ليل السواد الطويل هو ما أسماه سكان عدد من أحياء بيروت لليلة الحالكة التي أعادتهم بالذاكرة الى زمن الحرب الأهلية، يقفون على شرفاتهم ويحكون عن الخوف خلال ساعات كان فيها للشبان السيطرة الكاملة على الأحياء والشوارع في العاصمة، لا شيء يساوي ساعة رعب عاشتها عائلات بكاملها خوفاً من المشهد الأسود، صراخ وشتائم وقطع للطرق وأسلحة أطلق منها الرصاص، وإطارات تتنقل فوق دراجات نارية، لتشتعل فيها النيران، كأنما الأمر خطة مدروسة أو كأنه أمر عادي تدرب عليه الشبان لينفذوه ويعيدوا انسحابهم التكتيكي عند ساعات الفجر. ليلة غزوة بيروت أو ليلة الهجوم على قناة الجديد، سوداء ومرعبة معجونة برائحة الاطارات المشتعلة.
فجأة ظهر العشرات بكامل عتادهم في شوارع العاصمة في عملية منظمة كان لكل واحد من أعضائها عمله، والهم الأول كان لدى قاطعي الطرق هو التخويف ووضع الرعب في قلوب الناس.
لا يصدق أبو علي أن كل ما فعله منذ ساعات صباح الأمس هو فقط تنظيف المواد الغذائية والمعلبات التي يبيعها تعود لتمتليء بسواد سخام الإطارات المطاطية التي أشعلت على باب السمانة التي يملكها في منطقة زقاق البلاط، فالإطارات أشعلت بالقرب من “دكانه” الصغير ليل أمل أمس في غزوة تحرير مهاجم قناة الجديد.
ينظر أبو علي إلى سقف دكانه كأنه يتحدث إلى المصباح، ويعود فيخفض رأسه، لا يحب الكلام كثيراً فهو اكتفى مما رأى، ولكنه يبدي طوال الوقت استياءه من مرور السيارات التي تحرك معها الهواء فيتحرك السخام من بقايا الإطارات ويدخل إلى عيني الرجل وثيابه وتنفسه، هو ابن الخامسة والستين عاماً. يروي قصة الخوف والاتصالات المتواصلة بينه وبين أولاده للاطمئنان عليه وعلى والدتهم خلال ”الحرب“ على الناس في الشوارع، يشير إلى أن بعض الشبان كانوا يتلقون أوامرهم عبر أجهزة اتصال لاسلكي، وآخرين كانوا يديرون العملية بشكل يظهر أن المكان تحوّل إلى منطقة عسكرية وخصوصاً مع ظهور أسلحة بيد بعض العناصر.
في زقاق البلاط لم ينم الأهالي طوال الليل من كثرة التحركات التي قام بها شبان من الحي بعد الإعلان عن الهجوم على التلفزيون، تجمعوا في الزوايا وبدأوا الاتصالات ببعضهم البعض، انقسم العمل بين من يقوم بإحضار الإطارات ومن يقوم بتبليغ الغائبين للحضور سريعاً من أجل قطع الطرق في المنطقة وحواليها. حالة من الخوف عاشتها سيدة كبيرة في العمر فضلت عدم ذكر اسمها، والرعب أتى لأن اثنين من أحفادها بقوا تلك الليلة في منزلها فخافت أن يعرف ”الغاضبون“ بوجودهم فيتعرضون لهما أو يهاجمون منزلها.
لم ينم الأهالي من الحر الذي لا يطاق ومن الخوف ومن الرعب ومن تطور الأمور إلى ما لا يمكن تحمله من جديد أي الاشكالات اليومية التي تشبه الحرب، لم يناموا أيضاً من رائحة “المشاوي” المطاطية، ومن الصراخ الذي أطلقه الشبان هناك حتى بعد اطفاء الحرائق، فبقي الجميع ساهراً حتى طلوع الفجر حيث انسحب الشبان إلى بيوتهم وأماكنهم الخاصة، وانتقل المواطنون الساهرون بقدرة الضجيج إلى التحضير ليومهم الطويل.
في منطقة الضناوي لم يختلف الأمر كثيراً، ولكن هناك زاد في الأمر أصوات الشتائم التي أطلقها عدد من “المنتفضين” على عدوهم ”الجديد“، فدخلت أصواتهم غرف النوم وأيقظت الصغار والكبار، وذكّرتهم بما حدث في غزوة السابع من ايار عام 2008 لاحتلال بيروت. يعود انتظار طلوع الفجر علّ المشهد يكتمل ويعرف الناس إلى أي مكان يهربون إليه هذه المرة.
تتجه أم سعيد إلى بيتها بعدما اشترت بعضاً من الخضار تحضيراً لعشاء عائلي يتضمن سيرة ليلة الرعب السابقة، تسقطت الأخبار من الجار “الخضرجي”، واستمعت اليه يتحدث عن كمية الغبار الاسود الذي غزا بيته القريب ودخل فراشه، وكذلك عن اضطراره لتنظيف الخضار حتى يتمكن من بيعهم، وكمية الاطارات المشتعلة التي أزالها عن باب دكانه، يهز برأسه محاولاً نسيان ما حصل.
يقول إن حركة السير جيدة وتشبه الايام العادية ولكن المؤسسات التجارية القريبة منه خالية من الزبائن، فهذا النهار المتشابه مع غيره بازدحام السير يذكره بأيام الحرب الأهلية حين كان يفتح معبر بشارة الخوري السوديكو حيث تسير صفوف السيارات الطويلة بشكل متراصف ولكن لا أحد من المؤسسات يبيع او يشتري، فالكل مستعجل للذهاب الى بيته.
في منطقة الخندق الغميق يحاول عاملان من شركة سوكلين إزالة رواسب الحرائق الليلية من الشارع، وجمعها في المستوعبات التي احرقت وسدّت بها الطرق المؤدية الى المنطقة من جهة الرينغ، سكان المنطقة يعرفون بعضهم وهم يفضلون الصمت على ليلهم السيء الذي مرّ كأنهم في حريق يسكن بيوتهم ولا يتوقف، سمعوا أصوات الصراخ وشاهدوا أصحاب الدراجات النارية الصغيرة يتنقلون طوال الليل بين الزواريب، يطلقون الصيحات والشتائم، ويحرقون الاطارات في مشهد استمر الى ما بعد الواحدة ليلاً.
رائحة الحريق تطغى على كل شيء لكثرة الإطارات التي اشعلت، رسمت فوق اسفلت الطريق دوائر وحفرت “جوراً” تتحضر لتصير مع الوقت حفراً كبيرة ومصيدة للسيارات التي تمر من هناك، أحد الشبان الصغار ويعمل “ديليفري” لتوزيع النرجيلة على الناس في بيوتهم، قال إن ليلته كانت عملاً شاقاً فهو أوصل الطلبيات لعدد كبير من زبائن محله في “محاور القتال” التي اشتعلت بالاطارات، بقي حتى ساعات الصباح يلملم عدة العمل من الشوارع، ويبتسم لرزقته الكبيرة التي حققها متمنياً دوام الأمور وزيادة الحال حتى يصير الشغل أكبر.
في منطقة صيدلية بسترس وقبل الوصول الى مبنى وزارة الداخلية تطل لوحة عملية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية على الدوائر السوداء فوق الاسفلت، هنا أحرق اطار وهناك اثنان وهنالك خمسة وغيرها… بقع جديدة لم تكن موجودة سابقاً كان الانتشار يشبه خطة أمـ…نية؟ مفاصل رئيسية تمت تجربة احتلالها كأن الأمر استعادة لسيناريو قديم، أحد المقاهي هرب زبائنه ليلة محاولة “تحرير” مهاجم التلفزيون، فهم شاهدوا العشرات من راكبي الدراجات النارية الصغيرة يحملون إطاراتهم ويتبعون بعضهم للوصول إلى المفترق الذي يؤدي ايضاً إلى منطقة فردان ومداخل الحمرا، يرمون المادة المشتعلة ويضعون الإطار فوقها، يضحكون ويشتمون وبعضهم يحمل أسلحة فردية يطلقون منا النار من وقت لآخر، زبائن المقاهي الذين كانوا يتسامرون عن مباريات كأس أوروبا ويتحضرون لجولة جديدة من الحكي لفتهم ضخامة القادمين لقطع الطرق، فهربوا لا يلوون على شيء كأنهم أسرع من الراكضين وراء كرة قدم في ملعب كبير.
جسر الرينغ استعاد من جديد صورته الأخيرة من “البوم” صور السابع من ايار، قطع ووضع حجارة عليه من جهة الخندق الغميق وإشعال إطارات، كأنه كان نائم واستيقظ متفاجئاً على الضجيج الذي اصدره الشبان القادمين بكل ما يحملونه من صراخ وشتائم بوجه العابرين الذين منعوا من العودة إلى منازلهم.
في رأس النبع يروي فؤاد ما عاشه طفليه من رعب وخوف، كان يحاول اسكاتهم ولكن الصراخ والشتائم القادمين من الشارع وخصوصاً حين الاعتداء على مصور تلفزيون لبنان دعياه إلى اطفاء الإضاءة واسكات طفليه لكي لا ينتبه له أصحاب ”الشارع“.
حركة السير في شوارع بيروت كانت عادية أمس، ولكن حركة البيع والشراء كانت خفيفة، كلما التقى جاران في المناطق “المحروقة” كان ثالثهما إطار ما أو شتيمة سمعوها خلال ليلهم الطويل، نظّفت الشوارع من السخام، ولكن غباره مازال متطايراً بين البيوت وغرف النوم وأنوف الأطفال الذين نقل عدد منهم إلى المستشفيات بحالات ربو وأمراض جهاز التنفس.
بيروت بالأمس كانت تعيش على أمل أن يصبح لدى اللبنانيين حكومة قادرة على الضرب بيد من حديد في مواجهة السلاح غير الشرعي الذي يحمي الفلتان، كانت تنتظر، رئيس الحكومة أن ينزل إلى الشارع ويدعو حلفائه للانسحاب، ولكنه بدلاً من ذلك كان مثل بقية اللبنانيين يحضر الاثارة التي يعيشونها عبر التلفزيون، ويصمت عن القمصان السود وإطاراتها وشتائمها واللعنات التي انصبت من الأكثرية الصامتة على هذا الزمن.
في قناة “الجديد” حركة عمل متواصلة، استمرت طوال نهار أمس، الكل انشغل بتدبير أعماله، في وقت انشغل بعض العمال بتنظيف مدخل المؤسسة بشكل جيد تحضيراً لإعادة دهان المكان من رواسب سخام الحريق، فيما تلقت ”المحطة“ مئات الاتصالات المتضامنة.
من جهته يعتبر مدير العلاقات العامة في قناة “الجديد” إبراهيم الحلبي أن المطلوب في الوقت الحالي قرار واضح من الحكومة بحماية المؤسسات الإعلامية والإعلاميين من آثار الصراع السياسي، ويقول إن الإعلام ليس طرفاً في الصراع بل هو يقوم بنقل الخبر واستضافة المختلفين واستعراض الأوضاع، ولذلك فهو لا يتحمل هسؤولية الانقسام السياسي”. ويشير الحلبي إلى أن القوى الأمنية والقضاء استمعوا إلى الموظفين الذين كانوا موجودين في المحطة، وأخذوا أقوال الشهود العيان وحرس المحطة، ونسخوا شرائط الفيديو التي التقطتها كاميرات الحماية لكل عملية الهجوم وما رافقها.
وقامت القناة بالإدعاء على المهاجمين وكذلك على كل من حرض وساهم وشارك في التحضير للهجوم، وفي هذا الإطار يلفت الحلبي إلى أن محامي المحطة سيستمرون في الدعاوى القضائية لأن الأساس هو حماية جسم المؤسسة عبر القضاء فقط. ويعتبر أن المطلوب هو “اتخاذ تدابير رادعة” بحق كل من يعتدي على الاعلام لأن هذه الأمور إذا مرت لن تجد من يوقف أسوأ منها لاحقاً.
في هذا الوقت لم تتبلغ “الجديد” اي معطيات رسمية من القضاء، وبنفس الوقت فالقوى السياسية المعنية رفعت الغطاء السياسي عن كل المخلين الذين شاركوا بالهجوم، ويؤكد الحلبي أن هناك رواية غير رسمية تشير إلى أن الفاعلين قاموا بهذا العمل “من رأسهم” احتجاجاً على مقابلة المحطة مع الشيخ أحمد الأسير.
يلفت الحلبي إلى استغرابه “فشّ الخلق” بالمؤسسات الإعلامية، مشيراً غلى أن المطلوب هو إبعاد الإعلام عن الصراعات السياسية والخلافات واعتباره منبراً لكل الاصوات وليس شريكاً، مؤكداً أن اي حماية يجب أن تأتي من القضاء والقوى الأمنية. مشيراً غلى أن حجم الالتفاف الشعبي والسياسي مع القناة دليل على وسطيتها بين اللبنانيين وعدم حملها لأي مشروع مع طرف ضد طرف آخر.
في سياق متصل تحدثت معلومات عن نقل الموقوف وسام علاء الدين إلى المستشفى للعلاج من الحريق الذي اصابه اثناء محاولته احراق مدخل مبنى “الجديد” مع رفاقه، واشارت إلى أن شخصاً آخر كان احترق معه واستطاع الفرار من المنطقة نقل إلى إحدى المستشفيات خارج العاصمة، لكي لا يتم التحقيق باسباب إصابته، فيما تم تداول معلومات عن علاقة علاء الدين بأحد الأشخاص ويدعى محمود عكنان وهو مسؤول بما يدعى “سرايا المقاومة”.
تلفزيون لبنان
ليلة احتلال بيروت وإثر الهجوم على قناة ”الجديد“، تبلغت مديرية الأخبار في تلفزيون لبنان عن قطع طرق في عدد من مناطق بيروت من فردان إلى الحمرا ورأس النبع والخندق الغميق والرينغ وغيرها من المناطق، فأرسلت فرق التصوير لتغطية الأحداث، ومن بينهم المصور محمد رحمة ومعه سائق للسيارة يدعى محمد ناصر الدين، الذي قام بتغطية أحداث ”معبر“ السوديكو بشارة الخوري.
يروي مدير الأخبار في تلفزيون لبنان صائب دياب ما حدث مع رحمة فيقول ”خلال التصوير في منطقة بشارة الخوري تقدم عدد كبير من راكبي الدراجات النارية باتجاه سيارة تلفزيون لبنان وسحبوا منها المصور رحمة وبدأوا بدفعه وشتمه، وصادروا كاميرا التصوير، ولكن مع وصول الجيش إلى المكان تركوا المصور وأخذوا الكاميرا باتجاه منطقة الخندق الغميق“.
يقول دياب إن إدارة تلفزيون لبنان اتصلت بقيادة الجيش اللبناني من أجل إعادة الكاميرا من الشبان الذين صادروها، في وقت كانت أيضاً تتصل بالأحزاب الموجودة في المنطقة لضمان إعادة الكاميرا لأنها جزء من أملاك المؤسسة القليلة التي تعمل في ظل “التقشف” الذي يعيشه التلفزيون، الجيش قام بفرز عقيد للقيام بالتفاوض مع أحد أحزاب المنطقة لإعادة الكاميرا حيث استمرت المفاوضات من الحادية عشر والنصف ليلاً إلى الثالثة صباحاً،حين أعيدت الكاميرا ولكن من دون شريط الفيديو حيث صادره الشبان في المنطقة.
يؤكد دياب أن تلفزيون لبنان لكل اللبنانيين من دون استثناء، وليس محسوباً على طرف ضد آخر، ولكن ما حصل أخاف الجميع في المؤسسة من الأحوال التي وصلنا إليها، فبال الجميع انشغل على الطاقم وعلى الكامير وعلى المشاهد التي التقطت والتي تعتبر جزءاً من تاريخنا الذي يحتفظ به تلفزيون لبنان للأجيال القادمة.
دياب أشار إلى أن الشهر الأمني يبدأ اليوم الأربعاء، وطالب بأن تصير كل الأشهر كهذا الشهر، مشدداً على ضرورة احترام المؤسسات الإعلامية بعيداً من الصراعات السياسية.
oharkous@gmail.com