ملفات عديدة نشرتها الصحافة الغربية عن الصين وعن احتفالاتها بمناسبة الذكرى الستين لانتصار ثورتها الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ. وبعد التقارير والتحليلات والافتتاحيات والتحقيقات، كان ملفتاً من هذه الملفات تلك التي تحكي روايات بعض من عاصروها، وعاصروا ثورتها «الثقافية» خاصة، أكانوا من أبطالها أو ضحاياها: كم كان عمرهم آنذاك؟ بماذا كانوا يشتغلون أو يهتمون؟ ما كانت أوضاعهم «الطبقية»؟ وما الذي حصل لحيواتهم بعيد الثورة؟ وعلى أية أوضاع استقروا؟ «الثورة الثقافية»، ما الذي غيّرته في رؤيتهم للثورة الأولى وقائدها وحزبها القائد؟ على أي حال هم الآن؟ ماذا يفكرون بخصوص الوجهة الاقتصادية لبلادهم؟ وبماذا أثرت على أوضاعهم؟ إلخ.
أي أننا قرأنا مقاطع من سير حياة عبَرتها ثورتان شكلتا منعطفاً لهم، يطغى فيها السلبي على الإيجابي. فتُصاب بالدهشة؛ بل تدهش من تأخّر دهشتك. هل هاتان الثورتان، الأولى والثانية (الثقافية) اللتان ألهبتا حماسة الشباب التقدمي في أنحاء العالم؟ واللتان اوحتا لشعرائه ومحلليه ومفكريه ومثقفيه بأن العالم واثق الخطى نحو اليوتوبيا المتحقّقة؟ الثورة الأولى التي دمّرت حيوات وكسرت عائلات وهجّرتها، ومجاعتها الكبرى ذات المليون ونصف قتيل؛ أو الثانية «الثقافية، الأشد بطشاً، حيث معسكرات الاعتقال وإعادة التربية الفكرية وتحطيم العائلات والأفراد والنفي والقتل الجسدي والمعنوي…؟ ثم أخيراً التحولات الرأسمالية والنهم الرأسمالي وإفقار أهل الريف وإنفلات الأجور واستفحال الاستغلال الرأسمالي تحت قيادة الحزب نفسه الذي قام بالثورة الاشتراكية. ذلك كله يفاقم من عبثية الثورة ويقلل من قيمتها الأممية ويحصرها في القومية الصينية… بحيث قلبت الصين مقولة لينين مؤسس الشيوعية الروسية، صاحب كتاب «الإمبريالية أعلى درجات الرأسمالية»؛ وهذا العنوان ـ الشعار في ظل الصين الجديدة صار: «الإمبريالية الاقتصادية أولى درجات الرأسمالية الحزبية الشيوعية الصينية».
غير بعيد عن هذا المناخ، مصر الناصرية: آلية التصديق نفسها التي جعلت جمال عبدالناصر معبود الجماهير المصرية والعربية ومثقفيها ومفكريها لوقت طويل من الزمن. صحيح أن النقد للجيوش «النظامية» وفشلها في التحرير، والعبثية الاقتصادية الرأسمالية نفسها التي في الصين… إلخ، قلّلا من شأن عبدالناصر بنظر هؤلاء العرب. لكن بقي منه ودّ سياسي، مجرد إحساس سياسي، شعور سياسي يملأ فراغاً جديداً. ولكن الاقتراب من المكان الذي ولدت فيه الناصرية ونشأت، وجمع القصص وسير حياة الناس الذين كانوا، أيضاً، مراهقين، أو أكبر بقليل، أو أصغر بقليل… يوم إنقلاب الضباط الأحرار، يفعل نفس الفعل الصيني: يحول هذا الحدث المحتفى به من بعيد منعطفاً أخطأ تصويبه، منعطفاً خطراً على حيوات الناس، اضطراباً ذا أثر دقيق على سكنهم وعملهم ودرسهم وزيجاتهم وأذواقهم وانتمائهم الطبقي إلخ. وهي آثار لا تريح الودّ المسبق عن بعيد؛ بل تضعه في بعده التاريخي الأوسع، هو حجمه النسبي الأقرب الى حقيقته.
أما العهود التي تلت الناصرية من دون أن تنقطع عن أسسها، فلم تفض الى مشروع هيمنة عالمية، كما هي حال الصين الآن. بل الى تدهور سريع جداً لمناحي التعبير والعيش والممات إلخ.
يطرح ما سبق مسألة «الموضوعية» التاريخية من زاوية الذين عايشوا الحدث التاريخي، وتأثرت حياتهم به، وانجرّت الى مناحيه. فالذين يتناولون الحدث عادة لا يأخذون منه إلا أثره على ميزان القوى السابق، على إحداث توازنات قوى جديدة، على فائض قوته… ويجرّدون الحدث في من قدَريته. على أساس أن الطريقة «الشخصية» بالتقصّي عن حقيقة الحدث، «ثانوية»، غير جامعة، وغير قابلة للتعميم. والتاريخ هو تاريخ التعميم، لا تاريخ التخصيص، كما يحسبون.
ولكن، هل نجح التعميم في استدراك أو استشعار المكونات «الرجعية» و«الرأسمالية» في كلا الثورتين الصينية والمصرية؟ هل نجح في توقع أنه سيفضي الى نقيضه التام؟ لا شيء مضمناً في مناهج التاريخ، خصوصاً وأن المنتصر فيه يرسم دائماً سقوفه ويحدّد محرّماته ويشذب تمرداته، الفردية غالباً.
وهناك شيء آخر: مسألة المسافة. مسافة الزمان ومسافة المكان. والسؤال: ما الذي يضمن أن تعرف التاريخ الأقرب نسبياً الى حقيقته وممكناته وما ينطوي عليه من تغيرات إيجابية أو سلبية؟ البُعد عن مكان الحدث؟ أم الإثنان معاً؟ البُعد عن زمان الحدث؟ أم القرب من مكان الحدث أو البعد عنه؟ أم الإثنان معاً؟
بديهي، إلا في حالات الاختصاص بالتاريخ، أن البُعد الزماني والمكاني عن الحدث هو آخر الضامنين للاحتكاك به، والاهتمام بطرح التساؤلات حوله وعليه. واضح أيضاً أننا نتكلم عن أحداث لم يتسن لنا حتى الآن اتخاذ المسافة العاطفية ـ السياسية عنها، واننا نحتاج الى استخدام البُعدين أو القُربين، الزماني والمكاني، بطريقة مركّبة.
الذي نعايشه عن بُعد يعطينا دائماً ملخصاً عاماً عن الحدث. لا نستطيع أن ندخل في تفاصيله المعيوشة، وإلا احتجنا أن نعيش في أمكنة عدة في وقت واحد. أما القُرب المكاني، فيغرقنا في تفاصيل النتائج المنبثقة عن الحدث. وغالباً ما لا نستطيع الخروج من رؤية الحدث إلا من زاوية ما يغيره في حياتنا ومسكننا وعملنا إلخ. القُرب الزمني المعطوف على البُعد المكاني لاعب ماهر في تصوير أرذل ما يحدث، أو أفضل ما فيه، تبعاً للآلية المعتمدة والموقف. حتى الآن، البُعد الزماني فيه طعم المرارة. المرارة من الثورة الصينية، المرارة من الضباط الأحرار، المرارة من كل الذين وعدوا بجنات عدن على هذه الأرض،
فأتوا عليها بالجحيم الشخصي.
لماذا هذا المقال؟ للتواضع بحقائقنا. للاستعداد لفكرة أننا قد نكون أخطأنا في تقديرنا للقريب الذي مضى، وقد نخطئ اليوم حول القريب الذي لم يمض. والخطأ نسبي، كما الحقيقة. واننا نحتاج ربما الى مقاربات غير مكرّسة للتاريخ: الأفراد والمسافات المكانية والزمنية، وتقاطعهم وتعقيداتهم وبنيتهم المركّبة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
نوافذ “المستقبل”