سوريا عن ايران مهما كانت الاغراءات المقدمة الى سوريا، لان هذا التحالف قائم على اسس استراتيجية كبيرة.
لكن النقطة الاهم التي طرحها بعض المسؤولين الايرانيين فهي العلاقة الاستراتيجية بين ايران وتركيا والقائمة على اسس اقتصادية ومصالح متبادلة سواء بالنسبة للعراق او الوضع العربي، مما يجعل هذه العلاقة الثنائية اساسا متينا لاستقرار المنطقة وعدم ذهابها نحو الصراعات الاقليمية والمذهبية.
ملاحظات ختامية
ما يمكن استنتاجه من النقاشات والحوارات التي شهدتها المنتديات والمراكز الثقافية في الضاحية الجنوبية ان الملف الايراني هو الاولوية في دائرة الاهتمامات، والاسئلة التي تطرح حول مستقبل الجمهورية الاسلامية الايرانية ونظرية ولاية الفقيه هي اسئلة حقيقية، ورغم العلاقة المميزة التي تربط جمهور “حزب الله” وكوادره بالقيادة الايرانية فان ذلك لم يمنع من طرح الاسئلة والاستفسارات حول صحة اداء القيادة الايرانية داخليا وخارجيا، كذلك فان اشكالية العلاقة بين الديموقراطية وولاية الفقيه وتطوير التجربة الايرانية هي مدار بحث حقيقي بين النخب الثقافية الشيعية.
وفي الختام فانه بعد 31 عاما على انتصار الثورة الاسلامية وقيام الجمهورية الاسلامية، فان ما يجري في ايران لا يزال الشغل الشاغل لفئات شيعية كبيرة، وهذه الفئات تطرح اسئلة حقيقية حول هذه التجربة الاسلامية وما يمكن ان تواجهه في المستقبل، خصوصا في ظل ما يجري في العراق والتطورات التي شهدتها المنطقة في السنوات الاخيرة.
* حارة حريك