المستشرقون اصحاب هوية غربية أصلا. وصفة «الشرق» الجغرافية عينوها في موطنهم، مع بداية عصر هيمنة الغرب، العسكرية والثقافية. منهم البريطانيون، الفرنسيون، الألمان. ولحق بهم في العقود الاخيرة اميركيون. علماء، مؤرخون، أدباء، فنانون ومحلّلون جعلوا من الشرق الغامض والملوّن موضع افتتانهم. كتبوا عن تاريخه ومجتمعه وراهنه، الّفوا حوله القصائد والروايات، ورسموا ما شاهدوا، وخمّنوا حميمية يومياته، ورجاله ونسائه الخ. وكان لمناهجهم ونظرياتهم ومفاهيمهم، دور في رسم ملامح هذا الشرق. ولكن الدور الأكبر وقع على عاتق عواطفهم الاستعلائية تجاه هذا الشرق. فخلف الإنبهار بسحره يبطن المستشرقون احتقارا عميقا لثقافته ولشعوبه. وقاعدة عنصريتهم تجاه الشرق، هي تفوق حضارتهم علميا وتخلف الشرق، مقارنةً بهم. قاعدة سمحت بتحول هذا الشرق الى «مادة»، الى «موضوع»؛ لا الى ذات. الى كيان قائم بذاته.
هذا ما يقوله على الاقل ادوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»؛ حيث فكّك الادب ومناهج النقد الادبي الاستشراقييّن، وفنّدَ العنصرية الغربية «العلمية». وقد استحوذ الكتاب على اهتمام وتكريس لا نظير لهما في العالم العربي. وللمستشرق الأشهر، برنارد لويس، من بعد هذا التكريس، النصيب الأوفر من اللفظ والرفض العربييَن، والوصف بأشع النعوت. وكتبه، مثل الكتب المغضوب على مؤلفيها، تُعرّف بـ»عمالتها وتجسسها لصالح الغرب»، أكثر مما تُعرف بمضامينها.
ذيوع المشاعر المعادية للاستشراق في وسطنا تعزّزه الحرب الدائرة الآن بيننا وبين الغرب. وعلى مختلف الجبهات. وهذه المشاعر تندرج في الأتون الجهنمي من الردّ على المشاعر الغربية المعادية للعرب والمسلمين. مشاعر نامية بسرعة ولا تحتاج الى الاستشراق لتؤجّجها. ومكْمن قوة هذه المشاعر انها غالبة على العقل، وقادرة على جرفه الى انتاج الشعارات. وهي مجرد شعارات.
لكن حدّة المشاعر ضد الغرب وثقافته ورمي الاستشراق في سلّة العدائيات لا يعفي الشعوب والنخب المعادية للغرب وللإستشراق من التعرض لشيء من اوصافه. صحيح اننا نقرّع الغرب وكل ما ينضح به. ولكننا نحتقر الشرق ونزدريه بالقدر نفسه الذي يحتقرنا به المستشرقون. وربما اكثر. فمن عاداتنا التي اصبحت قديمة اننا لا نعترف بعمل من الاعمال، او بشخصية من الشخصيات، او بعالم او اديب او فنان… ولا نكرّس هذا الاعتراف نهائيا، ونعيد حوله ونزيد، ونستمد منه فخرا واعتزازا…، الا بعدما يكون الغرب اعترف به، وبشكل ما من الاشكال. وبصفة ما من الصفات.
وحياتنا «الفكرية»، اذ جاز التعبير، تضجّ بأمثلة من هذا القبيل، وبأخرى طريفة، خاصة في الاعلام حيث الترجمات والاقتباسات والطرق والاشكال ذات المصدر الغربي هي كلها المثل الاعلى، المقلَّد، المستنْسخ. فيما الآخر، رأس حربة العداء، هو هذا الغرب نفسه. هو في الوقت نفسه المرجعية التي تقضي ويُقتدى بها. دائما في البال، في الخاطر. في موضع جاذبية تتساوى بالكراهية…
الآن دخل عنصر جديد على المشهد، الى هذه البيئة. جيل جديد من ابناء الشرق، وقد تعلّموا في الغرب، وعاشوا فيه سنوات. بعضهم عاد، والآخر بقي هناك، ويعلم في جامعاته. اكاديميون مختصون بالشرق، بجانب من جوانبه؛ وبمناهج الغرب ومفاهيمه ونظرياته. ينتجون عن الشرق محلّلين مستكْشفين؛ ينشرون في جامعاته وباللغة الانكليزية. اذ لا يتقنون العربية. اكاديميتهم مبالغ فيها. لأنهم بعيدون عن الميدان ربما. لا يألفون الميدان…
لا نعرف الكثيرين من ابناء هذا الجيل. لكن الذين بلغنا صوتهم كانوا في اقصى العداء للغرب ولثقافته وسياسته واخلاقه. تماشيا مع روح العصر… ولكنهم يستمدون منه، في الآن عينه، هيبتهم وينتزعون اعترافا مبنياً على رنين شهاداتهم الغربية، او ممارستهم التعليم في جامعاته… أو إلقاء «المحاضرات» فيه؛ على رطانة انكليزيتهم التي يتقنون الفاظها؛ على عدم تواضعهم في اعلانهم انهم لا يحسنون العربية. (أطرف ما سمعته عن احدهم، ويكتب في صحيفة عربية، انه «فارغ وشتّام… ولكنه يعيش في الغرب ويعلم في جامعاته»).
وهذا ما يؤكدونه هم انفسهم، عندما يكتبون عن الشرق او يتكلمون عنه بكلمات مستجدة انكليزية؛ يقدمونها على انها مفاهيم سوف تساعد على معرفة اسرار الواقع الشرقي المختل. يعني بكلام آخر: هي «أكاديمية» تتلطى خلف كلمات لا معنى جديد لها. لا معنى لها في هذا السياق غير تأكيد تفوق المتفوه بها على القارىء او المستمع من ابناء هذا الشرق. جيل جديد من المستشرقين العرب الكارهين للغرب ولإنتاجه. الأقل ابداعا من المستشرقين المكروهين، الأقل «ميدانية»، الأكثر «أكاديمية» من بين كافة المستشرقين: أي الأكثر استخداما لعبارات صعبة لا يفقهها الدهماء المقيمة في الشرق، حتى ولو كانت من النخبة. الأكثر استعلاءً منهم على «مادة» شغلهم الاكاديمي المجهول. يستمدون حجتهم وهيبتهم وهالتهم من كونهم آتين من تلك البلدان المكروهة، او مقيمين فيها.
التعالي على الشرق والشرقيين من سمات الاستشراق الغربي. وايضا من سمات مستشرقينا العرب. وكذلك الانكباب على الشرق، سمة مشتركة بين الطرفين. وهما تمتلىء عيونهما بالنظرة من ثقب «الهوية». ولكن في حال مستشرقينا العرب، الوضع اكثر تعقيدا. ففيما يحتقر المستشرق الغربي الشرق بهدؤ وعقلانية، ويجلّ موطنه الغربي… فان مستشرقنا يكره الغرب والشرق، وبعُصابية وغضب. المستشرق الاول عالم حقيقي، بكل عنصريته واستعلائه. لكنه هاضم ثقافته وتراثه الغربيين، ومحترم لمرجعيته الفكرية… فيما الثاني غير واضح في علاقته مع مرجعتيه الغربية الضمنية، نابذ لها ومستنجد بأدواتها ولغتها؛ يستخدم بغير امانة ولا كفاءة ادوات هذا الغرب وكلماته؛ مزيف في غالب الاحيان، ومضخم في اقل منها. من غير هضم ولا تمرين. وهو غير صاف حيال اثنين: الشرق والغرب.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة
مستشرقون… لكنهم شرقيون عربمستشرق اَخر، الأنتروتولوجي الشهير طلال أسد. سعودي المولد، مسلم النشأة ما بين السعوديه، الهند وباكستان تابع دراسته في أدنبره ومنها أوكسفورد ويعمل حالياًَ كمدرس في قسم الدراسات الدوليه، جامعة كاليفورنيا. من كتاباته وأبحاثه الكثيره ” The Kababish Arabs: Power, Authority and Consent in a Nomadic Tribe” وأصدر بالإشتراك مع روجر أون وسامي زبيده أثناء عمله كمحاضر في جامعة “Hull” في إنكلترا جورنال ( – Review of Middle East Studies (1975 كتاب اَخر: ” Discipline and Reasons of Power in Christianity and Islam (1993 ” يتحدث به عن التعاليم الدينيه في الإسلام والمسيحيه وعلاقتها بهرم السلطه في المجتمعات… قراءة المزيد ..
مستشرقون… لكنهم شرقيون عربالسيده البزري تجحف الاَن بحق الكثير من المستشرقين ذوي الأصول الشرقيه، وأذكر هنا على سبيل المثل لا الحصر البروفيسور سمير أمين الذي يعد وبمقاييس غربيه من أكبر مفكري القرن العشرين، وأهمّ باحثي الماركسيه الجديده ونظرية التطور الثقافي النسبي، في دراسة و نقد علوم الإجتماع. إضافة إلى الكثير الكثير من الأعمال الأخرى وأشهرها أنه والمفكر الألماني المعروف أندريه غوندر فرانك صاحبا نظرية المركز والهوامش perifiry-center theory وملخص هذه النظريه هو أن المركز والممثل بالغرب هو المستفيد الأكبر من الهوامش المتمثله بالعالم الثالث. مستشرق اَخر وثوري معروف هو فرانتس فانون السنغالي الأصل وكسمير أمين فرنسي الثقافه من مناضلي الثوره… قراءة المزيد ..
مستشرقون… لكنهم شرقيون عرب
مقال ممتع! ولكن هلا ذكرت الكاتبة لنا بعض الأمثلة عن هؤلاء المستشرقين العرب ليستطيع القارئ معرفة عمن تتكلم الكاتبة ؟!