رغم استمرار مظاهر الفوضى وإهدار الإمكانات التنموية في ليبيا، ترتسم في المشهد السياسي مؤشرات تدلّ على أن الوضع يتحسن وأن الحكومة الانتقالية الحالية ماضية في فتح الملفات الكبرى.
ويعزو محللون الاستقرار النسبي للوضع الأمني والانطلاق نحو معالجة المعضلات الداخلية والخارجية إلى تراجع حدة الصراع بين الفرقاء بعد انتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان الانتقالي)، على عكس الجارتين مصر وتونس، ما أدى إلى تدوير كثير من الزوايا الحادة.
ويمكن الاستدلال على مناخ التوافق النسبي بمصادقة المؤتمر الوطني العام على مقترح تأسيس وزارة الإعلام، وهي خطوة كانت ستثير أمواجا من الاعتراضات والجدل لو اتــُخذت في ظل الحكومة السابقة. وكانت هناك أصوات تعترض اعتراضا مطلقا على إنشاء وزارة إعلام بوصفها مدخلا للرقابة على القطاع، إلا أن الغالبية في “المؤتمر” لم تشاطر هذا الرأي.
ومن هؤلاء عضو المؤتمر الوطني العام، حسن الأمين، الذي أكد لـ swissinfo.ch أن المؤتمر سيستمر في دوره الرقابي والتشريعي عبر لجانه المتخصصة، وسيتابع هذه الوزارة لضمان حرية الإعلام واستقلاليته، والحيلولة دون هيمنة أية جهة عليه أو توجيهه. وشدّد على أن مهمة الوزارة تتمثل في إدارة وتمويل قطاع الإعلام، كما نوه إلى أن لجنة الإعلام بالمؤتمر ستستمر في التشاور مع كل الأطراف والجهات المختصة لبلورة فكرة إنشاء مجلس وطني للإعلام، مشيرا إلى أن عمر هذه الوزارة سينتهي مع استكمال مدة الحكومة المؤقتة.
في المقابل، اعترض إعلاميون من ذوي التوجهات الاسلامية على تكوين الوزارة مُعتبرين أنها ستحد من حرية التعبير بحجة ضبط الانفلات، ورأوا فيها “محاولة من السلطة التنفيذية للتحكم في حرية الإعلام”.
معايير النزاهة
وشكّل هذا الجدل الفكري، بعيدا عن الإعتصامات والاحتجاجات العنيفة السابقة، صورة من روح الحوار والوفاق التي باتت تسود الأجواء الليبية، على رغم استمرار الخلافات العميقة في جميع المجالات تقريبا. ويمكن اعتبار الطريقة التي عولج من خلالها ملف عاشور شوايل، وزير الداخلية في حكومة علي زيدان، أنموذجا آخر على تقديم الحوار على التدافع العنيف في الساحة السياسية الليبية.
فبدل إقصاء كلّ من تحوم حوله شبهة التعامل مع نظام معمر القذافي واعتباره من “الفلول” و”الأزلام” الذين لا يصلحون لتقلد الوزارة في عهد الثورة، تم الاحتكام إلى القضاء الإداري ليفصل في الشبهات التي حامت حول شوايل، الذي طعنت فيه هيئة النزاهة، ما أدى إلى إرجاء أدائه القسم الذي أداه زملاؤه في الحكومة. وبعد التثبت، أصدرت الدائرة الثانية بمحكمة الاستئناف في طرابلس حكماً بإلغاء قرار “الهيئة العليا لتطبيق معايير النزاهة والوطنية” المتعلق باستبعاد الوزير شوايل من تشكيلة الحكومة، مؤكدة أنه يستجيب لمعايير النزاهة.
ولم يتوان وزير الداخلية، في أول تصريح أدلى به، عن التأكيد على ضرورة جمع السلاح و”تسليمه للجهات المختصة، من أجل تحويل ليبيا إلى دولة أكثر أمنا”. وفي إشارة غير خفية إلى الجماعات المسلحة، تعهد شوايل بأن رجال الشرطة سيرتدون لباسهم الرسمي الكامل في شوارع المدن، مطمئنا رجال اللجنة الأمنية العليا بأنهم “ليسوا خارج الحل بل هم جزء من تطوير الشرطة”، ومُعتبرا أن تحقيق الأمن “مرتبط بكافة الشرائح من مجتمع مدني وأعيان وقبائل وحكماء ووعاظ”.
أخطار عابرة للحدود
مع اختفاء مظاهر الاعتصامات والاجتياح البشري الذي كان “المؤتمر الوطني العام” نفسه ضحية له على نحو عطل بعض جلساته، استطاعت المؤسسات الانتقالية أن تباشر عملها، ومن ضمنها الحكومة. وظهر ذلك من خلال الزيارات التي أداها رئيسها علي زيدان إلى البلدان المجاورة من أجل طمأنتها على جدية السعي لمراقبة تهريب السلاح إلى خارج ليبيا.
غير أن زيدان طلب أيضا ضبط العناصر المرتبطة بأجهزة نظام القذافي التي لجأت إلى كل من مصر وتونس والجزائر والمغرب، والتي يُعتقد أنها تملك أموالا طائلة تستخدمها لزعزعة الأوضاع من وقت إلى آخر داخل ليبيا. وما يزيد الوضع تعكيرا أن المؤسسات الأمنية والقضائية، وخاصة الشرطة والسجون، مخترقة، وهو ما أكده فرار 177 سجينا في الأيام الأخيرة من سجن سبها (جنوب)، ولم تتمكن عناصر الشرطة القضائية من القبض عليهم.
إلا أن مراقبين يعتبرون أن الوضع الداخلي لا يحتاج إلى “تحريك” من الخارج، ويُقللون من مؤشرات تراجع الاحتقان وضعف سطوة الجماعات المسلحة، مُشددين على أن العنف مازال مستشريا وأن أصوات العقلاء ما زالت لا تُسمع بالقدر الكافي. ويمكن الاستدلال في هذا السياق بشهادة الدكتورة فاطمة حمروش، وزيرة الصحة في حكومة عبد الرحيم الكيب، التي أمضت نحو ثلاثين سنة في إيرلندا قبل أن تعود إلى بلدها بعد انتصار الثورة.
ومع استقالة حكومة الكيب وتسمية حكومة زيدان، سارعت بالعودة إلى إيرلندا حيث صرحت لوسائل الإعلام بأنها كانت تعيش في رعب لأنها حاولت منع محاولات تزوير كبيرة ورفضت مستندات وهمية قدمها الثوار السابقون. وكشفت أنها صارت تعتمد على حرس من ثمانية أفراد يحملون بنادق كلاشنيكوف في الأسابيع الأخيرة، واضطرت للعيش داخل ثكنة عسكرية.
وقالت الوزيرة إن أحد ملفات الفساد كلف الدولة الليبية أكثر من مليار يورو بسبب احتيال من ثوار قدموا أنفسهم على أنهم جرحى. وأضافت أنها نجت من محاولة خطف أثناء ذهابها لمحطة إذاعية. كما أنها اضطرت لعدم الذهاب للوزارة بسبب التهديدات وخطورة الوضع الأمني مما حملها على العمل من الفندق في بعض الأحيان. ولم تتمالك حمروش، المواطنة الليبية الأيرلندية، عن المقارنة بين وطنها الأصلي ووطنها بالتبني فأشارت إلى أن خبرتها كوزيرة في ليبيا جعلتها تثمن عملها أكثر في ايرلندا حيث تسود المؤسسات: “هنا يوجد القانون وتتم محاسبة الناس، وهنا احترام وهنا لا أحد فوق القانون” مثلما قالت. لكن على الرغم من تجربتها القاسية والمريرة في ليبيا تعتقد حمروش أن “البلاد تتقدم”.
ثائرة … ضحية للثوار
الأنموذج الآخر قدمته فتاة ليبية شاركت بقوة في الثورة ثم فرت بجلدها من اضطهاد الثوار السابقين إلى الخارج. ومن المفارقات أن منطقة ساندرلاند الواقعة على الساحل الشمالي الشرقي لبريطانيا، باتت ملاذا للناشطة الليبية مجدولين عبيدة البالغة من العمر 25 عاما، والتي اضطرت الى الفرار من بلد الثورة التي شاركت فيها بحماسة. وكانت مجدولين، وهي ابنة محام نشأت في العاصمة طرابلس، شاركت في تقديم الإمدادات للثوار الذين كانوا يقاتلون القذافي، وخاطرت بنفسها.
وقالت مجدولين لوسائل الإعلام البريطانية “أمر سيء للغاية أن تخاطر بنفسك وأن تبذل قصارى جهدك من أجل هذه الثورة، ثم في النهاية تضطر إلى مغادرة البلاد لأنها لم تعد مكانا آمنا لك”. وأضافت: “خلال الثورة كان الجميع في حالة اتحاد، الجميع كانوا يتعاونون، لكن الوضع الآن أصبح صعبا للغاية”.
بدأت متاعب الفتاة المتقدة حماسة خلال زيارتها لمدينة بنغازي، مهد الانتفاضة وثاني أكبر المدن الليبية، في صيف العام الجاري إذ اعتقلها مسلحون مرتين. كما تعطل مؤتمر المرأة الذي حضرته مجدولين، والذي ساهمت بريطانيا في تمويله، على أيدي مسلحين. واقتادها هؤلاء من غرفتها بالفندق واحتجزوها، ثم اطلقوا سبيلها قبل أن تختطف مرة أخرى في اليوم التالي وتحتجز في سجن بقاعدة تابعة لاحدى الميليشيات.
وروت ما حدث لها قائلة: “دخل أحدهم وبدأ يركلني بقدمه، ثم بدأ يضربني ببندقيته وقال لي (سأقتلك وسأدفنك هنا ولن يعرف أحد طريقك)، ونعتني بأني جاسوسة اسرائيلية وعاهرة”. وأضافت “ظل يقول لي (سأقتلك هنا ولن يعرف أحد طريقك) واعتقدت أنهم سيقتلونني في هذا المكان”، لكنهم أفرجوا عنها بعد ذلك. ولاحظ الصحفيون الذين التقوها آثار رضوض بادية عليها جراء الضرب، وبناء عليها، قررت في سبتمبر الماضي السفر إلى بريطانيا خشية اختطافها مرة اخرى.
يُضاف إلى هذه المخاطر التي تهدد السلامة الشخصية للنشطاء، وخاصة الناشطات، أن مسار العدالة الانتقالية في ليبيا يتقدم ببطء وتواجهه عثرات كثيرة مثلما أظهرت ذلك ورشة أقامتها مؤسسة “فريدريش نومان” الألمانية في تونس أخيرا بمشاركة عدد كبير من الحقوقيين والأكاديميين والمدافعين عن حقوق الإنسان والإعلاميين الليبيين.
والأكيد أن هذه الأمور حاضرة في الخطة التي باشرت تنفيذها حكومة زيدان، إلا أنها تسير على خيط رفيع بسبب تمادي جماعات مسلحة في السيطرة على بعض المناطق وسط غياب الدولة. كما أن القبائل مازالت تتمتع بنفوذ قوي يدل عليه استمرار احتجاز سيف الإسلام نجل العقيد معمر القذافي في منطقة الزنتان، على رغم تشكيل حكومة شرعية منبثقة من انتخابات أقر الجميع بنزاهتها وشفافيتها. بهذا المعنى، سيبقى السلاح والقبيلة والجماعات المتشددة، التي لا تعترف بسلطة الدولة، أهم العقبات في وجه الإنتقال من نظام الاستبداد الفردي إلى نظام ينهض على المؤسسات ويحتكم إلى القانون ويسوده التنافس الديمقراطي.