لا يمكن أن تشعر أمام ذلك الدفء الإنساني المشع من المفكر الجزائري الكبير المقيم في فرنسا محمد أركون إلاّ بالكثير من الحب والإعزاز والاحترام. فمنذ الوهلة الأولى ستعرف أنك صديقه منذ سنوات طويلة، بل كأنكما تستكملان حديثاً انقطع الليلة الماضية فقط.
فإلى جانب انجازه الفلسفي/الفكري المميز، والذي يُقارن –أحياناً– بالثورة الابستمولوجية (المعرفية) والمنهجية التي قام بها عدد من المفكرين الفرنسيين مثل: ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرانسوا فوريه، لعب الدكتور أركون دوره الرائد في ربط الشرق بالغرب ليس على المستوى الفكري والفلسفي والإبداعي فحسب، بل على المستوى الإنساني أيضاً.
إن الكتابة عن مفكر بحجم أركون لابد أن تأتي منحازة للخير والحق والجمال. فالكتابة عادة؛ -الكتابة الحقيقية- تأخذ رائحة وشكل ولون موضوعها، والكتابة الحقيقية تؤثّر في كاتبها، ربما أكثر مما تؤثر في القرّاء.. والكتابة عن محمد أركون من هذا النوع، فهي تضع الكاتب في هذه الدرجة الجميلة من الشفافية والزهد، فكأنك بالكتابة عن هذا المفكر الكبير/الجميل تدخل مدارج السالكين الذين يتَّسمون بالصبر والطمأنينة.
لست في حاجة إلى القول بأن الدكتور محمد أركون ليس مجرد مفكر ومؤرخ وباحث وناقد ومحقق وكاتب من طراز رفيع؛ إنه حالة نموذجية للمثقف الحقيقي في عالمنا الراهن، إنه المثقف الأكثر اكتمالاً، فدوره في الحياة الثقافية العربية/الإسلامية كبير كرائد في الفلسفة والفكر التنويري في المغرب العربي، ومرتحل وراء الأعمال الإنسانية العظيمة في المشرق العربي.
ينشر العلم.. ويتعلم منه
وهكذا، فإسهام الدكتور أركون في المحافل الثقافية؛ المؤتمرات، الندوات، حلقات البحث، الدوريات والمجلات الرصينة المحترمة وغيرها مما هو إيجابي في حياتنا الثقافية العربية، لا يمكن إغفاله أو تجاوزه. وبذلك يمكن القول بإنه ينشر العلم، ويسافر وراءه حيث يكون، بل ويتعلم منه أيضاً.
كل ذلك يفعله بهدوء، كما يتكلم بهدوء، ويضع يده دوماً على مفاصل المعارك الفكرية، أو مفاصل القضايا الفلسفية، فيجلي ما غَمض فيها، ويقدِّم كشوفاته المعرفية/الفلسفية/النقدية الجديدة دائماً، سواء ما كتبه عن الفكر العربي/الإسلامي القديم والحديث والمعاصر، أو ما تناوله من تحليل/تفسير للخطاب/العقل الديني، أو ما كتبه عن الأنسنة والاستشراق.
إنه أحد النماذج الحيّة/الطريّة لاكتمال المثقف، كما أنه نموذج مثالي على التحضّر أيضاً؛ التحضّر الذي يجعل الإنسان يُدرك أنه في دائرة إنسانية وليس في غابة.
مشروع فكري حقيقي
والدكتور محمد أركون، هو الباحث والمؤرخ والمفكر المجدِّد الذي يعد واحداً من أعلام الدراسات العربية/الإسلامية في الجامعات الغربية، ويكاد يكون من المفكرين القلائل في العالمين العربي والإسلامي، الذين يملكون مشروعاً فكرياً حقيقياً يتجاوز إطار الجامعة والدراسات الأكاديمية ليصب في همّ الإصلاح والتنوير والتحديث الذي طالما شغل المتكلمين والفلاسفة المسلمين، وروّاد النهضة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر.
إن أهمية الدكتور أركون تنبع من كونه مفكرا طليعيا في مجال علوم الإسلام ودراساته، من حيث إنه يستخدم كل معارف ومناهج علوم الاجتماع والدراسات الانسانية ويوظفها في تحليل الإسلام. فقد وظَّف البنيوية والسيميائية والانتربولوجيا البنيوية ومناهج تحليل الخطاب أو مابعد البنيوية في تشكيل نظرته الخاصة للإسلام وللعقل الإسلامي.
لقد أنجز خلال الأربعين سنة الماضية من البحث والتدريس في جامعة السوربون، عدداً كبيراً من البحوث والمؤلفات حول الفكر الإسلامي والظاهرة الدينية، جاءت في معظمها باللغة الفرنسية وترجمها إلى العربية الباحث والكاتب القدير هاشم صالح.
التفكير في «اللامفكَّر فيه» إن مشروع محمد أركون الفكري مسكون منذ البداية بهاجس الأنسنة في السياق العربي/الإسلامي، وبهاجس القطيعة مع الخطابات الأيديولوجية الموجّهة إلى المخيلات الاجتماعية.
لقد سعى عبر نقده للعقل/الخطاب الديني الإسلامي إلى جعل «المستحيل التفكير فيه» أو «اللامفكَّر فيه»، وهما من مصطلحات الأساسية في مشروعه، شيئا يمكن التفكير فيه داخل ساحة الفكر الإسلامي المعاصر. ويقصد أركون بـ«المستحيل التفكير فيه» و«اللامفكَّر فيه»، ضمن رؤيته، إلى كل ما حذفه/أهمله الفكر الإسلامي من دائرة اهتماماته منذ القرن الثالث عشر على الأقل، بحيث أصبحت الأشياء التي يمكن التفكير فيها أقل بكثير من الأشياء التي يستحيل التفكير فيها. وهذا بحد ذاته دليل على تحجّر هذا الفكر وانغلاقه في شرنقة من المعتقدات الجامدة والمغلقة، ومن هنا جاءت ضرورة النقد.
لقد عمل/يعمل الدكتور أركون بجهد دؤوب على فهم الظاهرة الدينية وفق منهج التاريخ المقارن للأديان، وعلى إنتاج تاريخنا الخاص بعمل الذات على الذات وبتحقيق قراءة نقدية للتاريخ الذي ينتجه الآخرون لنا.
الصدمة الثقافية الأولى
ولد محمد أركون سنة 1928 في «توريرة ميمون» بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، جاءت عائلته إلى القرية باحثة عن الحماية بعد أن تركت موطنها الأصلي في مدينة قسنطينة، وفي هذه المنطقة دخل محمد أركون المدرسة الابتدائية لكنه غادر هذه المنطقة في سن التاسعة ليلتحق بأبيه الذي كان يملك دكاناً في منطقة «عين العرب»، وهي قرية غنية يقطنها فرنسيون بالقرب من مدينة وهران العريقة. وكان عليه أن يتعلم صنعة الأب في البيع والشراء، وفي الوقت نفسه أن يواصل تعليمه الثانوي.
هذا الانتقال كان بالنسبة لمحمد أركون «صدمة ثقافية»، فهنا وعي بألم مسألة كونه أمازيغياً وينتمي لأقلية ليس لها من المكانة والحقوق مثلما للعرب، وانه خارج منطقة/نفوذ/حدود البربر لا يستطيع من الناحية اللغوية أن يعبّر عن نفسه بوضوح، لذا كان عليه أن يتعلم العربية والفرنسية في وقت واحد.
لكن الفضل يعود إلى خاله؛ وهنا يمكن أن نستذكر الدور الكبير والمفصلي أيضاً لخال شخصية كبيرة أخرى هي شخصية المصلح الكبير الشيخ محمد عبده، في إنقاذه من المصير الذي رسمه له والده. فقد كان هذا الخال منتمياً أو قريباً جداً من إحدى الفرق الصوفية، لذلك ضمن له تعليماً جيداً، بل ان تأثير خاله كان عميقاً عليه جداً. ومن هنا يفسر الدكتور أركون عمق فهمه لتأثير الدين على الناس أو حتى بلورة مفهوم «الدين الشعبي»، وكذلك فهم التصوف، فقد كان يتعلم القرآن وأصول الدين من جهة، وكان يذهب مع خاله وأبيه إلى المجالس الدينية في القرية، والتي كانت جزءاً من الحياة اليومية للقرية.
اطلاع موسوعيّ بلا حدود
حالت الظروف الاقتصادية الصعبة للعائلة دون إرسال ابنها البكر محمد إلى العاصمة لمواصلة الدراسة الثانوية، مما اضطرها الى إرساله ما بين الاعوام 1941 و 1945 إلى مدرسة ثانوية مسيحية أقامها بعض الرهبان في قرية مجاورة. هذه المرحلة يصفها الدكتور أركون بأنها مرحلة اكتشاف الثقافة اللاتينية والأدب، والتعرف على آباء الكنيسة الأفريقية مثل: أغسطين، وترتوليان، الى جانب التعرف على القيم المسيحية الكبرى، ولاسيما حب الآخر.
بعد ذلك، دخل الجامعة في العاصمة لدراسة الأدب العربي ما بين الاعوام 1950-1954، وكان يعطي دروساً في إحدى الثانويات من أجل أن ينفق على تعليمه الجامعي. إلاّ أن الدرس الجامعي في الأدب لم يشف غليله، فانخرط في دراسة القانون والفلسفة والجغرافيا، وفي هذه الفترة بدأ تركيزه على الفلسفة العربية، لكنه وضع نصب عينيه الدراسة في العاصمة الفرنسية باريس.
التحق محمد أركون بالسوربون في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت أجواء فرنسا ما بين الأعوام 1950 – 1960 دفعته للتركيز على مصطلح/مفهوم «النهضة». وفي هذه الفترة انهمك مثل بقية أبناء جيله بهموم العالم الثالث والبحث عن «طريق ثالث»، كما تنامى لديه الوعي السياسي الذي دعمته طروحات المناضل/الطبيب النفسي فرانز فانون. ثم جاء تحرير/استقلال الجزائر وفترة الرئيس هواري بومدين، وأخيراً النكسة العربية العام 1967، التي دفعت به الى مأزق نفسي عميق تقاسمه مع بقية أبناء جيله.
معضلة العربيّ.. والفرانكفونيّة
وحتى في فرنسا، لم يكن الأمر سهلاً عليه، فهو كبقية المثقفين المسلمين المقيمين في أوروبا، والذين درسوا وتمرّسوا على المناهج والأساليب الفكرية في التحليل والاستنتاج، أصبح غير مرغوب به في أوروبا، باعتباره مثقفاً مسلماً، لا يتقبل الحداثة الأوربية ومعادياً لأوروبا، كما هو غير مرحّب به في بلاده باعتباره ممثّلاً للغرب «الإمبريالي» ومنظراً للثقافة الأوروبية ومناهجها وطروحاتها المتحرِّرة والمعادية في زعمهم. وهذه الإشكالية، للأسف، مازالت تواجه الكثير من المثقفين اليوم.
في العام 1971 أصبح محمد أركون أستاذاً في حقل تاريخ الفكر الإسلامي بجامعة السوربون، ومنذ سنة 1993 لم ينفك أركون كونه أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات والمعاهد العالمية، ولاسيما معهد الدراسات الاسماعيلية في لندن. كما أسس في العام 1999 معهدا للدراسات الإسلامية في فرنسا، والذي كان منذ العام 1970 قد اقترحه على الجهات الفرنسية المسؤولة.
حاز الدكتور محمد أركون جوائز عديدة، وهو المدير العلمي لمجلة (ارابيكا) للدراسات العربية والاسلامية منذ العام 1980، وقام/يقوم بعرض أفكاره ومقترحاته في مؤتمرات وندوات كثيرة في أنحاء العالم العربي/الإسلامي وأوروبا وأميركا، وقد حاضر في أكثر من مائة مدينة عالمية منها: الرباط، فاس، الدار البيضاء، الجديدة، صافي، الجزائر، عنّابة، تلمسان، جرداية، وهران، تونس، القاهرة، طبرق، طرابلس، بيروت، دمشق، حلب، عمّان، بغداد، المدينة المنوّرة، الرياض، صنعاء، مسقط، المنامة، الكويت، زنجبار، مومباسا، داكار، طهران، نيودلهي، مومبي، بكين، داكار، جاكارتا، سمرقند، موسكو، هلسنكي، تمبرا، توركو، ستوكهولم، أوسلو، أروس، كوبنهاغن، لندن، برمنغهام، أكسفورد، كمبرج، أدنبرة، لايدن، نيميجو، روتردام، تل بورغ، مدل بورغ، أوترشت، بروكسِل، ليج، جاند، لوفين، أنفيرس، هامبورغ، هانوفر، بيليفلد، أولدِن بورغ، برلين، غوتنغن، توبنغن، هايدلبيرغ، بيرن، زوريخ، جنيف، تورين، روما، بولونيا، نابولي، ساليرمو، برشلونة، مدريد، قرطبة، غرناطة، نيويوك، بوسطن، واشنطن، شيكاغو، ميامي، هيوستن، دنفر، بلومنغتوم، بيركلي، سانت دييغو، لوس أنجيلوس، أن أربور، فان كوفر، كاجاري، مونتريال، تورنتو، البندقية، بيزيه، ساليرنو، فانو..
أركون…مركز الدائرة
لقد كان من حسن طالعي/حظي شخصياً، أنني التقيت به في باريس، وأنا في انطلاق حياتي العلمية أو بعدها بقليل، ومنذ هذا اليوم، ورغم أنني أراه على مسافات زمنية متباعدة، أشعر أنني موصول معه بحبل سرِّي، حيث أدور في فلك جميل، ذلك أنه من بين القلة القليلة التي صنعت من الحقيقة مداراً، ومن الإنسانية العذبة والمودة والقدرة على استقبال المياه كما هي كوكباً، ثم كان لتجاوزه كل الصعوبات التي واجهها في حياته برفق وحب، والتماسه الأعذار للأعداء قبل الأصدقاء، مكانة المركز من الدائرة.
ayemh@hotmail.com
* كاتب كويتي
“الأوان” الكويتية
محمد أركون… ما لا يُقاس بالأصابع هو البحر
شكرا لك استادي على هده الاضافة المهمة لي والتي استفدت منها كثيرا.طلبي منك استادي هو ان تمنحني العنوان الالكتروني لمحمد اركون اي الامايل الخاص به .
وشكرا
محمد أركون… ما لا يُقاس بالأصابع هو البحرمع أن في المقال شذرات عن خلفية محمد أركون الأثنية لكن المقال بكامله تمجيد لذات المفكر وقصيدة مديح طويلة وممله. فالمقال لم يعرض ولا فكرة واحدة من أبداعات أركون. وما الجديد الذي أضافه أركون؟ أن مجرد سفر اركون الى ميامي وطهران وباقي المدن لألقاء المحاضرات لا يمكن تعني شيئا. أي أستاذ في السوربون أو في أي جامعة أوروبية لم يحاضر في نفس المدن التي أدرجها كاتب المقال؟ أن ما افتقده في المقال هو ليس مديح الكاتب. ولو كنت بدل أركون لغضبت على هذا المدّاح الذي يحاول بأزجاء آيات التكريم أن يخفي نفص معلوماته… قراءة المزيد ..