اليوم الأول من عهد الرئيس الجديد، ميشال سليمان وخطابه التوافقي: في العصر: مشهدان يتلازمان في الواقع وعلى الشاشة: خطاب السيد حسن نصر الله الحاضن سلاحه، بمناسبة عيد التحرير الثامن. وتصنيفه التراتبي للبنانيين: في الاعلى فئة «شريفة» محبّة لسلاح المقاومة؛ وفئات اخرى تأتي نزولا حتى كعب الهرم: فئة «لا يعنيها ما يحصل». فئة حيادية. فئة مستسلمة او عميلة اومجرد أداة. ثم فئة لا تطلب من هذه الدنيا الا الأكل والشرب والانبساط والانشراح. هذا أول مشهد. يقابله مشهد يجسد الفئة الاخيرة هذه، وقد نزل افواج منها الى وسط البلد… تحتفل بالرئيس الجديد- الوسط، بعدما رُفع عن صدره الخيم والحواجز الباطونية والحديد. مئات الآلاف ممن ضاقت بهم الجادات نزلوا يرقصون ويغنون و«يهيّصون» على انغام الفنانين والفنانات (الاحتفال حاولت إطاحته فرق الجوالة المنتصرة انتصارا ضمنياً، بمواكبها واستفزازاتها).
المشهدان تلازما طوال العصر والليل من ذاك اليوم الاول من العهد الجديد. على الشاشة ايضاً: خاصة وان الفضائيات اللبنانية كانت تكرر مقاطع من خطاب نصر الله، تليها عودة الكاميرا الى احتفالات وسط البلد. وبالصورة الحية. والتلازم هذا يعطيك طبعا فكرة ملموسة عن معنى القول إن ثقافة المقاومة التي عهدناها هي ثقافة دم ودموع ورصّ صفوف وفصل بين الجنسين ولون اصفر واحد يتناثر على اطرافه بعض الاخضر («أمل»). فيما ثقافة الحياة، الخفيفة، الجبانة، المخنّثة، التافهة، بحسب ادبيات «حزب الله»… هي ثقافة بهجة وسرور.
لكن الامر لا يقف هنا. فتلازم المشهدين يبلّغ رسالتين؛ تقول الاولى ان
هذه «الفئة» من اللبنانيين، التي لا يهمها غير «الاكل والشرب والانشراح» هي الفئة الطاغية. وانها سعيدة اخيرا بملء الفراغ في رأس دولتها ومستعدة لهضم صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، ولنسيان آلامها. وانها بذلك تقايض السلم الاهلي، أي حقن دمائها، ولو مؤقتاً، بتنازلها عن حقوقها السياسية المشروعة التي هدرت على مذبح الدوحة، وايضا مقابل سكوتها عن السلاح «المقاوم»، لكي لا يتوجه الى صدرها… هو الذي يهددها!
هكذا هم اللبنانيون. او هكذا صاروا. سورياليين. يعاملون سياسييهم مثلما كان المذيع الفرنسي الشهير، جاك مارتين، يعامل الاطفال المتبارين في الغناء في برنامجه: «الجميع ربح!». «لا غالب ولا مغلوب». فيما المنتصرون حقيقة على الارض بانجازهم «العسكري» الذي ينكرون حدوثه في نفس الوقت! لا يحتفلون جهارا بهذا الانتصار، بل يتركون صغارهم يفعلون. لعلهم يشفون. والخاسرون يكابرون وقد بدأوا يتظلمون. ما يتيح لشعار «لا غالب ولا مغلوب» ان يطلق العنان لغالبية اللبنانيين من فئة الباحثين عن الاكل والشرب والانشراح الى اقتناص لحظة السلم الاهلي الذي يتحيها الشعار…
في الدوحة عومل اللبنانيون «البسطاء» كأرقام، ككتل تصويتية، كقطيع من الارقام، كعصبيات طليقة تطلب من زعيمها المزيد من حقوق تنتزعها من العصبية الأخرى… في الدوحة لم تكن خسائر اللبنانيين بارواحهم وممتلكاتهم وكرامتهم، لا الاعتذار منهم ولا تضميد جراحاتهم، ولا حتى مواساتهم… هي الموضوع. الأمر أمر ولاءاتهم. كيف يعززون مواقع امرائهم.
الأمر الثاني الذي غاب عن الدوحة غيابا فادحاً، وقد يكون طرحه من باب البراءة البلهاء: التداول. بفتح باب الطاقات السياسية الصالحة لتعزيز التوافق المطلوب، طالما نحن في ظل ديموقراطية. لا شيء من هذا في ذهن الخصوم الضيوف. كل الاهتمام كان منصبّا على الشيء نفسه الذي ينكبّ عليه اي حاكم عربي، من غير ضوابط ولا قانون ولا معايير واضحة… اللهم الا معيار القوة العارية او الخفية: لا كيف يحفظون الكرسي فحسب، بل كيف يقضمون كرسي غيرهم. صراع على السلطة بين اركان سلطتين (موالاة ومعارضة) ووفق الموازين الجديدة. الكلام فيه عن حقوق الناس من مسيحيين او مسلمين هو من باب الهمّ الاعلامي فحسب. قانون الانتخاب الذي «اتفق عليه»، والعائد الى العام 1960، كادت ان تنسف تفاصيل البحث فيه المفاوضات برمتها. كان انصبابه على حصص جديدة في البرلمان بناء على نفس هذه الموازين من قبل المعارضة، ودفاع الموالاة عن حصصها بتعديل بعض فقراته منعا لخسارة اكبر بعدما ادركت دقة التوازنات الجديدة واقتراع مسبق بالتالي.
اتوا بالخرائط وقسمونا الى مزيد من الكانتونات المذهبية الطائفية بحيث لا ينتخب المرء تقريبا الا ابن مذهبه. فأنزلوا المزيد من الاسوار بيننا. ثم عادوا وهم ينشدون انشودة «الوفاق»، مكلّلين بالقطعة التي نالها كلٌ منهم. و»إنتخبوا» بالاجماع رئيسا ارغمتهم عليه نفس هذه التوازنات. مشهدية انتخاب الرئيس لم تكن اقل بلاغة. العالم كله جاء ليصادق على الترشيح والتصويت، ايضا بناء على التوازنات الجديدة. نعلم ان لبنان لم يكن يوما ناخبا وحيدا لرئيس جمهوريته. هذا امر عادي في الحوليات اللبنانية. لكن مشاركة العالم في الترشيح والتصويت والتصديق كان قياسيا هذه المرة؛ بحيث لا يمكنك تصور ما هو اكثر الا في المسرحيات الساخرة.
يحسدنا الاصدقاء العرب، ويسرفون في مديح الديموقراطية اللبنانية. ونحن نحب ان نصدق، من يأسنا ربما. لكل لبناني «حاكم مطلق» على رأس طائفته؛ وانت تخرج من الجنة والامان إن خرجتَ عليه ومنه، يشاركه عدد من أمثاله الآخرين من الطوائف الاخرى، لهم توازناتهم وحقوقهم وامتيازاتهم وحصانتهم من المكاشفة والحساب. يحمي المواطن المطيّف بلحمه ودمه سطوة هؤلاء الامراء الكبار على خيرات الدولة ومصيرها. يحمي الشركة المساهمة من الضياع في ايدي الآخرين. وهكذا… وقد بلغ الامر بعبثية أقدار كهذه ان جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ادارها زعيم كانت عناصر تابعة له شاركت منذ ايام معدودة في ما شهدته احياء بيروت وأزقّتها…
المهم الآن: كما سقطت مصداقية سلاح المقاومة في شوارع بيروت؛ قد تسقط مصداقية الحرية والسيادة والاستقلال بعد تعثرها الشديد في الدوحة. فهل يراجع دعاتها تجربتهم الاخيرة الفاشلة؟ هل ينوون مثلا خوض الانتخابات القادمة بخريطة طريق تطيل الهدنة وتسمح بتحوّلها الى سلام دائم؟ ام ان الموضوع برمّته فعلا خارج عن ارادة الجميع؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة