يقول معلّق إسلاموي النـزعة في معرض نقده لمحمد أركون إن أعمال الأخير تؤدي إلى النتيجة التالية: “لا يخضع القارئ لضوابط سوى ما يمليه عليه عقله”. وهذه النتيجة، في نظره، سلبية تماما، لأن في العقائد الدينية ما لا يخضع، بالضرورة، لأحكام العقل.
وأعتقد، من جانبي، بأن في الحقل الدلالي لهذه النتيجة، وتأمل ما نطقت به، وما سكتت عنه، ما يُشكل مدخلا بالغ الثراء للكلام عن مشروع المفكر الجزائري الكبير، محمد أركون، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، وعن نقّاده ومبغضيه من حرّاس ما أسماه أركون نفسه بالسياج الدوغمائي للتراث.
والواقع أن كل كلمة في هذه النتيجة تحتاج إلى تحليل خاص. فالقارئ، مثلا، مُحاصر بين مفردتي الخضوع والضوابط. وبين ما تنطوي عليه هاتان المفردتان من دلالات تحالف وتكافل وتعاضد. فالأولى تستمد شرعيتها من الثانية، ولا تحضر الثانية إذا غابت الأولى. وهذا ينطبق على أشياء كثيرة بدءا من الخضوع لقوانين المرور، مثلا، وانتهاء بما شئت من سلطات: دينية وسياسية ورياضية ومالية وأبوية..الخ.
ففي كافة تجليات الاجتماع البشري ثمة ما يستوجب الخضوع، وما لا يتحقق باعتباره خضوعا إلا إذا توفرت الضوابط. ربما لهذا السبب: رأى هيغل في الدولة، وهي أرقى أشكال الاجتماع البشري، قيدا على الحرية، وتكلّم فرويد عن خطر الدافع الجنسي على الحضارة.
فلنتوقف عند هذا القدر، ولننتقل إلى منفذ الهرب الذي فتحه أركون أمام القارئ المُحاصر بين مفردتي الخضوع والضوابط، أي إلى “سوى ما يمليه عليه عقله”، وهذا من المآخذ في نظر المعلّق. لماذا؟، لأنه يهدد بخلخلة العلاقة التقليدية والمألوفة، كما استقرت في النسق الثقافي الإسلامي، ويشترط تحكيم العقل. وهذه مُعضلة حقيقية لأن الإملاء ينطوي بدوره على دلالة الخضوع والإخضاع، لكنه أصبح هذه المرّة مشروطا بالعقل.
وهنا، قد يقول قائل: وما المشكلة، فقد كان العقل حاضرا في النسق الثقافي الإسلامي، وهناك ما لا يحصى من الشواهد التي تحض على ضرورة الاحتكام إلى العقل.
والمشكلة أن المُحاصر بين الخضوع والضوابط اسمه “القارئ”، فالكلام يدور، هنا، عن القارئ. والقارئ دلالة حديثة تماما، تنتمي إلى الأزمنة الحديثة، وقد أصبح مع انتشار الطباعة، والكتب والجرائد، ووسائل الاتصال، كينونة مستقلة، وموضوعا للتنافس.
كم كان عدد من يجيدون القراءة والكتابة في ما أصبح لاحقا العالم العربي في القرن الخامس للهجرة؟ بل كم كان عددهم قبل مائة عام؟ في العالم العربي اليوم مائة مليون من الأميين، فما أدراك بما كان عليه الحال في الماضي. وبالمناسبة، هذا يصدق، في أزمنة مضت، على أوروبا، وعلى الصين، وعلى بني البشر في كل مكان.
الثورة التي أحدثتها الطباعة في تاريخ بني البشر بلا حدود، وبلا نهاية معلومة. القارئ كينونة جديدة وحديثة. هذه الكينونة تخضع لمنطق السوق، مرّة باعتباره مستهلكا لمنتجات كتابية تستدعي امتلاك القدرة على القراءة، ومرّة باعتباره مواطنا يملك، نظريا على الأقل، حق المشاركة في الانتخابات، وإبداء الرأي في الشأن العام. وكما في كل ما يخضع لمنطق السوق، تحتدم المنافسة على القارئ.
وإذا استخدمنا فكرة ذائعة لماكس فيبر عن الأزمنة الحديثة باعتبارها لحظة نـزع السحر عن العالم، فإن اكتشاف وتعميم المطبعة كان وما يزال في طليعة المُنجزات التي نـزعت السحر عن العالم.
بيد أن الأمر لا يتوقف عند القارئ باعتباره مستهلكا لمنتجات كتابية وموضوعا للتنافس والصراع، بل يتعداه إلى حقيقة ما طرأ على مفهوم العقل نفسه من تطوّر، فما كان عقلا في أزمنة مضت لا يعتبر اليوم كذلك، إلا باعتباره موضوعا للعلوم الإنسانية.
والعقل، بهذا المعنى، مفهوم حديث، أيضا. فالمعرفة، والتأويل، واستنباط الأحكام، وبلورة المفاهيم، عمليات تحدث في التاريخ، وفي اللغة، وتتخلّق في حاضنات اجتماعية، وهي مشروطة بالسياسة وعلاقات القوّة.
ويكفي الوصول، في التحليل، إلى هذا الحد لاكتشاف أمرين أولهما أن عبارة: “لا يخضع القارئ لضوابط سوى ما يمليه عليه عقله” تختزل ما يعتمل في نفوس حرّاس السياج الدوغمائي من مخاوف، وتنم في ثانيهما عن علاقتهم الملتبسة والمأزومة بالقارئ والعقل في آن.
فحرّاس السياج الدوغمائي في الحقل الثقافي الإسلامي، المتمثل في علوم وأفكار ومناهج كلاسيكية مُعتمدة، أغلقوا باب الاجتهاد منذ ألف عام. وهذا السياج يتعرّض لضغط هائل منذ أواسط القرن التاسع عشر من الداخل والخارج.
في الداخل أصبح ما لا يحصى من الناس قرّاء بعد إنشاء المدارس والجامعات، وأصبحت الضرورة تستدعي التعامل معهم كقرّاء (وهذا ما يفسر في جانب منه محاولة الاستعانة بمنجزات العلوم الطبيعية للتدليل على عدم التناقض بين العلم والدين، بل والتدليل على أسبقية المعرفة الدينية في حقل العلوم الطبيعية) ناهيك طبعا عن ظاهرة نشوء الدولة الحديثة، حتى وإن كانت هجينة، وعن الميراث الكولونيالي، وميراث الأيديولوجيات القومية والعلمنة..الخ.
ومن الخارج يضغط النجاح المادي والثقافي والعسكري والسياسي والعلمي للغرب، ويترافق ذلك مع صراعات للقوّة تميل كفتها منذ قرن ونصف القرن لصالح الغرب نفسه. ورغم محاولات متفاوتة من حيث القوة والوضوح للتأقلم، أو لبلورة دفاعات للمقاومة، إلا أن السلاح الأمضى في يد حرّاس السياج الدوغمائي يتمثل منذ سبعينيات القرن الماضي في سياسات الهوية، ويميل أكثر فأكثر إلى العنف. والمفارقة، في هذا الشأن، أن ظهور التلفزيون أنقذ حرّاس السياج من ورطة التعامل مع القارئ باعتباره كينونة جديدة وحديثة، فتحوّل الأخير إلى مُتفرج، وهذا، على أية حال، مبحث آخر.
المهم أن ما فعله أركون لا يتعدى أكثر من محاولة شجاعة لزعزعة الدعامات الأيديولوجية التي أقيم عليها ذلك السياج، في سياق مشروع أطلق عليه تسمية “الإسلاميات التطبيقية”، بمعنى التعامل مع ما أسماه “الظاهرة الدينية” باعتبارها ظاهرة تاريخية أولا، وتحليل شروط نشأتها وتطوّر منطقها الداخلي، وتفاعلها مع الحاضنة الاجتماعية، استنادا إلى معطيات ومناهج علوم التاريخ والاجتماع واللغة والنفس والإنسان ثانيا، ونقد الخطابات ذات الصلة سواء صدرت عن مستشرقين أو عن مسلمين ثالثا.
والمقصود بالظاهرة الدينية لدى أركون الأديان التوحيدية نفسها، فلا يمكن فهم الإسلام، في نظره، دون دراسة مقارنة. لذلك، لم يجد نفسه في مواجهة حرّاس السياج الدوغمائي وحسب، بل كان عليه مجابهة المستشرقين ومناهجهم من ناحية ثانية.
بيد أن مشكلة أركون في العمق لا تتمثل في نقد الحرّاس، وفي تشخيص السياج، وتفكيك الدوغما، بل في استقصاء الديناميات الأصلية التي تتمكن الظاهرة الدينية بفضلها من توليد الحرّاس، وتشييد السياج، وتخليق الدوغما، والعمل على حمايتها، وضمان ديمومتها. هنا يتداخل الميثولوجي، باللا مفكر به، والرمزي بالمادي المُعاش، واللا عقلاني بالمخيّلة الإنسانية في سعيها إلى اكتشاف المجهول.
وفي هذا كله ما يستدعي، وما يحرّض على، قراءة النصوص المؤسِسة، والسرديات الكلاسيكية، باعتبارها نتاجا لزمن بعينه، وهذا ما لا يمكن عمله، والتحقق منه، دون الاستعانة بعلوم التاريخ والأنثروبولوجيا والنفس والاجتماع، والفلسفة، واللغة، أي بما أصبح متوفرا لدينا من مناهج وأدوات تحليلية حديثة.
وما يترتب على ذلك من معرفة ليس نهائيا بطبيعة الحال، بل عرضة لتحوّلات دائمة تفرضها حقيقة التطوّر في مناهج العلوم، وبهذا المعنى لا تكف النصوص والسرديات عن الحياة، بل تكتسب حياة ودلالات جديدة، مصدرها التوتر الدائم بين المعرفة وموضوعها وسبل تحقيقها. وفي هذا تحرير للعقل.
وفي جميع الأحوال، انخرط أركون في مشروعه الكبير باعتباره أستاذا في الجامعة، لم يكن النشاط السياسي بالمعنى اليومي هما من همومه، ومارس وظيفته كمنوّر ومجتهد. كان واسع الاطلاع وثاقب النظر في العلوم الإسلامية، والعلوم الغربية الحديثة، على حد سواء. ولا يمكن الكلام عن ميراث محمد أركون المعروف لدى القارئ العربي دون الإشارة إلى ما بذله هاشم صالح، وهو مثقف معروف، وتلميذ من تلامذة أركون، من جهد، وما أنفقه من وقت، على مدر عقود، في ترجمة محاضرات ومقالات ودراسات أركون ونشرها باللغة العربية.
ومن اللافت للنظر ملاحظة أركون، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول “سبتمبر” الإرهابية في الولايات المتحدة، وبداية ما سيعرف لاحقا بالحرب على الإرهاب، فقد لاحظ أن الحكومات الغربية والأنظمة القائمة في العالمين العربي والإسلامي تعمل على تنشيط وإحياء وتعميم الإسلام المسالم والشعبي للطرق الصوفية لمواجهة إسلام القاعدة.
ويتجاهل القائمون على هذه المحاولة، في نظره، حقيقة أن ذلك ما تمرّد عليه القوميون والاشتراكيون العرب والأتراك، في عقود سبقت، وما اعتبروه مصدرا للتخلف والعزلة والانغلاق. ويرى أركون من جانبه بأن ما يدعونه بالإسلام المعتدل يجهل التحرير الفكري ويعرقله.
وفي المقابل يرفض أركون تجزئة الظاهرة الدينية، أو التمييز بين المذاهب والفرق والنحل، ويدعو إلى: “الإضاءة التاريخية واللغوية والأنثروبولوجية والفلسفية للخصومات العقائدية المتراكمة منذ قرون وقرون بين الأديان التوحيدية من جهة، وبين هذه الأديان مجتمعة والحداثة العلمانية العالمية من جهة أخرى. هذا هو العمل الضخم الذي ينتظرنا كلنا لكي ننجزه من أجل التوصل إلى التحرير الفكري المنشود والخروج من السياج الدوغائي المُغلق لكل الظلاميات أو كل الأصوليات أيا تكن”.
أخيرا، ثمة حادثة تستحق الذكر. التقيت بمحمد أركون قبل عامين على هامش ندوة في جامعة “توبنغن” الألمانية العريقة، واقترح مشكورا أن نذهب في اليوم التالي لزيارة عمدة المستشرقين الألمان الأستاذ “جوزيف فان إس”. كان من الواضح أن أركون يزور “فان إس” في بيته للمرّة الأولى، وكان من الواضح، أيضا، بأنه يكن إعجابا لم يكف عن التعبير عنه في الطريق إلى البيت، وفي حضرة الأستاذ، وبعد انتهاء الزيارة. فهو أعظم من كتب عن الإسلام وتاريخه في القرنين الثاني والثالث للهجرة. استخدم “فان إس” المنهج الفيلولوجي، الذي انتقده أركون في مناسبات كثيرة، لكن مكانة الأستاذ لم تتزعزع.
وأذكر، في هذا الصدد، كيف طلب أركون من “فان إس” أن يريه مكتبته، أو الصومعة، كما قال. وعندما هبطنا إلى الطابق الأرضي في بيت يضيق على ساكنيه من تراكم الكتب، وصلنا إلى قاعة متوّسطة الحجم يتوسطها مكتب صغير، وبمحاذاة الجدران خزانات تضم أمهات الكتب باللغة العربية، وربما كل ما أنتجه المسلمون والمستشرقون من كتب وأبحاث يعتد بها. وقف أركون مذهولا ومبتهجا كطفل نال جائزة، كان في الثمانين من العمر، ولم يكف عن طرح أسئلة عن كتب بعينها، وعن لمسها بيديه.
كان أركون، المفكر الكبير، قارئا كبيرا، شغوفا بالمعرفة، وشجاعا في استخدام مبضع النقد، وبغيابه أفل نجم من النجوم الساطعة في ليل العرب. على السياج حرّاس جدد: الدولارات النفطية، وسلاح الإرهاب الشعبي والمُنظم، وأنظمة الطغاة. أما القارئ غير المطحون ما بين الخضوع والضوابط، فغريب الوجه واليد واللسان، كالفتى العرب في شعب بوان. ليلنا طويل، والنجوم قليلة.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
ليلنا طويل والنجوم قليلة..!! – ما سماه السيد عيتاني ادناه (عرب ندابة) له اسم في الثقافة الكونية (cannibalism) ولحسن حظ “الخطاب العربي” فقد (عربه) صاحب “ادونيس منتحلا” العراقي (كاظم جهاد) في اللحظة (المطابقة) والبسه لعبدالقادر الجنابي (آكل جيفة) احد مؤسسي (الزقورة)* : عقيل علي … كتب كاظم (ثمّة فئة من البشر يدعوها العرب “آكلي الجيَف”. والمقصودون هم مَن يغتذون من كيان الموتى ويستغلّون موتهم لنهش الأحياء. وفي مناسبات عديدة أثبت المتشاعر عبد القادر الجنابي إصراره على الانضواء تحت لواء هذه الفئة من الكائنات شبه الإنسانيّة. ولقد مدّه رحيل الصديق الشاعر العراقي عقيل علي بفرصة جديدة لينهش ويتكالب. ولئن ترفّعنا في… قراءة المزيد ..
ليلنا طويل والنجوم قليلة..!! فاروق عيتاني — farouk_itani@live.com منذ وفاة المفكر اركون، والتي جاءت متتابعة مع وفاة ابو زيد و الجابري، ظهر المثقفون العرب في صورة “عرب ندّابة”.انا واثق من ان القراء العرب – ولم يكن اركون يتوجه بالكتابة لهم_سيقرأون أركون ثم سيعجبون او يتعجبون، فالعجب والعجاب والعجبا مسألة تابعة لجماليات اللغة – المعنى.ثم ان اتجه قسم من القراء الى المصادر،وقرأ… فهو سيتجاوز أركون. مشروع أركون كان مشروعا مفتوحا على عكس مشروع الجابري المحدد سلفا.المشاريع المفتوحة مفيدة للتفكر لا للتدبير.يتحدث اركون عن قطيعتين نعيش فيهما الاولى مع المعتزلة والثانية مع العصر. في الثانية صحيحة، ولكن هل تستحق المعتزلة تلك الصورة… قراءة المزيد ..