تأبطتُ روايتين من رواياته: “أشياء لا تموت” و”تحت حوافر الخيل- متراس أبو فياض” (فرج الله الحلو)، ومتمهل الخطى سرت متمشيا من آخر شارع الحمرا برأس بيروت الى قصر اليونسكو لحضور امسية ستقام بعد ساعتين لمناسبة ربع قرن على رحيله، رفيقهم أيمن، أبن قريتي التي ماتت “محمد عيتاني”.
في حكايتيه: “الجياد الغاربة” و”تحت حوافر الخيل”، تتباعد الامكنة جغرافيا، تتعولَم في الاولى وتنكمش في الثانية، لكن مضمونهما يبقى واحدا. الشر، هذا الشر يبقى محصوراً بشخص بعينه لا أسرته ولا طبقته ولا جنسه ولا لونه ولا طائفته. الشر لا يولد مع الانسان، فالاصل فيه الطيبة ولكن العناد و الاصرار يدفعانه الى الانزلاق نحو نهاية مأساوية محتومة. والشر في الحكايتين صناعة ذكورية بحتة، و لشدة ذكوريتها وعناد صاحبها فهي تسقط الفرصة الأخيرة. دائما تقدم الأقدار فرصة أخيرة، ولكنها لن تبدل من حتمية النتيجة.
في “الجياد الغاربة” يضيّع كامل أفندي حيمود فرصة النجاة. وفي “تحت حوافر الخيل” يضيع عبد الودود أبو زكريا الفرصة التي حلت عليه بفضل تعليمة سباق الخيل التي لقنه اياها في المنام “الشفيع مار الياس” وكسب منها 150000 ليرة. حيث في زمانها آواخر خمسينيات القرن الماضي كانت كافية لاسترداد كل أراضيه برأس بيروت والتي أضاعها عبد الودود ببيعها وصرف ثمنها على مراهنات الخيل (السبق ).
في الحكايتين، تحضر الطبيعة بتفاصيل رق نسيمها وتلون أزهارها وعبق رائحة أشجارها، تحضر بسمائها ومائها وتخاتل دروبها وزقزقة طيورها وبحرها ان كانت موصولة به، مفصولة. وفي الحكايتين تختفي العمارة وينمحي البيت فلا يبقى منه الا مدخله او مصاطبه فقط، مداخل البيت، حديقته الصغيرة شتلات الورد المصفوفة في ” التنك” على السور الخارجي البسيط القليل او المعدوم الارتفاع. سور ليس بسور، لا يحجب النظر بين الخارج والداخل، بين الدرب ومصطبة البيت. البييوت عند “عيتاني” هي بيوت من الخارج كأن ناسها لا تعيش بداخلها. .البيت و العمارة عند عيتاني ترى شبابيكه المفتوحة على الطبيعة وعلى الجيران نوافذ للتواصل النظري والصوتي، تسمع صوت اصطدام خشبها بالحائط وارتدادهاعند فتحها بسرعة لأمر جلل. كيف لا والمحلة وبيروت والبعد الانساني كلها عند بيته .وكل هذه عنده وسائط او مقدمات لترى الناس الناس العاديين البسطاء في سكنهم وسكانتهم، عيش ترى منه في “رأس بيروت” جانبه الهانيء، علاقات العمل لا صورة لها لا في الوظيفة العمومية ولا الخاصة كأجير ولا في الورشة ولا في الحقل ولا في أي قطاع انتاجي…
في الحكايتين ينقل “عيتاني” حكي الناس، حكيهم مع بعضهم بالكلمات، قلقهم توترهم، يتركهم يتحاورون، يتدخل ساردا من الخارج ثم يتراجع لتسمع حوارهم – صراخهم مجددا و”عيتاني” ممسكا بالقارىء مجبرا له على اللهاث في القراءة ليقفل الحكاية بكلمتين او جملتين او صوت رصاصتين تفهم منهما النهاية الحتمية.
وفي الحكايتين يظهر لي الراوي “عيتاني” راويا إنسانيا إجتماعيا يروي الفرح والاحلام ونهاية المسار والمصير. ليس فنّه من نوع الفن للفن ولا من ذاك النوع الخشبي “الملتزم بقضايا الطبقة – الارض النضال السياسي” الخ. كأن “عيتاني” أقرب الى “كامو” منه إلى “سارتر”. في الروايتين يظهر انتماؤه الى الحزب الشيوعي في جملة او جملتين وكأنهما حشرا من عقل الكاتب لا من هواه. من خارجه لا من جواه. في قصة “تحت حوافر الخيل”، يقول هاشم الابن الثاني للحاج عبد الودود: “كنا كلنا طلابا ثانويين او طلابا جامعيين، ناجحين إجمالا، و بديهي أننا لم نجد امامنا سوى الحركة التقدمية اليسارية اللبنانية ننضوي تحت لوائها لتغيير هذه الحياة القذرة”. وفي “الجياد الغاربة”، ثمة مقطع محذوف او استجاب عيتاني بسهولة لخذفه، مقطع كان يسمي بالاسم المباشر جهة حزبية معينة كما يستدل على ذلك من مقدمة من اختاره لتقديم روايته “اشياء لا تموت”، صديق قديم للعيتاني اختاره من دون سواه ممن كانوا معا في “رابطة الحبل الملهم”. فقط هاتان العبارتان تحس بهما مدسوستان من خارج النص.
طريقة “عيتاني” لتناول الحكايتين – السرديتين تكشف عن فنان لا يلتزم بمذهب جامد ولا بتسلل تاريخي جامد ثابت. فالسردية عنده مشاهد. مشاهد تناسب متناسبة مع الموضوع وتشد من بدايتها القارىء. يستهل عيتاني سردية “الجياد الغاربة” والتي تدور حوادثها المفترضة في اقاصي غرب لبنان الجنوبي بالقرب من حاصبيا، تدور بين بقايا الأقطاع و الفلاحين، يستهل عيتاني سرديته بـ”ضربة ريشة الفنان” كما أحب ان أشبه البناء السردي الناجح:
” في ساحة القرية، تحت جدار المسجد، وقرب الحجار الطويلة الصفراء، امام فلاحين جالسين على الحجارة، طعنه كامل افندي عدة طعنات. طعنة في الصدر، في الأحشاء، ثم دفعه بقدمه ملقيا إياه في احضان الفلاحين. تساقطت دماؤه على البساطير الغليظة الغبراء”.
في الصفحة التالية نجد مباشرة المشهد التالي، مشهد الطبيعة العام لندخل منه الى القبو مباشرة. في القبو يبدأ الماضي بالانتصاب وفي القبو – القبر و المقبرة تنتصب ضحاياكامل افندي وابيه. وتنهض من تحت تراب القبو- مقبرة الأسرارالعميقة السوداء البشعة، جريمة الجرائم ، إشتراكه و ابوه في قتل اخيه الصغير غسان كي لا يشهد على جريمة مروعة اشتركا فيها:
” قبل دخوله القبو، القائم تحت داره الكبيرة ، القى كامل افندي نظرة سريعة حوله على الراوبي الغربية الصهباء. الوان الخريف الشقراء و الحمراء المخيفة في كل مكان. وسرح بصره مرتعشا على الصخور الباردة وجذوع الدوالي العالية وأغصان اللوز البنية الحمراء…… أين أنت الآن يا أيام العز؟ حينما كانت خيول آل حيمود تهبط كأمواج زرقاء و بيضاء [منظر البحر لا يغيب عن إبن رأس بيروت] مكتسحة الجبل الغربي وحاصبياعائدة بدوي المجد، والسبايا الجميلات….. واخوك غسان كم تبلغ ديته وسمية صديقتك القديمة وابنتها نادية وفي بطنهما جنينان …. هنا توقف الجواد الاشهب ذات ليل وعلى صهوته جثتا الارملة الجميلة وابنتها نادية وفي بطن كل منهما جنين. لقد قتلهما المختار عمر افندي وابنه كامل بعد ان انتفخ بطن المراتين منذرين بفضيحة مدوية. الاب والابن اشتركا في نفخ ام وابنتها…. قرب الحفرة يا كامل افندي ضغط ابوك على عنق ولده الصغير غسان وأعنته انت على تثبيت اطراف أخيك. قاوم الصغير كالأبطال ومزق ايديكما وارجلكما عضا ورفسا لكنكما غلبتماه خنقتماه ثم دفنتهماه في حفرة سميّة وابنتها نفسها [قتلوه خشية ان تكشف جريمتهما فلا يشهد عليهما].”
ولئن كان السرديتان اعلاه موجهتان للقارىء ، فسردية “النار” في “اشياء لا تموت” قد تكون أشبه بسيرة ذاتية… تروي السردية ولدا محبا للحياة واعدا متعلقا بها، بالذي ما فيها من ذكورية اساطير المجد مع وسع صدور النساء بكبر الثديين. هذا الولد يكبر و يكبر مهوسا باسطورة ماجد الازهري. بطل مجاهد ثوري عربي قاتل الاتراك والفرنسيين ومات في معتقله بجزيرة ارواد بعيدا عن حبيبته. لكن الى جانب سلم اساطير المجد و حلم الأمة، حلم العقل و اوهامه، سر الحضور، هناك استراحة القلب ورغبة النفس وعشق الجسد، هناك هذه الحقيقة الطبيعية الأولى التي تبقى سر الوجود، الأنثى ….
لم يستمع صاحب السيرة شبه الذاتية واسمه فيها، صلاح البيروتي ،لم يستمع الى نصيحة صديق له من محلته ومدرسته يشرح له كيفة التعامل في مثل هذه المواضيع فيدله على الطريق:
” لا تقصر يا صلاح. شو بدك بالشعر والدفاتر، لا تكتب مكاتيب ولا بطيخ. قل لها شو بدك منها هيك بصراحة. خود موعد منها غط عليها لما يكون جوزها مش بالبيت. خدها عالمنارة فوتها بين القمح ودبر حالك معها!”.
كان هوى صلاح البيروتي في سر الحضور. عقله، خياله يذهب مع كلمات ماجد (من المجد) الازهري (من الازهر قلاع من قلاع الهوية) يقول ماجدأو فداء… :
“حين تصيبني رصاصة غادرة من بندقية أجنبية، ويدفنوني في تلال ميسلون، و تغني الريح والعقبان فوق ترابي مائة عام. أزيحي، إن جئت، التراب عن عظامي، وسترين يا حبيبتي ، قبضة اليمين مشدودة، ورصاصة وردة موت تغني وتغني”.
سر الحضور هذا ردّ صلاح البيروتي لحظة تمدد تللك المرأة الانثى امامه عارية بعد سنين من الهيام عن ولوجها وايلاجها. ولوج سر الوجود، فصعقته بكلمات لم يكتشف قيمتها الا بعد مرور العمر وضياع الفرص:
“بس بدي قول لك، إنك لو صرت مثل جبران خليل جبران أو المتنبي، بدك تضم حمار طول حياتك !”
وحين يتخرج صلاح البيروتي من الجامعة بدرجة الدكتوراة في موضوع الادب، و موضوعه ماجد الازهري، يكتشف ماجد الازهري موجودا في كل مكان بنفس الحكايات وفي كل مكان هو منسوب الى ذاك المكان. في ختام مشهد رواية النار مسيرة الحضور و الامة، يتدخل الراوي عيتاني من خارج السرد مختتما المشهد الاخير للنار :
” بل كان الأستاذ صلاح البيروتي يحس بالقلق لأنه بعد قليل سيحدث تقابل صدامي، ربما كان فاجعا، لأول مرة بين الحلم القديم بكل امتداده و عربدته السكرى وبين الحقيقة البسيطة المتواضعة والكبيرة. وكان يحس بكل قوة ويقين أنه سيواجه مرة أخرى عريا نقيا ومعبودا (وغير مرفوض هذه المرة ) على سرير الموعد.”
توفي محمد عيتاني في 20 آذار 1988 . صلى أهله، عشيرته وابناء بلده عليه ودفن في مقبرة الشهداء تحت ظلال صنوبر بيروت و بجوار مسجد الخاشقجي إلى جانب أهله البيارتة الطييبين. وقرأت على شاهده بخيالي العبارة التالية: يا صاحبي ان مررت بقبري فأقرأ لروحي الفاتحة.
مات محمد عيتاني قبل ذلك بكثير. مات عندما أكتشف انقلاب الرفاق وعندما تعرف على اجتياحات بيروت ليس على يد الاسرائيلي وحده، بل على يد أحفاد الرفاق……….
وهنا وصلت مكان الاحتفال بذكرى وفاة محمد عيتاني. دخلت قاعة اليونسكو للمشاركة. بين الحضور كان الكثير من البيارتة والمتبيرتة الذن لم يشتركوا في غزوي. ( ليس منّا من خرج بسلاحه علينا).
itani_farouk@live.com
كاتب لبناني
محمد عيتاني، طيبة لا تموت
تحية لروح محمد عيتاني وشكراً للكاتب على هذه الإطلالة الموجزة على عوالمه الروائية والحياتية