كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن شمال لبنان وطرابلس على انها مرتع الاصولية والحركات السلفية والجهادية وما الى هنالك من نعوت وتسميات تجعل منها ملاذا آمنا للمسلحين وغابة من غابات “تورا بورا” او قندهار او وزيرستان.
إن هذه التوصيفات لعاصمة الشمال اللبناني تفتقر الى الكثير من الدقة وتنمّ عن كثير من الجهل بتاريخ هذه المدينة وحاضرها، وكذلك مستقبلها.
*
باديء ذي بديء وقبل رسم الخريطة السياسية لمدينة طرابلس وتوزع القوى السياسية التي من بينها “السلفية،” لا بد من الاشارة الى ان مدينة طرابلس كانت رافدا من روافد العمل الوطني والقومي في لبنان ومنها خرجت قيادات لبنانية ليس آخرها رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رشيد كرامي الشهابي الالتزام السياسي رافض العنف والتعنت الطائفي، وكذلك عدد من قيادات رئيسية في الحزب الشيوعي اللبناني من بينها محمود الواوي وابو حسن المير الايوبي، ومنها وفيها قيادات من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهذه احزاب علمانية لها انصار في المدينة، إضافة الى كونها عاصمة للشمال اللبناني وملتقى للوافدين من اقضيته كافة بمذهبهم وطوائفهم وانتماءاتهم الدينية والحزبية والعائلية والعشائرية. وهي السوق الرئيسي للشمال الممتد من البترون حتى اقاصي عكار.
وللعلم ايضا، لم تستطع القوى المسماة سلفية او اصولية ان تحدث إختراقا بنيويا في النسيج الاجتماعي للمدينة عبر تاريخها الطويل. فـ”داعي الاسلام الشهال” ووالده من قبله عملا لنشر الافكار والدعوة السلفية لاكثر من خمسة عقود دون ان يستطيعوا حتى اثبات وجودهم السياسي في المدينة. فلم نشهد دخول ايا منهم الى الندوة النيابية، كما اننا لم نسمع سابقا عن ميليشيا الشهال.
وحدها “حركة التوحيد الاسلامي” استطاعت فرض سيطرتها على المدينة ولكن ليس بسواعد عناصرها بل لظروف واسباب سياسية ارتبطت بعودة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات الى مدينة طرابلس لتعويض انسحابه من بيروت في اعقاب الاجتياح الاسرائيلي ووسط تصاعد حدة الخلاف بينه وبين الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد عندها اقتطع ابو عمار مدينة طرابلس وسلمها لحركة التوحيد الاسلامي بقيادة الشيخ سعيد شعبان، قبل ان تُخرجه منها القوات السورية اواسط الثمانينات من القرن الماضي، بعد حصار وقصف استمرا لاكثر من ستة اشهر، اسفرا عن إخراج ابو عمار من المدينة، والقضاء على حركة التوحيد الاسلامي. فقتل من قادتها من قتل، فيما تم اعتقال المتبقين وفي مقدمهم هاشم منقارة،الذي كان يطلق على نفسه تسمية “أمير الحركة في محلة الميناء”، وتم الابقاء على الشيخ شعبان حرا لاسباب غير معروفة، ربما لانه رجل دين تحاشت القوات السورية الفاتحة للمدينة ان تعتقله.
بعد انفراط البنية التحتية العسكرية والسياسية لحركة التوحيد الاسلامي، استمرت التبرعات في التدفق للحركة، فاستأثر بها اميرها الشيخ شعبان وأورث الحركة وموجوداتها لنجله بلال ما مكنه من التمتع بنفوذ مالي واسع.
ومع ذلك، لم يستطع بلال شعبان ان ينهض بأود الحركة، واختلف مع هاشم منقاره بعد خروجه من السجون السورية التي امضى فيها ردحا طويلا من الزمن، قبل ان يتم إطلاق سراحه هو وسمير الحسن، وهو من قباضايات باب التبانه، بوساطة من رئيس الحكومة الاسبق نجيب ميقاتي، قبل موسم انتخابي حاسم. وتعهد الرئيس ميقاتي ان يعمل منقاره والحسن بما لا يتناقض مع سياسة سلطة الوصاية السورية في لبنان، على ان يتكفل ميقاتي بنفقات الاثنين معا.
منقاره، وبعد خروجه من السجن، طالب بحصته من موجودات حركة التوحيد. إلا أن بلال شعبا رفض طلبه، بحجة ان الاموال والمساعدات والتبرعات تم صرفها على عائلات الشهداء والمساعدات، فاختلف الاثنان ولم تفلح علاقاتهما الممتازة بحزب الله، في تمكن الحزب من رأب الصدع بينهما الى الآن.
اما عسكريا فحيث اخفق شعبان نجح منقاره. اذ استطاع ان يجمع حوالي مئة مسلح مجهزين بكامل عتادهم عمل على تدريبهم على يد حزب الله، حيث يعول منقاره على دعم الحزب له على المستويات كافة، اما شعبان فلا يتجاوز عدد المسلحين من حوله العشرات الذين يقومون بحراسة منزله وممتلكاته وممتلكات الحركة.
في البدايات تشكلت اول نواة عسكرية لما يسمى بالحركات الاصولية والسلفية في محلة “ابي سمرا”. وكانت تطلق على نفسها تسمية “جند الله” بقيادة فواز آغا. وشاركت هذه القوة على صغر حجمها في حرب السنتين، لتتبخر بعد دخول قوات الردع العربية الى لبنان اواسط السبعينات، فعمل احد قادتها كنعان ناجي، على إزاحة فواز آغا واستأثر بالحركة ولم يعد لها اي وجود عسكري، وتحولت الى العمل الخيري، فأنشأت مستشفى وجمعيات خيرية تعمل على جمع التبرعات والهبات من اكثر من مكان، وتسلم فواز آغا مسؤولية المستشفى والعائدات التي تنتج من العمل فيه.
“داعي الاسلام الشهال” هو الاقوى حاليا بين القوى المسماة “سلفية”، ويتم تمويل حركته من السعودية يليه “حسن الشهال” وهو الاقوى ماديا ويمّول من الكويت ثم “عبد الغفار الزعبي” الذي انضم الى حسن الشهال نظرا لما وفره له من دعم مادي كما ان هناك فرقة سلفية رابعة يتزعمها احد الاشخاص من آل الرفاعي.
ويقدر مراقبون في مدينة طرابلس عدد اتباع الحركات السلفية الاربع بثلاثمئة شخص في احسن الاحوال، باعتبار ان ليس جميع الملتحين من الاصوليين، كانوا على الحياد في الاحداث الاخيرة التي اندلعت في المدينة بين باب التبانة وبعل محسن، حيث لم تخرج مساهمتهم عن العراضات العسكرية وحمل السلاح في الشوارع ولم يطلقوا رصاصة واحدة في اتجاه بعل محسن، معقل العلويين.
والحديث عن الاصوليين تستوقفه ظاهرة الدكتور فتحي يكن المموّل من حزب الله وهو زعيم ما يعرف بالجماعة الاسلامية.
يكن على علاقة جيدة بالاخوان المسلمين في العالم العربي وتركيا. فهو صديق حسن الترابي في السودان، وصديق للاسلاميين الاتراك، ويقال انه لعب دورا في تقريب وجهات النظر بين تركيا والنظام السوري بعد وصول الثنائي اردوغان وغل الى السلطة في تركيا.
يشار على هذا الصعيد ان جميع هذه الحركات تعمل تحت ستار جمعيات خيرية واهلية ودينية تقدم المساعدات التي تصلها من التبرعات من غير مكان وان كان ابرزها من المملكة العربية السعودية. وهي تقدم خدماتها للفقراء والمعوزين، وهم كثر في طرابلس، دون ان تستطيع تجنيدهم في صفوفها، حيث ان معظم المجندين في صفوف الحركات الاصولية والسلفية الطرابلسية، هم من الطلاب الذين درسوا الشريعة في المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من ان داعي الاسلام الشهال لديه العديد من المدارس الدينية إلا ان طلابه يغادرون صفوف الجمعية بعد انهاء دراساتهم الشرعية.
ومن الحركات السلفية الى باب التبانة هناك خصوصية ترتبط بالصراع المزمن مع الجار العلوي في بعل محسن.
كان خليل عكاوي الذي كان يعرف بـ “أبو عربي” يسيطر على منطقة باب التبانة، ولكن عكاوي لم يكن اصوليا ولا سلفيا، لا هو ولا جماعته. فعكاوي كان من انصار ابو عمار وكان يعتمد عليه في التجهيز والتمويل، وعندما أُخرج ابو عمار من طرابلس قُتِلَ عكاوي، فتوزعت حركته الى حركات تتوحد في مواجهة بعل محسن على تعدد ولاءاتها وانتماءاتها.
ابرز قيادات الصف الاول في باب التبانه “عربي عكاوي”، نجل عكاوي ويقال ان تمويله حاليا مصدره الحزب الشيوعي وان الحزب يدفعه لاستعادة دور والده، الامر الذي لم يفلح عربي عكاوي في تحقيقه الى الآن، لا في أخذ موقع والده، ولا فرض سيطرته على المنطقة، لاكثر من سبب ابرزها اختلاف الظروف التي رافقت نشأة والده والظروف التي يمر بها عربي حاليا.
بعد عربي هناك المقدم “سمير الحسن” الذي ما زال ملتزما بالاتفاق مع الرئيس ميقاتي ويحتفظ بعلاقة جيدة مع حزب الله وتنظيم جند الشام. هناك ايضا الرقيب ملص الذي يقال إنه يرتبط بجهاز الامن والمعلومات في لبنان. وهناك محمود الاسود الذي اسس افواج طرابلس المرتبطة تنظيميا مع تيار المستقبل بزعامة النائب سعد الحريري، اضافة الى بلال مطر الذي تبدو ارتباطاته ملتبسة وهو يسعى الى التقرب من تيار المستقبل. وهناك ايضا عزيز علوش المرتبط بحركة امل والوزير محمد الصفدي، وامام جامع حربا الشيخ مازن محمد المرتبط بحزب الله.
والى الحركات السلفية لا بد من تسجيل وجود تيارات أخرى في طرابلس ابرزها العائلات السياسية وفي مقدمها بيت كرامي والجسر وهما من العائلات العريقة في المدينة، وتتبادلان تولي مسؤولية الافتاء في المدينة والتمثيل النيابي حتى اليوم. اضافة الى عائلات ميقاتي، الصفدي، كباره، الفاضل، الرافعي، المقدم، زيادة، الاحدب، وسواها. وهي عائلات توالت على تمثيل المدينة نيابيا سياسيا واجتماعيا ودينيا. وهذه العائلات يُشهد لها باعتدالها وصداقاتها المتنوعة المشارب مع مسيحيين وشيعية حتى ان البطريرك الحويك كانت تربطه علاقة مميزة بعائلة الجسر في طرابلس يوم كانت طرابلس لا تعترف بلبنان الكبير الذي اعلن عنه بعد الاستقلال وتطالب بالانضمام الى سوريا.
وإزاء هذه الصورة البانورامية يمكن استخلاص مجموعة من الاستنتاجات وفي مقدمها ان طرابلس مدينة غير حاضنة للتيارات السلفية والاصولية. وثانيها ان حزب الله وحتى حركة امل استطاعا إحداث خروقات في النسيج السياسي للمدينة من خلال ارتباط بعض الحركات بهما. وثالثهما ان بعض قادة الحركات يرتبطون بقيادات المدينة السياسيين على غرار الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي وكلاهما ليسا من الاصوليين ولا من السلفيين. وعلى العكس، من ذلك فكل من الرئيس والوزير مشهود لهما باعتدالهما وحسن تواصلهما مع المكونات السياسية اللبنانية كافة وطبعهما التوافقي.
وفي سياق متصل يتساءل أبناء طرابلس عن جدوى ما قيل انه مصالحة رعاها زعيم تيار المستقبل سعد الحريري فيقولون ان ما حصل لا يعدو كونه “هدنة” بأكثر من دليل. اولها استمرار الاحداث الامنية بوترة يومية من القاء قنابل على الخط الفاصل بين التبانة وبعل محسن، إضافة الى ان الحريري ليس طرفا في الصراع الدائر في الشمال وان كان تصالح مع علي عيد زعيم العلويين. فما جدوى مصالحة اشخاص لا يتقاتلون؟ فالمعارك بين باب التبانة وبعل محسن سابقة في وجودها لتكون زعامة آل الحريري السياسية، وحتى اليوم لا يستطيع اي من القاطنين بالقرب من خطوط التماس التقليدية بين المنطقتين العودة الى منزله. اضافة الى ان المصالحة تستوجب آليات ميدانية لاعادة اطلاق حركة التفاعل الشعبي بين سكان الحيين في بعل محسن وباب التبانة، وما لم يتحقق هذا الامر فالمصالحة عرضة للانتكاس في اي وقت.
لطالما شكلت مدينة طرابلس ملتقى تيارات سياسية مختلفة علمانية وقومية ودينية إلا أنها لم تكن يوما سلفية الطابع والهوى وهي لن تكون كذلك لانها تفقد معناها التاريخي وتتنازل عن ماضيها حيث لن تجد مستقبلا لها في ايدي العابثين.
اخيرا لا بد من التذكير من ان جميع الحركات التي تسمى اصولية او سلفية نشأن في كنف ابو عمار وتعاطت جميعها مع الاجهزة الامنية لسلطة الوصاية السورية، وما يقال اليوم عن ارتداد هذه الحركات وتهديدها للامن في لبنان وجواره ليس سوى كلام غير محق ويراد به باطل.
richacamal@hotmail.com
• كاتب لبناني- دولة الإمارات