إن دولة القانون بقدر ما هي دولة الحقوق هي بالضرورة دولة الواجبات والمحاسبة القانونية وفق تشريعات واضحة ومضبوطة تسمو فوق جميع المواطنين وتعاملهم على قدم المساواة. وباعتبار المغرب دولة تريد أن تكون دولة الحق والقانون، فإنها ملزمة باحترام الأسس والقيم كما هي متعارف عليها كونيا، وفي مقدمتها إسناد المسئولية في إدارة الشأن العام لذوي الكفاءات والقطع مع أساليب الزبونية والمحسوبية التي تحول حتما دون المحاسبة، ومن ثم تشل الفاعلية وتعطل القوانين، فتضيع بالتالي حقوق المواطنين ومصالح الوطن.
إن وضعية الامتيازات والتسامي على القانون والإفلات من المحاسبة ومن العقاب تخلق مناطق نفوذ عبارة عن محميات لا تسري عليها نظم الدولة وقوانينها. وتتناسل هذه المحميات لتشمل مختلف القطاعات الحكومية أساسا ومصالحها الخارجية والمؤسسات الخاضعة لها ضمن نفوذها الترابي. وهذه المحميات ومناطق النفوذ هي التي تشكل فعلا جيوب مقاومة التغيير والإصلاح. وبسبب ذلك طالت فترة ما يسمى بـ”الانتقال الديمقراطي” حتى باتت “أزمة بنيوية” بحاجة إلى مخطط هيكلي لوقف تمددها والتطبيع معها واستمرائها. ولعل الزيارات الملكية للمدن والقرى بمختلف الأقاليم تضع كل المسئولين من الوزير الأول وإلى أدنى موظف أمام سؤال المواطنة والواجب المهني. كل هؤلاء لا تسري في أوصالهم ديناميكية التحرك خارج مكاتبهم إلا حين الإعلان عن موعد مرتقب للزيارة الملكية لمناطق تواجدهم. إلا أن تحركاتهم هذه لا تعود عادة بالنفع على عموم المناطق المستهدفة، بدليل أن الإصلاحات المرتجلة التي تشمل واجهة المدن والطرق المتوقع مرور الموكب الملكي عبرها سرعان ما يطالها التخريب والإهمال لهشاشتها ومغشوشيتها، لأن الغاية من إنجازها لا تروم رفع المشقة عن المواطنين وتيسير ظروف العيش والتنقل، بقدر ما تتوخى خداع الملك أولا والالتفاف على التعليمات والتملص من المسئوليات ثانيا.
وهذا حال عامل إقليم خنيفرة، المهندس أحمد شويحات الذي لم يكلف نفسه التنسيق بين المصالح الخارجية للوزارات وحثها على وضع برامج تنموية تهم الإقليم وتخفف عن سكان القرى والمداشر النائية معاناتهم وتفك عنهم عزلتهم. وبسبب هذا التقصير أو الإخلال بالواجب المهني والمسئولية الأخلاقية تجاه الوطن والمواطنين الذين ينبغي أن تكون خدمتهم غاية كل مسئول مهما دنت أو علت رتبته الإدارية، بسبب ذلك حدثت وتحدث فواجع وكوارث لا تهز ضمير كثير من هؤلاء المسئولين، سواء كانوا أعضاء في الحكومة أو مسئولين مباشرين عن المصالح الخارجية للوزارات.
ولنأخذ في هذا الإطار نموذجين.
الأول يتعلق بزلزال الحسيمة وكيف اختارالمسئولون الحكوميون ومن يمثلون المصالح الخارجية للوزارات الانزواء في مكاتبهم المكيفة دون أن يكلفوا أنفسهم “مشقة” السهر على عمليات الإنقاذ وتوزيع المؤن والأغطية والخيام على المنكوبين. ولولى التواجد الملكي بالقرب من الضحايا لكانت الكارثة أعظم ، ليس فقط بسبب تباطؤ عمليات الإنقاذ، ولكن أيضا بسبب النهب الذي طال المساعدات . ولازال عدد من الضحايا يعانون الكارثة ولو بعد مرور أربع سنوات ونيف عنها . أما النموذج الثاني فيخص مأساة “أنافكو” ـ القرية النائية والمعزولة بالجماعة القروية أنمزي التابعة لإقليم خنيفرة ـ والتي أودت بحياة عشرات الأطفال بفعل قساوة الطقس وفاقة الأهل . إذ لم تتدخل الحكومة لرصد المساعدات الاستعجالية وحصر الحاجيات الضرورية . وكان الأجدر بعامل الإقليم أن يتحرك ، في إطار اختصاصاته باعتباره يمثل السلطة الوصية على المجالس المحلية المنتخبة ، بهدف رصد وإعادة ببرمجة الفائض المالي لهذه الجماعة والذي يقدر بثمانية ملايين درهم ، حسب ما صرح به كاتب فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالمنطقة لجريدة “أوجوردوي لو ماروك”، لفك العزلة عن القرية ودفع المصالح الخارجية للوزارات إلى التنسيق فيما بينها لوضع برامج استعجالية تهم المنطقة. ورغم المأساة التي حدثت والمخاطر الحقيقية التي تتهدد السكان ، لا زالت قرية أنافكو تعاني العزلة المطلقة.
والمثال عينه يسري على مختلف المناطق بسبب غياب المحاسبة. ولطالما تذرع المسئولون الإداريون والمنتخبون بضعف الإمكانات المادية ومحدوديتها، إلا أن هذا السبب ليس هو المعطل المباشر والوحيد لعملية التنمية، وإن في حدودها الدنيا. ويكفي أن نجري عملية جمع بسيطة للمبالغ المالية التي يرصدها كل مجلس بلدي أو قروي للوقود وقطع الغيار والاحتفالات واستقبال الضيوف وتنقل الأعضاء ومحاربة الكلاب الضالة والحشرات والفئران ، لندرك حجم التبذير الذي ينخر ميزانيات المجالس المنتخبة دون أن تتحرك الجهات الوصية لوقف النزيف . أمام هذا الداء العضال الذي يصيب جسم المجتمع ومفاصل الدولة، لا يمكن الاكتفاء بالإجراءات الإدارية ذات الأثر المحدود ، بل الأمر يستدعي إخضاع كل مسئول للمحاسبة الدقيقة، ومن ثم المعاقبة على قدر التقصير أو الإفساد. فهل أعضاء الحكومة والبرلمان بغرفتيه على قناعة واستعداد لتعميم مسطرة المحاسبة وتفعيل العقاب على جميع المسئولين؟ بالتأكيد لا وألف لا. ولا أدل على هذا المساطر والشروط التعجيزية التي وضعها البرلمان والمستشارون ووافقوا عليها فيما يتعلق بمحاكمة الوزراء. إننا أمام حصانة مطلقة لهذه العينة من السوبر مواطنين الذين ما تحملوا مسؤولية إدارة الشأن العام إلا لأهداف ليس من ضمنها تكريس المساواة أما القانون وتعميم مسطرة الحساب وقانون العقاب. وبذلك تكون الحكومة والبرلمان أول عقبة وأخطرها في مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي لن تنتهي حلقاته ولن يصل نهايته ليدخل المغرب فعلا مرحل الديمقراطية ودولة الحق القانون.
لهذا فإن أولى مداخل الديمقراطية وأوكدها هي المساواة في المواطنة والخضوع للقانون. وإذا ما تم هذا فعلا وواقعا فإن الانتهازيين والفاسدين والنخاسين سيتخلون عن “التنافس” الشرس على احتلال المناصب واحتكار إدارة الشأن العام محليا، إقليما ووطنيا. فدولة الحق لا تقوم إلا على سلطة القانون التي لا مجال فيها للإفلات من المحاسبة والعقاب.
selakhal@yahoo.fr
* الدار البيضاء