بمناسبة الذكرى73 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي
في الحادي والثلاثين من كل عام يحتفل الشيوعيون العراقيون بمناسبة عزيزة عليهم وهي مناسبة ذكرى تأسيس حزبهم. ويقوم الشيوعيون واصدقائهم في هذه المناسبة بتنظيم حفلات الفرح في هذه الاجواء الربيعية وزيارة ما هو قائم من قبور شهدائهم، حيث أن الالاف من الشيوعيين العراقيين لم يتسن لهم الرقاد في مثواهم الأبدي في قبور شاخصة شأنهم شأن أبناء آدم وحواء بسبب لجوء جلاديهم الى تقطيع أوصالهم ورميها في الفراتين الخالدين أو نثرها في صحاري وبوادي العراق. ويشارك الشيوعيين في عيدهم وسط واسع من الديمقراطيين والوطنيين العراقيين الذين يعتبرون إن تراث هذا الحزب هو جزء من تراث العراقيين بأجمعهم وحصيلة هذا المجتمع بإيجابياته وسلبياته وليس ملكاً للحزب وحده. فالحزب الشيوعي العراقي كان الحزب الوطني العراقي الوحيد الذي قدم قادته كقرابين في مسعى العراقيين من أجل تحديث مجتمعهم ونقله الى عتبة جديدة من عتبات التطور والتنوير والإزدهار والعدالة والسيادة، ولم يكن هذا الامر باليسير لأسباب كثيرة. ولا نريد أن نسرد مآثر الحزب الشيوعي العراقي، فقد تطرق إليها حتى باحثون أجانب كالباحث البارع المرحوم حنا بطاطو وما كتبه الباحث العراقي ليث الزبيدي حول ثورة تموز وتناول سيرة الحزب الشيوعي أيضاً، وهما باحثان محايدان.
ولم تجر إحتفالات الشيوعيون بهذه المناسبة بشكل يسير وعلني الا في فترات محدودة من تاريخه، وتحديداً في الشهور الأولى بعيد ثورة 14 تموز 1958، وعدد من الاحتفالات في سبعينيات القرن الماضي، والآن وبعد إنهيار الطغيان في 9 نيسان عام 2003، رغم ما يعيشه العراقيون من ظروف أمنية إستثنائية وما قدموه الشيوعيون منذ إنهيار الديكتاتورية من ضحايا على يد التكفيريين والارهابيين وفلول العهد السابق والميليشيات العبثية التكفيرية المغلفة برداء التطرف المذهبي. خلال كل تلك العقود من عمر الحزب وفي عشية كل عيد تقوم الشرطة السرية بوظيفتها في مختلف العهود في تقديم “التهاني” بمداهمة بيوت الشيوعيين واعتقالهم لحرمانهم من هذا الاحتفال، مجرد الاحتفال وتوزيع السكاكر بهذه المناسبة وليس تدبير إنقلاب عسكري. ويبدو ان هذه المناسبة اصبحت كابوساً على الانظمة الاستبدادية وشبحاً يطاردها. فلم يتوقف هؤلاء الحكام عن مطاردة الشيوعيين بهذه المناسبة حتى في فترة العلاقة التي قامت بين حزب البعث والحزب الشيوعي في النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي. أتذكر في الذكرى الاربعينية لتأسيس الحزب في آذار عام 1974، أقام الحزب الشيوعي إحتفالاً بالمناسبة في قاعة الخلد ودعي كل قادة حزب البعث، وبالرغم من الطابع الرسمي للاحتفال والموافقة عليه من قبل الحكومة، الا أن اجهزة الأمن قامت بدورها المعهود في مطاردة الشيوعيين وإعتقال الفنانين الذين كان مقرراً لهم ان يساهموا في الاحتفال بهدف إفشاله، وهذا ما حدث للفنان العزيز فؤاد سالم على ما أتذكر وآخرين والذين أطلق سراحهم في اللحظات الاخيرة التي سبقت الحفل وتوجهوا من المعتقل مباشرة الى قاعة الخلد لإداء دورهم بعد الضغوط التي مارستها قيادة الحزب. ولم يتردد جهاز القمع التابع لحكم البعث في السبعينيات عن ممارسة “حملات الود” التي كانت تجري في العاصمة والمحافظات. وفي الحقيقة وللتاريخ أيضاً لم تكف الأجهزة الامنية التابعة لصدام حسين شخصياً عن عمليات الإغتيال والاعتقال والاعدام والاسقاط لحظة واحدة عن القيام بدورها رغم توقيعهم على إتفاق الجبهة مع الحزب الشيوعي العراقي.
ويبدو الآن إن “حليمة” تعود الى عادتها القديمة ولكن بأشكال جديدة، تارة بتنويع الإتهامات، وتارة أخرى في البحث في “الدفاتر العتگ” علّها تجد ما في خزينها من مادة تستند إليها كي تقدمها “هدية” عشية إحتفال الشيوعيين بتأسيس حزبهم. والغريب إن هؤلاء لا يتناولون أي من الأحزاب السياسية وأخطائها وبعضها كوارث وليست أخطاء، بل يتناولون فقط الحزب الشيوعي العراقي الذي كان الحزب العراقي الوحيد الذي لامس أخطائه وانتقدها وبوثائق معروفة وبمصادقة أعلى هيئات الحزب أي المؤتمر الحزبي. فقد طالب أحد الاشخاص أخيراً وعلى صفحة من صفحات الأنترنيت بتقديم الحزب الشيوعي والانصار بصورة خاصة الى محكمة الجنايات العليا لأنهم رفعوا السلاح ضد حكومة صدام وامبراطوريته في أوج لهيب الحرب العراقية الايرانية التي أشعلها ويتحمل تبعاتها النظام السابق نفسه!!. إلا أن هذا الإتهام، الذي هو بالاساس من مصنع التضليل لاجهزة الامن العراقية السابقة والتي كانت تجترها على الدوام وتنعت الحزب الشيوعي العراقي في كتبها الرسمية بالحزب العميل، يصطدم بواقع آخر. فالحزب رفع السلاح وإختار الكفاح المسلح، بغض النظر عن الرأي المتفاوت في هذا الاسلوب داخل الحزب، جراء الملاحقات والاعدامات التي شنتها السلطة الديكتاتورية، والتي طالت الالاف من اعضاء الحزب وكانت اشدها في عام 1978، أي قبل اشعال الحرب العراقية الايرانية من قبل صدام حسين. وكانت مهمة هذا الاسلوب من الكفاح هو الحفاظ بالدرجة الأساسية على ما تبقى من هيكل الحزب والدفاع عن النفس. وعارض الحزب وأنتقد كل مظهر من مظاهر الانحياز الى الفريقين المتناحرين في الحرب. ولعل أفضل دليل على ذلك هو ما كتبه المرحوم توما توماس عضو اللجنة المركزية آنذاك في يومياته التي نشرت على مواقع الانترنيت بعد رحيله وتحت عنوان “أوراق توما توماس- الحلقة24 ، والمكرسة للحرب العراقية الايرانية ونشاط الأنصار”، وهذا نصها:
“بعد انهيار الحركة الكردية المسلحة ، احتل الجيش كل المدن والمواقع الحيوية في كردستان التي سلمت من التدمير والواقعة على الطرق الرئيسية ولم تترك السلطة قمة جبل او تل دون ان تستغلها كربيئة او نقطة مراقبة ضد تسلل البيش مركة، مما اضطرهم ذلك الى التحرك ليلا.
كانت الربايا بالمرصاد للبيشمركَة، حيث تقوم بإطلاق النار بأتجاه اية حركة مهما كانت بسيطة (وفق قرار السلطة بقتل كل حي يشاهد في المنطقة فورا).
في 22/9/1980 اعلن العراق حربه على ايران. وتمكن الجيش العراقي من إجتياح الأراضي الأيرانية، وفي خضم المعارك كان لابد من تعزيز الجيش بوحدات جديدة. لذا بدأت العديد من الوحدات العسكرية المستقرة في كردستان بالتوجه الى جبهات الحرب تاركة فراغا ملحوظاً. وأصبحت المسافات بين الربايا والمعسكرات في كردستان تتباعد تدريجياً، الامر الذي وفر للپيشمرگة إمكانية الحركة بشكل أفضل من السابق. وأصبح بإمكانهم الوصول الى المناطق الآهلة بالسكان وإقامة الصلات مع الجماهير والحصول على الأرزاق وجذب المزيد من الشباب من رافضي الحرب . وقد إستفادت الأحزاب القومية الكردية من الحرب العراقية – الايرانية، ماديا ومعنويا. ووقف بعضها الى جانب الجيش الايراني وساعدته في بعض الاحيان للتوغل في العمق العراقي. وقد دفع هذا الموقف الخاطئ الى المزيد من التعويل على الحرب، الى درجة اعتبار انتصار الحركة الكردية مرتبط بحسم الحرب لصالح ايران !!!!”.
وفي خلال كل سنوات الحرب، كانت السلطات الايرانية تطارد الشيوعيين العراقيين الذين لجأوا مجبرين سراً الى إيران بعد الحملة الهوجاء للحكم في العراق ضدهم. وهكذا شهدت العاصمة طهران مطاردات الحرس الثوري الايراني للقبض على المرحوم عامر عبدالله ثم سكرتير الحزب عزيز محمد الذي فلت من المطاردة وخرج من إيران بمساعدة من وزير الصناعة في جمهورية اليمن الديمقراطية آنذاك ورئيس الوزراء اليمني الحالي السيد عبد القادر باجمّال على متن طائرة خاصة وبتوصية من الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد. كما تعرض المئات من الشيوعيين الى الاعتقال والتعذيب في زنزانات سجن إيڤين الرهيبة وسجون أخرى في طهران ومدن أخرى ومنهم المرحوم الدكتور رحيم عجينة عضو المكتب السياسي وحيدر الشيخ عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي في اقليم كردستان العراق ووزير الاتصالات في الاقليم حالياً، الذي تعرض الى تعذيب رهيب إنعكست تفاصيله في كتاب “شرق البحر الابيض المتوسط” الذي ألفه الروائي اللامع المرحوم عبد الرحمن منيف. كما تعرض كاتب هذه السطور الى نفس الحالة وحجز لمدة تقارب السنتين في سجن إيڤين بدون أي إتهام الى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من المرحوم حافظ الاسد والمرحوم ياسر عرفات. فهل كل هذا يدل على ما يفبركه هذا الكاتب بتحول الانصار الشيوعيين الى ادلاء للجيش الايراني مما يستدعي محاكمتهم؟؟. كما مازال البعض يردد هذيان قديم جديد عن عمالة الحزب الشيوعي لجهات أجنبية والتي تنوعت أطرافها حسب إدعاءاتهم. أيام زمان أُتهم الحزب بالعمالة للسفارة البريطانية ثم تلاشت هذه الموضة. وبعد ذلك تصاعد الاتهام للحزب بالعمالة للإتحاد السوفييتي وبعد تموز العمالة للايرانيين ونسجت اصول وهمية للشهيد حسين احمد الرضي”سلام عادل”. وبعد إنهيار الاتحاد السوفييتي، عاودت بعض الاقلام بترديد العمالة لإيران وسوريا، وأخيرا العمالة للولايات المتحدة وايران الى حد إتهام الحزب “بالصفوية”، وليس “العثمانية”، و”الطائفية” والتي شارك في تلفيق هذه القضايا “المدهشة” بعض من إبتعد عن الحزب كما هو معروف وافتعل الخلافات معه وبدأ الانخراط في جوقة مفبركي هذه الاتهامات، وهم ممن كانوا من المتهمين في صدر “العمالة” أيضاً وهم في قمة هرم الحزب. إن الإتهام بالعمالة لاي طرف سياسي هو اختزال وطريق سهل، بل وأقصره وبدون وجع رأس أو بحث وتدقيق لادانة من يتم الاختلاف معه بسبب إنعدام أية حجة لمناقشة موقف هذا الحزب أو ذاك، وهو تعبير عن الإفلاس ولا يصمد أمام الزمن الا إذا إقترن بدلائل ووثائق ملموسة. ومن الطريف الاشارة الى أن ميشيل عون، زعيم الوطنيين الأحرار في لبنان، كان هدفاً للاتهامات السورية وحزب الله وعدد من الاحزاب اللبنانية بالعمالة لإسرائيل وهرب بجلده خارج لبنان، ولكنه عاد بعد خروج القوات السورية ليصبح اقرب حلفاء سوريا وحزب الله وبطلاً وطنياً وداعية لتحرير حدائق شبعا، كيف ؟؟ فهل هو الآخر تاب على يد السيد، العلم عند الله!!. وللتاريخ شواهد كثيرة على هذا لنوع من الاتهامات التي لم يسلم منها حتى الزعيم الوطني الفيتنامي هوشي مين الذي إتهم بالعمالة للـ “سي آي أي” في فترة الحرب العالمية الثانية. ونعود ونقول إذا كان الحزب الشيوعي العراقي عميلاً لكل هذه الاطراف فهو “حزب داهية” يستحق “الفخر” و”التقدير” من العراقيين لدهائه وقدراته على اللعب على كل هذه الحبال. إذ كيف يوفق هذا الحزب للعمالة بين كل هذه الاطراف المتناقضة ويلعب عليها بهذه المهارة. كما إن هذه العمالة يجب ان تعود الى الحزب بموارد مالية هائلة وتضعه في عداد المليارديريه في العالم، بل وعلى قائمة “گينس القياسية” في هذا الميدان. ولكننا نرى العكس فإن أعضاء قيادة الحزب الشيوعي قديمها وحديثها ومن بقي مع الحزب أو من يخاصمه الآن ويشارك في التشويه للأسف، لا يملكون العقارات ولا القنوات الفضائية ولا سيارات “الشبح”. إن المواطن العراقي يرى ما يجري أمامه ويعرف المستخبي جيداً هذه الايام ومن الذي يحصل على الموارد من الخارج الكبيرة والتي تتدفق على بعض الاحزاب بدون رقابة الدولة وبعضهم من قبض عليه على الحدود العراقية الإيرانية وهو يحمل 50 مليون دولار كما أشارت اجهات الرسمية العراقية. ويعرف المواطن العراقي ان الحزب الشيوعي العراقي هو من الاحزاب التي ليس لها موارد كتلك التي تملكها أحزاب فتية تشكلت بعد أيام من إنهيار النظام ولها الآن قنوات فضائية ومراكز إعلامية وجيوش وكتائب وألوية تكلف هذه الاطراف الملايين والملايين من الدولارات، وهو ما لا يملكه الحزب الشيوعي العراقي.
ولكن ومع الأسف يطل علينا نفر آخر لا نتمنى له ان ينضم الى هذا النمط من “تقديم التهاني” للحزب الشيوعي العراقي في ذكرى تأسيسه. فيشارك في ذلك للأسف الدكتور صاحب الحكيم الناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق ومنذ سنوات. إنه لا يطرح بعض المعلومات الملتبسة كأسئلة بل توجيه إتهامات خطيرة مباشرة، ويقول:
“الاستاذ أحمد الحبوبي في ( ليلة الهرير في قصر النهاية) ان الحزب الشيوعي كان وراء هذه المذبحة والتي قام بها المجرمون الجزراوي واحمد حسن البكر التكريتي واعضاء حزب البعث (الذين كانوا متواجدين في قصر النهاية في تلك الليلة) و كذلك مكرم الطالباني (1) ( وزير كردي شيوعي ايام المجرم البكر التكريتي) و تتحمل وزرها كذلك قيادة الحزب الشيوعي العراقي الذي لولاه لما تم الذبح ، حسب ما كتبه الأستاذ احمد الحبوبي الذي كان معتقلا في تلك الليلة”. النص من مقالة الدكتور صاحب الحكيم التي نشرت اخيراً على موقع صوت العراق.
كما يستند الدكتور صاحب الحكيم على ما كتبه بهاء الدين نوري في مذكراته حول ذلك، ونورد هنامقتطف ما كتبه في هذه المذكرات:
” في يوم من ايام كانون الثاني 1970 قدمت الينا السفارة السوفييتية معلومات ملموسة حول خطة محكمة للقيام بانقلاب عسكري. وسينطلق اللواء العاشر المدرع من ثكنة عسكرية كانت في الماضي سباقاً للخيل بجانب حي المشتل. وكان الضابط المتقاعد عبد الغني الراوي المشارك النشط في انقلاب 63 والذي دخل في خلافات حادة مع البعثيين من انشط المشاركين في الطبخة الانقلابية الجديدة. أُرسل مكرم الطالباني موفدا من قبل قيادة حشع الى رئيس الدولة احمد حسن البكر حاملا اليه الخبر بتفاصيله، التي كانت تقضي بإحتلال مبنى الاذاعة والتلفزة والقصر الجمهوري تحت جنح الظلام. ويبدو ان الحكام البعثيين لم يصدقوا تصديقا تاما في بادئ الامر ولكنهم اتخذوا التدابير الفورية من باب الاحتياط. وفي ساعة الصفر المحددة بأن التمرد من الثكنة المشار اليها وجرت مصادمات واحبطت المحاولة الانقلابية لانها كانت قد فقدت عنصر الكتمان والمباغتة ويتراءى لي ان نجاح الانقلاب كان مضمونا فيما لو يحيط البعثيين بالامر. في اليوم التالي لاحباط المحاولة الانقلابية استدعى البكر الطالباني الى القصر الجمهوري من جديد وشكر حشع وقال له ما معناه لن انسى ما حييت هذا الجميل. لقد انقذنا حشع من سقوط موشك. لن تكون هذه شوارب رجل، ومد اصابعه لشواربه، ولن يكون لي شرف عسكري اذا قبلت بأي اضطهاد للشيوعيين في ظل نظامنا هذا. قطع الرئيس البكر هذه التعهدات على نفسه في كانون الثاني وبعد ذلك بشهرين صدر بيان 11 من آذار واقترن مباشرة بالهجوم على الشيوعيين واغتيال المناضل الشيوعي البارز محمد الخضري، وهكذا ثبت في غضون بضعة اسابيع بأن “الاب القائد” كما كان البكر يلقب في تلك الايام لم يكن صاحب كلمته ول يكن له اي شرف عسكري. وبهذه المناسبة شوه مدير المخابرات الاسبق وشقيق صدام برزان التكريتي هذا الحادث حين عرضه على غيرحقيقته في كتيب اصدره تحت عنوان “محاولات اغتيال السيد الرئيس- في الصفحة 402 من المذكرات”.
بالطبع لا يمكن الركون الى “حواشي الرتوش التحريضية” التي أوردها الكاتبان حول الحادث، فهما ليس حياديان، لأن الأول له خلاف سياسي تقليدي وموقف مسبق مع الحزب، والآخر ترك الحزب لخلافاته معه ولأمور ذاتية خاصة وسار مع من يساهم أيضاً الآن بالترويج لعمالة قيادة الحزب وما شاكل ذلك ومولع في التفتيش في بطون التاريخ كي يجد ما يحقق غايته. وما كان على السيد صاحب الحكيم توجيه هذا الاتهام وتحميل الحزب الشيوعي “المجزرة” قبل الإستماع الى ” المتهم” والإستئناس برأي قادة في الحزب يعرفهم، وهو إسلوب أكاديمي شريف ينبغي على كل ناشط في قضايا حقوق الانسان الحساسة أن لا يمارسه، ولا يتعجل الامور لدوافع سياسية ضيقة لا تتسم بالحيادية بل بالمواقف المسبقة. ولكن وطبقاً للمعلومات المتوفرة لدي من أناس عاشوا الحدث ومن قادة الحزب، إذ كنت آنذاك في سجن الشاه، أستطيع أن أؤكد أن الحزب كان يمتلك معلومات أكيدة عن مؤامرة و كما يعرضها بهاء الدين نوري بدون رتوشه، ويقف على رأس هذه المؤامرة الجنرال عبد الغني الراوي وعدد آخر ممن أختلفوا مع حزب البعث، وبتمويل من نظام الشاه وبإشراف من المخابرات الايرانية “الساواك” وبدعم وغطاء من حلف السنتو. ومن المعلوم إن عبد الغني الراوي كان واحداً من أقسى الذين شاركوا في نكبة 8 شباط عام 1963، ولا يختلف عن حازم جواد وأضرابه من جلادي هذا الحدث المرير بإستثناء فارق واحد هو أنه يتلقى في هذه العملية الدعم المادي والعسكري من الشاه، المعروفة مواصفاته للجميع، وبتدبير من أشرس الاجهزة المخابراتية في المنطقة وهو جهاز الساواك المخيف. وكان الحزب أمام خيارين، وإختار الأقل سوءاً من وحهة نظره لا سباب عديدة أهمها خشيته من تدخل الشاه بكل قوته في القضية العراقية وتعرض العراق لأطماع أيرانية لا تخفيها وبدأتها في إحتلال جزر عربية في الخليج ومطالباته في شط العرب ومناطق حدودية واسعة في العراق بما فيها مناطق غنية بالنفط. كما إن الشاه سوف لا يجلب لنا نظاماً ديمقراطياً ولا إنتخابات ولاتحسين في ظروف معيشة العراقيين اذ لديه انماط أكثر شراً من الانماط الاستبدادية التي طبقت في بلادنا، وشعباً إيرانياً يعيش شظف العيش بشكل أسوء مما يعيشه العراقيون آنذاك. ولهذا إختار الحزب خيار فضح هذه المؤامرة، دون ان يكون له يد بالطبع في كيفية تصرف الاجهزة الامنية او توسيع رقعة البطش على طريقة صدام حسين.
إن إختيار الحزب ذاك نابع أيضاً من إحتمالات التطور السياسي والتطور داخل حزب البعث نفسه، خاصة في ظل التناحر السياسي بين إتجاهين في حزب البعث. الإتجاه الأول يتسم بالقسوة الدموية والتطرف القومي يقوده صدام حسين ويسنده المتطرف ميشيل عفلق، وبين إتجاه آخر يريد الاستفادة من التجربة الدموية لحزب البعث في شباط عام 1963 وفتح صفحة جديدة مع العراقيين ويقوده الفقيد عبد الخالق السامرائي وكتلته التي تعرضت بأجمعها الى الابادة لاحقاً على يد صدام حسين. وهو ما كان يعوّل عليه الحزب. ولكن صدام حسين كان يستبق الاحداث ودبّر هو مؤامرة ناظم گزار كي يضرب عصفورين بحجارة واحدة وهي ابادة التيار المنافس له ثم احتكار السلطة وفرض جبروته لاحقاً وهو ما حصل لاسباب عديدة لا مجال لذكرها في هذا الحيز. وبدأ التيار المتشدد بإغتيالات واسعة لكبار ضباط الجيش، كما يحدث بالضبط الآن، حيث أغتيل المغدور حردان التكريتي وآخرين من كبار الضباط. واستمرت الحملة لكي يتم إغتيال نجل أحمد حسن البكر في حادث سيارة ثم إغتيال صهره في الكرادة الشرقية عندما رميت سيارته في نهر دجلة جنباً الى جنب مع إغتيالات طالت رموز الحركة القومية، التي يترحم رموزها الآن، وفي المقدمة منهم خير الدين حسيب، على صدام حسين، اضافة الى إغتيالات طالت العرب ومنهم منيف الرزاز. لقد أعتقل عبدالخالق السامرائي في ما سمي بمؤامرة گزار في تموز عام 1973، وهي في الحقيقة مؤامرة دبرها صدام، وتم الحكم عليه بالاعدام. ولكن على إثر تدخل الحزب الشيوعي الذي ارسل موفداً له الى البكر وهو المرحوم عامر عبدالله، وتدخل الكثير من الاحزاب العربية والشخصيات السياسية العراقية والاجنبية، تم وقف الحكم بالاعدام وتغييره الى المؤبد دون ان يعني ذلك انقاذ هذا الانسان العراقي الشريف الذي أعدم لاحقاً. هذه التناقضات داخل البعث والتي كان الحزب الشيوعي يأخذها بنظر الإعتبار كحزب سياسي، هي ليست أوهام بل كان يلمسها كل من له بصيرة في العراق ومن ضمنهم قادة بعثيين كبار ومنهم الفقيد عدنان الحمداني الذي فاجأني في إجتماع في قاعة الرباط في بغداد في خريف عام 1977، وفي ندوة إقتصادية حول الإنتاجية كما أتذكر، حيث أشار بكلمات لم أدركها آنذاك. فقد سألني وقد عدت للتو من عملي في مجلة قضابا السلم والإشتراكية في براغ وقال كيف رأيت الوضع في العراق؟ وأجبته أنني وصلت منذ قليل الى بغداد وانت الاعرف بذلك. عندها قال كلمته التي لم أدرك مغزاها آنذاك..”الله يستر”!!. كما وصف هذا الوضع بدقة الاديب والمفكر العراقي المبدع فاضل العزاوي في كتابه المعنون”الروح الحية جيل الستينيات في العراق”، ومن اصدار دار المدى في عام 1997، وفي الصفحة 250، حيث يورد فاضل العزاوي أسماء شفيق الكمالي وشاذل طاقة وعبد الخالق السامرائي وعبدالله سلوم السامرائي وعزيز السيد جاسم، ويعتبرهم جميعاً، وقد ابيدوا في فترات مختلفة على يد صدام حسين، كتيار مخالف للتيار المتطرف المتشدد في حزب البعث ويقول :” كان حزب البعث في تلك الايام منشطرا بين المتعصبين المتشددين والمنفتحين المستفيدين من تجربة الماضي. وكان المتعصبون الصغار بصورة خاصة ومعظمهم في الاجهزة الامنية يضطهدون المبدعين الحقيقيين ويقدمون التقارير ضدهم الى اجهزة الدولة “، وكان السيد فاضل العزاوي على علاقة جدية مع المنفتحين وأبعدوا عنه شرور المتشددين في مرات عديدة. ومازال هناك شهود عيان أحياء فلتوا من البطش وعليهم قول الحقيقة وعدم السكوت على قولها أمانة للتاريخ وخدمة للعراقيين الذين يتخبط بعضهم في كيل الإتهامات لهذا وذاك.
إن الحزب الشيوعي إختار حسب تقديراته ما هو أقل شراً للعراق والعراقيين، وهو تقدير سياسي سليم قد لا يشاركه البعض في رأيه أو قد يوافقه. وهناك قصص ووقائع حقيقية حول بعض ملابسات نشاط الساواك في العراق، والمستمر الى الآن في التخريب داخل العراق بأسماء ومسميات جديدة حيث لم يتغير هذا الجهاز بالرغم من نجاح الثورة الايرانية والإطاحة بالشاه. ولا يتسع في هذا المقال ايرادها وسأوردها لاحقاً في حلقات “يوميات إيرانية”. ومن ضمنها قصة شخص خطير إسمه عباس شهرياري الملقب في إيران بـ”مرد هزار چهرة”، اي “الرجل ذو الألف وجه”، وهو عميل الساواك الذي سُرب الى حزب توده ايران ثم سُرب الى منظمة الحزب الشيوعي العراقي في المنطقة الجنوبية، وعمل ضمن الأمن العراقي منذ بداية الستينيات ونقل معلومات الى الامن العراقي حول منظمة المنطقة الجنوبية واعتقل أحد أعضائها. وبعدها بسنين كان السبب في اعتقال العديد من العراقيين الذين هربوا من جحيم 8 شباط، وإعتقال قادة لحزب توده إيران. وكان هذا الرجل محور الصراعات بين الساواك والأمن العراقي، وكلف من قبل الامن العراقي لإغتيال عبد الغني الراوي في طهران وفشلت العملية لان هذا الشخص كان عميلاً مخضرماً للساواك وليس الى الأمن العراقي، الى إن أغتيل في عام 1975 على يد منظمة فدائيي الشعب الايراني.
على أي حال أقول إن من أهم مهام من يتصدى لقضايا حقوق الإنسان الشائكة في العراق هي التصدي لها وبعينين وليست بعين واحدة وبمنحى عراقي وليس لخاطر فئة او حزب أوطائفة دون غيرها، خاصة وإن هذه المنظمة تحمل عنوان الدفاع عن كل العراقيين. وهنا يثار سؤال أمام الدكتور الكريم صاحب الحكيم لماذا لم يتوجه نحو قضايا جديدة نعيشها ويطالب بالكشف عن الجناة الذين غدروا بالسيد عبد المجيد الخوئي على هذا النحو الفاجع في اليوم الاول من انهيار الطاغية، هذا الرجل الذي خدم العراق على قدر طاقته وبإخلاص؟ ولماذا لم يكتب عن إنتهاكات خطيرة حدثت في مدينتي النجف المقدسة والكوفة على يد نفس المجموعة التي غدرت بالخوئي وجلبت المصائب لأهالي هاتين المدينتين وأقامت المحاكم العشوائية وشكلت الجيوش، وتستمر الى الآن بالتسلح والتدريب على يد الأجانب والصدامات المسلحة مع منافسين سياسيين لها مما يوقع الخسائر البشرية وتنتهك حقوق الانسان؟ ولماذا لم يشر الى تلك الحملات الدموية والقتل أثناء الانتخابات السابقة والتي قامت بها نفس الجهة؟ ولماذا لا يشير الى حملات القتل العشوائي التي تقوم بها نفس الجهة لا تفرق بين الجاني والبرئ وعلى الهوية بذريعة الرد، وبدون قرار حكومي”، على جرائم مماثلة قامت بها فلول مجرمي التكفير والارهاب وبنفس المنهج الإجرامي؟ ثم لماذا لا يفتح مركز السيد صاحب الحكيم او على الأقل يكتب عن أم الجرائم وهي جريمة 8 شباط التي راح ضحيتها الالاف من خيرة الوطنيين العراقيين وعلى رأسهم الشهيد عبد الكريم قاسم الذي كان أول حاكم عراقي ازاح الضيم عن الشيعة وساواهم بباقي ابناء الشعب العراقي وأستحق هذا المصير على يد جناة البعث. ولماذا لا يشير الى من ساهم في هذه الجريمة من خلال الفتاوى التي تدعو الى قتل الناس وزهق أرواحهم بدون محاكمات ولا تحقيق ولا دفاع كما تطالب به مبادئ حقوق الإنسان، وإزهاق ارواحهم بيد البشر وليس بيد من خلقها؟؟ كما رحبت هذه المرجعية بإنهيار الحكم الوطني وسكتت على جرائم 8 شباط التي لم يسكت عنها حتى من شاركهم في الحكم وهو عبد السلام عارف الذي أصدر الكتاب المعروف “المنحرفون”؟ ولماذا لا يحقق مسؤول حقوق الانسان في العراق بما يرتكبه “شيوخ الجهاد” الكاذب في مدن الفلوجة والرمادي وبعقوبة وسامراء من اكراه للناس وإنتهاك لحقوق المرأة وإستعبادها على يد “المجاهدين” الأجانب؟ فهل إن الدفاع عن حقوق الإنسان ممر واحد و “تك گول” يباح الانتهاك لفريق ويحرم على آخر أو يلفق على آخرين؟ عسى أن يبادر العزيز الدكتور صاحب الحكيم، وليس لدي شك في ذلك، أن يراجع كل هذه الملفات الساخنة ويصبح خير عون لحماية حقوق هذا الانسان العراقي المعذب بكل طوائفه ودياناته ولون بشرته ويصبح بذلك مثل لعراق جديد لا يتعصب الا للحق والحق فقط، ويدين الظلم والإنتهاكات اياً كان مصدرها.
adelmhaba@yahoo.co.uk