هل يمكن وصف المجتمعات العربية بأنها مجتمعات ثقافية؟
يبدو السؤال من البديهيات، فمن يجرؤ على انكار الثقافة العربية؟ و نشوء مثقفين عرب، وانتاج ثقافي عربي بعضه يترجم للغات الأجنبية، ويعتبر ضمن الابداعات الثقافية الهامة في عالمنا المعاصر؟
حقا توجد تفاوتات واضحة وعميقة بين المستويات الثقافية في مجتمعات العالم العربي، تفاوتات بين المراكز والضواحي، اذا صح هذا التعبير، اذا اعتبرنا ان القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد تشكل المراكز، فسائر العواصم العربية ما تزال تدور في فلك مراكزها.
حتى هذه المراكز ليست ثابتة مثل كواكب المجموعة الشمسية، حيث لكل كوكب بعده الثابت ومداره الذي لا يتغير حول الشمس. في الثقافة الموضوع بالغ التركيب والتداخل. قد ينشأ في الضواحي ما يعتبر بالمقاييس الثقافية تجاوزا لمكانة المراكز التي تبدو ثابتة ومستقرة.
اذن ما هو المعيار لمدى ثقافية المجتمع؟ لمدى مشاركته في النهضة الثقافية لأفراده؟ وانا أستعمل الثقافة مجازا للتعبير عن كل ما يمت لابداع الانسان الاجتماعي، من فنون وعلوم وأداب وتقنية ورفاه اجتماعي.
الغرب يستعمل اصطلاحين للدلالة على الثقافة، اصطلاح الثقافة واصطلاح الحضارة. الثقافة تدل على الابداع الروحي من فن وقصة وشعر ومسرح وسينما وموسيقى ورقص، والحضارة تدل على الابداع المادي من تطوير صناعي وعلمي وتقنيات رفيعة تعطي لمجتمعها اسباب القوة والرفاهية والأمن في جميع المجالات، الاجتماعية والغذائية والصحية والعسكرية.
نحن العرب نستعمل الثقافة للدلالة على شكلي الابداع، الروحي والمادي. ولكن كثيرا ما نفهم الاصطلاح بمفهومه الروحي فقط.
ان استعمالنا لمفهوم الحضارة ، لوصف حالتنا الاجتماعية فيها الكثير من عدم المطابقة. ببساطة أنا لا أرى حضارة. لا أرى ان مجتمعاتنا العربية أنجزت ولو القليل الذي يضعها على خارطة الابداع العلمي والتقني ( الحضاري ). لا أر ان مجتمعاتنا ساهمت في حركة النهضة ، التي غيرت وجه اوروبا، ومن ثم وجه العالم، بينما وجه مجتمعاتنا العربية وما يعرف بدول العالم الثالث، متحجرة في مكانها، عدا بعضها الذي بدا يلحق بحركة النهضة الحضارية والثقافية، مثل الهند والصين والبرازيل وبعض دول جنوب شرق آسيا.
لا أرى ان مجتمعاتنا العربية، أضافت شيئا للنهضة الاوروبية التي انتشرت في العالم الواسع، والتي بدأت منذ عصر الرنيسانس في القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر، محدثة نقلة عظيمة لأوروبا من عصر القرون الوسطى وسيطرة عقلية محاكم التفتيش الكنسية، الى العصر الحديث وبناء الأنظمة الدمقراطية الليبرالية التي حررت الانسان من عقلية العصور الوسطى الغيبية المغلقة. ولم تتوقف مسيرة النهضة الانسانية، تبع عصر الرينسانس – عصر النهضة الاوروبية الأول، نهضة أخرى متمثلة بالثورة الصناعية ومن ثم الثورة العلمية، وصولا الى ثورة المعلومات والتكنلوجيات بالغة الدقة، وما زلنا نواجه كل يوما مزيدا من الاكتشافات العلمية والتقنية والرقي للعقل البشري.
هل سألنا أنفسنا لماذا نحن في قاع الركب الحضاري؟ لماذا نحن لا نساهم الا في الاستهلاك الحضاري؟ لماذا نحن لا دور لنا في التصدير العلمي والتقنيات؟ لماذا نحن لا نؤثر في برمجيات وسياسات عالمنا؟ لماذا لا يحسب حسابنا من دول تعتمد في الطاقة على مصادر في بلادنا نملكها شكليا على الأقل؟
هل سألتم أنفسكم لماذا تقبل الرواية الاسرائيلية وترفض الروايات العربية؟ لماذا يقبل الخطاب السياسي الاسرائيلي ولا يستمع أحد لخطاب العرب السياسي؟
هل سأل أحدكم نفسه كيف يصل الاسرائيليون للحصول على جوائز نوبل في العلوم والاقتصاد والطب والأدب ولا نجد اسما عربيا نرشحه، الا اذا كان مغادرا لوطنه ويقوم بابحاثه ويعيش في بيئة غير عربية؟
اذن هل يمكن وصف مجتمعتنا العربية بالمجتمعات الثقافية لآننا ننتج الأدب، شعرا وقصة ومسرح؟
حسنا، الواقع العربي مخجل، هناك 100 مليون عربي أمي، وهذا لا يعني ان ال 150 مليون الآخرين يقرأون ويكتبون أو يفهمون المقروء. هناك أطفال لم يصلوا للمدارس بعد، وهناك من يفكون الحرف ولا يدرجون ضمن الأميين. وهناك من لا يقدرون على تعبئة نموذج بسيط، هم أيضا غير أميين ، وهل من يقرأ 100 كلمة في السنة، يعتبر متعلما غير أمي؟
ما اريده هنا اثارة التفكير بماهية الثقافة العربية، وقدرتها على التأثير الاجتماعي على المواطن العربية، بغض النظرعن اسم الدولة او موقعها الجغرافي؟
ان تأثير الثقافة العربية الروحية له مساحة ضيقة جدا، وهذا نابع من غياب حركة نهوض حضاري في المجتمعات العربية.
حسنا، نثرثر كثيرا حول تاريخنا الحضاري، عدا الابداع الأدبي في العصر الجاهلي، ثم في العصر العباسي، وصولا الى الأندلس، لا أجد ان العرب أنتجوا حضارة. ان تطور العلوم والموسيقة والفنون والترجمة، في العصر العباسي الذهبي، عصر هارون الرشيد وابنيه، الأمين والمأمون، كان عصر الانفتاح والحريات والتحرر من الكبت الديني ، واشراك القوميات والديانات الأخرى في النهضة الحضارية للدولة العباسية، ومن ثم لدولة الأندلس، اي ان الحضارة لم تكن نتاجا عربيا بقدر ما كانت استمرارا للحضارات التي ظهرت في ارض العراق عبر تاريخه الطويل، من العصر الوثني ثم العصر المسيحي – الأشوري. والمتتبع للأسماء التي برزت في العلوم والطب والموسيقى، وحتى في الشعر ، لا يحتاج الى مرشد مثلي ليعرف من أين جاءوا. ونفس الأمر ينسحب على الأندلس، الحرية الدينية والانفتاح على حضارة الأسبان التي انتجت قبل الغزو الاسلامي، هو وراء الانجازات الرائعة في كل مجالات العلوم والفنون والبناء والأدب والفلسفة والطب للدولة الأندلسية، والتي انهارت مع تحولها الى دول طوائف منغلقة دينيا.
اذن المسألة تتعلق بالماهية الاجتماعية، ومساحة الحرية التي يوفرها النظام لمجتمعه وانسانه.
هل يمكن ان تتطور حضارة مثلا في دولة مثل السعودية، التي تضاعف دخلها عشرات المرات من ارتفاع أسعار النفط؟
يمكن ان تظهر أعمال روائية جيدة، هذا ممكن ويحدث فعلا.. اما ان تنشأ حضارة في جذورها تطوير الابحاث العلمية والتكنلوجيا وتحول الجامعات السعودية الى مراكز علمية وتعليمية مرموقة عالميا، وتطوير اقتصاد معاصر لا يعتمد على بيع النفط، الذي سيزول بعد عقود قد تطول وقد تقصر، وتحول السعودية الى دولة تنتج بعض التكنلوجيات التي تستهلكها، او نشوء جيل من الباحثين في مختلف مجالات العلوم والتكنلوجيا والتصنيع فهو الأمر المستحيل، حتى لو وجدت العقول القادرة.
اذن لماذا نستهجن هجرة العقول العربية؟ لماذا نستهجن وجود أكثر من 500 عقل مصري، من أبرز الاختصاصات وأهمها في العالم، في الدول الغربية وليس في مصر أو الدول العربية؟
هل اكتفينا بما نسمه بثرثرتنا: “حضارتنا العربية”؟ أين هي جذور هذه الحضارة التي لم أجد عليها ولو شاهدا واحدا، الا اذا اعتبرنا ان تراثنا الشعري والأدبي هو معيار حضارتنا الوحيد؟
أين الحضارة العربية في مواجهة حضارات العراق القديمة؟ في مواجهة حضارة مصر القديمة؟ في مواجهة حضارة سوريا القديمة؟ في مواجهة حضارة الكنعانيين القديمة؟ في مواجهة حضارة اليونان القديمة؟ في مواجهة حضارة الرومان القديمة؟ في مواجهة حضارة الفرس القديمة؟
أين الحضارة العربية في مواجهة عصر الرنيسانس في البندقية بين القرن 14 – 16؟ في مواجهة الثورة الصناعية الاوروبية؟ في مواجهة الثورة العلمية والتكنلوجيا وثورة المعلومات التي تعصف بعالمنا وتتجاوز مجتمعاتنا؟
أين الحضارة العربية من مجاراة الانطلاقة الحضارية العاصفة لدولة الصين الحديثة.. ودولة الهند الحديثة ؟ حتى سنغافورة الفقيرة تتطور وتنطلق نحو آفاق حضارية. وكوريا الجنوبية تتحول الى منتج تكنلوجيات راقية. وتايوان المحاصرة من الصين تتفوق على العالم العربي كله بانتاجها؟
اسبانيا (المستعمرة العربية السابقة) يتجاوز انتاجها القومي الاجمالي انتاج كل الدول العربية. ايطاليا الصغيرة تصدر أكثر من 1.5 % من التصدير العالمي، والعرب لا يتجاوز تصديرهم مع كل مليارات نفطهم ال 1.25% من التصدير العالمي.
لا اريد ان اقدم اسرائيل نموذجا حتى لا اتهم من قليلي العقل وفاقدي المنطق بمدح العدو، ولكن أكتفي بالقول ان مستوى حياة الانسان، بما في ذلك العربي المواطن في اسرائيل، يتجاوز بعشرات المرات مستوى حياة المواطن في سوريا مثلا، أو في مصر، او المواطن العادي حتى في دول النفط. هذا عدا الحقوق المدنية والاجتماعية والتأمينات الصحية وتأمينات العجز والشيخوخة…
هل هذا نتيجة الحضارة أم التخلف الحضاري؟
وهل يساعد “التاريخ الحضاري المجيد”، الذي يعيش الغيبيين على وقع أنغامه، على اطعام الجياع العرب ومحو اميتهم؟
نعود للسؤال الأول : هل يمكن وصف مجتمعاتنا العربية بانها مجتمعات ثقافية؟
وما هي شروط نشوء مجتمع ثقافي أو مجتمع حضاري؟
من الواضح، من التجربة التاريخية للشعوب المختلفة، و تجربتنا المريرة في السنوات الأخيرة، داخل المجتمع العربي في اسرئيل، ان غياب المجتمع المدني، والعودة لسيادة العقلية العائلية – القبلية، والطائفية، او الدينية السلفية المغلقة، هو في صميم غياب الحضارة وغياب الثقافة بمفهومها الاجتماعي وليس الفردي.
نحن أيضا لم نصل بعد لنكون شركاء كاملين في النهضة الحضارية داخل اسرائيل، بعضها عوائق سلطوية وبعضها عوائق ذاتية أيضا ، ولكن الحقيقة المجردة ان بعض العقول العربية في اسرائيل تساهم في الكثير من مجالات تطوير الابحاث العلمية والاجتماعية والتقنية، وبابحاث لها قيمة عالمية نادرة. وهناك أسماء تعتبر رائدة في الابحاث، وتقدم لها من المؤسسات العلمية، كل الامكانيات المادية، وبمقاييس ضخمة جدا.
ولكن ما يقلقني ليس هذا الجانب الذي نتقدم فيه ببعض الصعوبات، انما قضية واقعنا الاجتماعي كما يرتسم في السنوات الأخيرة.
مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل اسرائيل لم يكن في تاريخه القصيرالممتد منذ ستة عقود، مفسخا مجزءا متعاديا مثل ما هو عليه اليوم.
ان التجزئة في مجتمعنا ليست سياسية فقط، التجزئة السياسية لا تخيفني، بل من المفروض ان تطلق الحوار الفكري والاجتماعي وتحقق نهضة ثقافية سياسية فكرية اجتماعية نقدية واسعة، غير ان ما حدث هو العكس تماما.
لم تتكاثر الأحزاب في مجتمعنا على قاعدة تطور مجتمعنا المدني الثقافي، انما تكاثرت على قاعدة عائلية وطائفية بغيضة، همشت مدنيتنا واعادتنا الى فكر داحس والغبراء.
ان يقول شخص يدعي الماركسية والوطنية، في جسم سياسي اساسي، ان ارتفاع شان العائلية في قرانا، يفرض علينا التعاون معها، فهذه جريمة أخلاقية قبل ان تكون جريمة سياسية. هذا يعني ان أحزابنا، الماركسية والوطنية على الأقل… التي تعتبر منظمات للمجتمع المدني، تشطب قاعدة وجودها الشرعية، حين ترى بالطائفية قوة سياسية يجب بناء تحالفات معها لتحقيق مكاسب سياسية”؟؟!!”
تصوروا حزب شيوعي يتحالف مع عائلة “أ” ضد عائلة “ب” في انتخابات لسلطة محلية، وعندما يخوض معركة سياسية، مثل انتخابات كنيست مثلا، كيف سيقنع العائلة “ب” التي وقف ضد مرشحها لصالح مرشح العائلة المنافسة “أ”، ان تصوت له؟ هذا عدا الواقع الأسوأ ان اللعب بين العائلات وعدم نقده فكريا وسياسيا يضر بمجتمعنا ويرجعنا حضاريا الى الماضوية ويجرنا الى ظواهر العنف الداخلي التي نعاني منها وتمزقنا، وينسف مبنى مجتمعنا المدني. كذلك لا يمكن ان افهم الصمت الحزبي ضد الميول الطائفية التي تزيد تفسخنا الاجتماعي بشكل بات وصفه بالآفة تلطيفا للواقع.
ان الثقافة لن تتطور الا في المجتمعات المدنية المتحررة من الطائفية والعائلية. والحضارة لن تقوم لها قائمة في مجتمعات دينية طائفية متصلبة او عائلية قبلية متعادية.
هل من المستهجن اذن ركودنا الثقافي وخواؤنا الفكري ، وفقرنا للابداع الأدبي بالمستوى الذي عايشناه في سنوات الستين والسبعين، بل وما قبل الستين أيضا؟ وحتى في المدن الفلسطينية قبل عام النكبة نشأت قاعدة للمجتمع المدني المتماسك، وتطورت الصحافة والنشر وانتشرت النوادي الثقافية والمسرحية والنقابات والأحزاب.
ان المجتمع القبلي لن ينتج ثقافة أو حضارة ولم ينتج سابقا حضارة تذكر.
المشكلة ليست في الدين، الحضارات البشرية القديمة كلها انتجت أديانا عديدة، لخدمة نهضتها الحضارية، اليوم ننتج الدين لخدمة ركودنا الثقافي والحضاري. هذا هو الواقع العربي اليوم.
ما اراه ان المدينة العربية تطأطئ الرأس امام زحف الصحراء.. حسنا، الكتابة الابداعية لا تحتاج الى مؤسسات للبحث العلمي، ولا الى تكنلوجيات دقيقة. الكتابة الابداعية قد تتأثر سلبا أو ايجابا بالواقع المدني، لذا ليس بالصدفة أن أبرز الأسماء الأدبية جاءت من اليسار، واليسار الأكثر التزاما بايديولوجية ثورية، والمنفتح على التراث الثوري العالمي بكل تياراته وامتداداته الكونية، ورفضا لزحف الصحراء وما تمثله من فقر فكري ومدني.
ان مجتمعنا، بتراجعه مدنيا، يتراجع ثقافيا أيضا، وهو تراجع بالغ الخطورة ليس على الابداع الأدبي، على القصة والشعر، انما على تطوير الفكر وتطور انسان المستقبل. ان من ينشأ في ظل الفكر العائلي المغلق أو الفكر الطائفي المتزمت، سيواجه اشكاليات عويصة للغاية في شق طريقه نحو حياة مدنية راقية. وفي الوصول الى المساهمة في الانجازات الحضارية للمجتمع البشري.
نبيل عودة – كاتب، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
مجتمعنا، بتراجعه مدنيا، يتراجع ثقافيا أيضاثقافة التجهيل أسهل وارخص من ثقافة التنوير.!!! إن المجتمع العربي القبلي لم ينتج ثقافة أو حضارة قبل الإسلام في قلب الجزيرة العربية التي اليوم تسمى السعودية, خاصة ومنفردة بها فقط, إنما اعتمد في جمع حاصل المنتوجات التي أنتجتها الحضارات والثقافات الأخرى , ولن ينتج في المستقبل ثقافة أو حضارة في قلب تلك الصحراء على مستوى طموحاتنا أو بشكل آخر , من جديد الإسلام العربي يستخدم ما أنتجت الحضارات الأخرى – ليس لدينا نواة – بدرة – نقوم في غرسها لنتحصل على حضارة أو ثقافة خاصة بنا عربية , لفقدان الفكرة, البدرة الأولية , ظهر الدين… قراءة المزيد ..