(1)
منذ البدء خلق الله مصر، وحدد دورها، وبين رسالتها.
فقد خلق الله مصر فى وسط العالم القديم، وبين قاراته الثلاث: وجعلها مماثلة لمجرتنا، درب اللبانة أو درب التبانة (كما يسميها العرب)، وجعلها مرتبطة بأكبر الكويكبات (مجموعة كواكب) فى المجرة المنوه عنها، كوكبة الجبار (Orion) وأكثرها حيوية ومجالا للخلق، روح الله وكلمته، وفى سياق آخر، فقد جعلها متأثرة بنجم الشعرى اليمانية (Sirius)، وبذلك ارتبطت بأهم ما فى السماء، كوكبة الجبار ونجم الشعرى اليمانية ثم حباها بأهم ما على الكرة الأرضية: الهرم الأكبر، وهضبة الأهرام، ونهر النيل. وقد أنف بيان ما فى كل من علامات وبيانات وسجلات وكونيات.
بهذا تهيأت مصر وحدها – دون أى مكان أو بلد آخر فى العالم – كى تكون مسقطا للعمليات الكونية، وموئلا لكلمة الله وروحه.
(2)
من كوكبة الجبار، ومن نجم الشعرى اليمانية، وجد على أرض مصر فى وقت واحد، كل من أوزير (أوزريس، إدريس) كلمة الله وروح الله، وشحصانية وروحانية كوكبة الجبار، وإيزيس، وست (سيطان وشيطان)، وحورس. وبهم شرع الكون فى تحديد وبيان مواقع العالم المادى، والكرة الأرضية، وهو الثنائية التى تتوزع بين الخير والشر، بين الليل والنهار، بين النور والظلام، بين الذكر والأنثى.. وهلم جرا.. وكان هذا البيان تمثيلا وتوكيدا لما سوف يحدث على الكرة الأرضية، فى كل مكان وأى زمان، من الواقعة المؤكدة والممثلة للنزاع الأبدى بين الثنائية ، بين الخير والشر، والذى سوف يستديم ويستطيل على مدى التاريخ وداخل كل مجتمع وفى كل أسرة، ويرتسم على الضمير الفردى ويقرَ فى القلب الإنسانى، وهو أمر عندما يحدث بشخوص كونية – يكون بارز المدلول ظاهر الكيان فصيح البيان حاضر البرهان، وفى ذلك يكون ما فى السماء هو ما على الأرض.
SO ABOVE IS BELOW
ومع أوزير (أوذريس بالنطق اليونانى وإدريس بالنطق العربى) روح الله وكلمته التى تكرر ظهورها أكثر من مرة – آخرها السيد المسيح ثم المسيح أو المخلص المنتظر – معه وفيه كان يوجد تحوت (أوهرمس)المعلم والموحى بكلام الله، وتوجد “ماعت” رمز القانون الأخلاقى الذى لا معدى من وجوده وسريانه، حتى يبدأ الفرد من نفسه، فيحدث ضرب من التوافق فى ذاته والتوافق بينه وبين المجتمع، والتوافق بينه وبين القوى الكونية، ذلك أن هذى نتائج طبيعية محققة مادام ضميره يرتبط وينضبط بالضمير الكونى “ماعت” التى تفيد بالمعنى والمبنى: الحق والعدل والاستقامة والنظام.
لكن ذاك ليس أمرا سهلا ولا بسيطا ولا مؤكدا، ذلك أن الجسم الإنسانى – وهو من التراب أو الصلصال أو الطمى- يغلَب فى الإنسان نقائص ورذائل تطغى عنى ذاته الإلهية وطبيعته الكونية، فيأثم أو يشتهى أو يحصَل أو يقترف ما يحيد به عن النظام، وبذلك يتحول الخير إلى شر، والطيب إلى شرير، والصفاء إلى كدر، فيؤدى هذا ضرورة إلى تحقيق المعانى السلبية والمضادة لمبدأ النظام الأخلاقى الكونى، فيصير الحق إلى ضلال والعدل إلى ظلم والاستقامة إلى التواء والنظام إلى فوضى.
مثل ذلك ما حدث بين أوزير (رب أو سيد الخير وست رب أو سيد الشر، فغلب الشر وساد وظهر وبان حتى تراكم، وزيَف الصراع بين الخير والشر إلى أنه غلبة الشر، أو الشيطان، على الخير أو الإله فى التقدير العادى الذى لا يعرف ولا يفهم أن الله ليس الخير وحده وليس الشر وحده، لكنه جماع الاثنين وضميم الخير والشر فى صيغة واحدية تعلو على الاثنين وتضم الصيغتين فى واحدية كيفية، ليس فى قدرة العقل المشطور أو التقدير المبتور أن يدركها أو يفهمها أو يعيها.
(3)
فى العصور السالفة، وحتى الأسرة الخامسة فى مصر، كان يسود نظام الضمير الأخلاقى، فعاش الناس فى رخاء ونعيم، وهدوء وسلام، وبدأ الناس – بطبيعتهم ونقائهم وسموَهم – يتعاملون مع الغرباء الذين يفدون إليها من خارج الوادى، وبالذات من شرق مصر (البدو أو الهكسوس الرعاة) بسلام وأخلاق. وإذ رأى هؤلاء فى مصر ونيلها جنة الله على الأرض، التى تفيض لبنا وعسلا، فقد دفَوا إليها زرافات ووحدانا. وبتكاثرهم انكسر النظام الأخلاقى وتوارى، مادام الأصل أن السىء يطرد الحسن، وأن سوء الخلق يغلب حسن الأخلاق. ولما تكاثر البدو وتزايدو ووصلوا إلى اختراع العربة ذات العجل، غزوا مصر، وكان سهلا عليهم أن يتسيدوا فيها: فبدأ الزيوغ عن الأخلاق والحيود عن الضمير والأفول فى السلام.
كان المصرى القديم – قبل تغلب البدو والهكسوس عليه – يقول فى الدنيا والآخرة:
– إن قلب الإنسان إلهه ، وقلبى كان راضيا عن أعمالى.
– غذيت قلبى بماعت التى هى الحق والعدل والاستقامة والنظام.
– يُعترف بفضل المرء الذى يتخذ ماعت أى الحق والعدل والاستقامة والنظام- نبراسا فينهج نهجها.
– ماعت – الحق والعدل والاستقامة والنظام أبديه، فهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر. وإسمه لا يُمحى من الأرض بل يُذكر بسبب عدله، وهكذا تكون استقامة كلمة الله.
قال القوم: إنه وحى من الله يوجد فى كل إنسان، وإن من أرشده إلى الصراط المستقيم فى إنجاز العمل إنسان سعيد.
بدلا من هذه الثوابت الخلقية، التى تصدر عن الإنسان الذى ربط قلبه بضمير الكون وضبط نفسه بما فيه من محبة وسلام وعدالة واستقامة ونظام، صار إلى النقيض من ذلك، فانقطع قلبه عن ضمير الكون وسقط على الظاهر منه فالتصق بالمبانى وتشتت فى المظهر وغاب عن الجوهر.
ويبدو ذلك فيما كان يردده القادرون على الفهم والمتمكنون فى التعبير، وأظهر ذلك ما جاء فى بيان يعبر عما يحدث منذ سقوط نظام ماعت وحتى اليوم.
لمن أتكلم اليوم؟ الإخوة سوء وأصدقاء اليوم ليسوا جدرين بالحب.
لمن أتكم اليوم؟ القلوب تميل إلى اللصوصية، فكل إنسان يغتصب جاره.
لمن أتكلم اليوم؟ الرجل المهذب يهلك، والصفيق الوجه يوجد فى كل مكان.
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخائن صار أمينا، والأمين عدوا (للناس).
لمن أتكلم اليوم؟ لا يوجد رجل عادل، وقد تٌركت الأرض للذين يرتكبون الظلم.
وفى تعبير آخر لأحد الرهبان.
إن العدالة قد نٌبذت وأخذ الظلم مكانه فى وسط المجالس، وخطط السماء قد إنتهكت قيمتها ,وأهملت نظمها، والبلاد صارت فى هم، والحزن عمَ كل مكان، وصارت المدن والأقاليم فى عويل، وكل الناس على السواء صاروا يرزحون تحت عبء الظلم، أما الاحترام فإن أجله قد إنتهى.. إن المصائب تقع اليوم، ومصائب الغد لم تأت بعد..ولا يوجد إنسان خال من الشر، فإن كل الناس على السواء يقترفونه.. ولكن القلوب لا تنبذه.. ولا يدرك الواقع إنسان عاقل..والناس تستيقظ فى الصباح كل يوم لتتألم.. والرجل الفقير ليس له حول ولا قوة ممن هو أشد منه بأسا.
وينوح آخر (هو إيبور) فى رؤاه التى كتبها فى فترة العهد الإقطاعى (الأسرة السادسة) فيما يسميه العلماء (تحذيرات ايبور).
قوانين قاعة العدل قد ألقى بها من وراء الظهر، فصارت تدوس عليها الناس والأقدام فى المحال العامة، والفقراء يغتصبونها على قارعة الطريق. الرجل يضرب أخاه من أمه، فما العمل فى ذلك؟ الرجل يُذبح وهو بجانب أخيه، ويتركه أخوه لينجو بنفسه. الرجل ينظر إلى إبنه نظرته إلى عدوه. الرجل يذهب إلى الحرث والزرع هو مسلح بدرعه.
إن كل أصحاب الحرف لا يقومون بأى عمل قط، وأعداء البلاد يفقرونها فى حرفهم. إن الذى يحصد المحصول لا يعرف عنه شيئا ومن لا يحرث الأرض يملأ أهراءه. إن الماشية قد تُركت ضالة فى السبيل ولا يوجد من يجمعها ويلم شتاتها، فكل إنسان يأخذ لنفسه ما يقدر عليه. والحروب الداخلية لا تأتى بنتيجة، بيت المال بلا دخل.. فى الحق إن البلاد تدور على عقبها، أى إن نظام الأشياء مقلوب، والمتحلى بالفضائل يسير وهو محزون لما حدث فى البلاد ، وفى الحق أن العدالة (ماعت) ، موجودة فى البلاد بإسمها فقط.
(لتفصيل أوفى يراجع كتابنا: ديوان الأخلاق)
هذه التحذيرات والتقريرات والبكائيات تتضمن وصفا دقيقا لما حدث فى مصر بعد سقوط مبدأ ماعت الحق والعدل والاستقامة والنظام نتيجة توافد وتزاحم البدو (والهكسوس) على أرض مصر، وغلبة البداوة على الحضارة، وسقوط البشر فى المظهر بعد أن إنزلق منهم الجوهر. وهى من صحة التعبير ودقة التصوير تصف أحوال المجتمع المصرى – آنذاك – وكل المجتمعات البشرية التى غاب عنها وضاع منها إدراك مبدأ ماعت المصرى، منذ سقوط هذا المبدأ وحتى الوقت الحاضر.
وقد أدرك ذلك عالم المصريات الأمريكى جيمس هنرى بريستد فذكر فى كتابه فجر الضمير dawn of conscious : إن أعظم كارثة حلت بالإنسانية هى سقوط مبدأ أو نظام ماعت الحق والعدل والاستقامة والنظام. وهو – وقد ولد يهوديا – عرف الحق فبيَنه وأكد عليه، والتفت عن التوراة ولم يشر إليها. ذلك أن العالم الحق يعرف الحقيقة فيذكرها ويؤكد عليها، دون تعصب لجنس أو عقيدة أو تاريخ، أما الأيديولوجى فهو يتمسك بعقيدته، مهما كانت ظاهرة الفساد واضحة العوار.
لكن برستبد لم يذكر فى كتابه – الأنف بيانه – سبب إعتباره أن أعظم كارثة حلت بالبشرية هى سقوط نظام أو مبدأ ماعت، لكنَا أمكنا أن نستكمل ما ابتدأه وذكرنا سبب هذه الكارثة فى أكثر من كتاب لنا، وكنا فيما نذكر ونبين نستكمل عمل برستبد وننهج نهجه فى بيان الحقيقة وذكر الصواب ونؤكد النتائج فى حياد تام وعدل كامل.
إن مفاد مبدأ أو نظام ماعت أن يصل الإنسان الفرد بالمعرفة المقدسة إلى توحيد ذاته، ويصير كما لو كان يشعر بعقله ويفكر بقلبه، إذ يجمع العقل والقلب فيه محور واحد، مع التأمل والإستمرار، يصل من خلال ذاته إلى الذات الآلهيه فيتوحد بها، ويصبح مظهرا للألوهية وأسوة للإنسانية ومحققا لمبدأ ماعت، يعرف الحق والعدل والاستقامة والنظام، فيباشر ماعت فى كل حين، ولا يحيد عنها قيد شعرة. وبمبدأ ماعت يتحقق الأصل فى الخلٌق من أن الطرق إلى الله تتعدد الذوات الإنسانية.
ashmawy2@hotmail.com
* القاهرة
[مصر صفحة السماء (7)
->http://www.metransparent.com/ecrire/?exec=articles&id_article=19989
]