ثمة جانبان جوهريان لمسألة الإصلاح في ليبيا. الأول يتعلق بخطة توريث العقيد معمر القذافي الحكم لنجله سيف الإسلام ومآلات هذه الخطة، أما الثاني فيهتم بالمسار السياسي لسيف الإسلام والدور الذي لعبه في السنوات الأخيرة داخليا وخارجيا، باعتباره يُقدم كزعيم للتيار الإصلاحي في مقابل “المحافظين” الممثلين بـ”الحرس القديم” داخل النظام، وتحديدا تنظيم “اللجان الثورية”.
تستعرض الورقة علاقة سيف الإسلام بمكونات المعارضة الليبية على اختلاف مشاربها، وتستخلص أنه يسعى إلى إيجاد توافق يرتكز على التطبيع مع النظام لقاء القبول بتغيير طابعه العنيف في التعاطي مع معارضيه، وإرساء تقاليد حوار غير مسبوقة في البلاد، وخاصة مع “الجماعة الليبية المقاتلة” المرتبطة بتنظيم “القاعدة”. من المثير مقارنة مطالب الحركة الإصلاحية، خاصة في السنوات الأخيرة، ببرنامج سيف الإسلام، وقراءة الآفاق المحتملة للتقارب بين الجانبين، بعد وضع مسار التوريث على السكة، وإخفاق محاولة سيف الإسلام بين 2006 و2008 في إنضاج الظروف لإرساء إطار دستوري للدولة، على رغم تفاعل قطاعات من المعارضة بجناحيها الليبرالي والإسلامي مع احتمال تحقيق المطالب من خلال طرف داخل النظام، مدفوعين ببعض الإصلاحات التي أجريت في قطاع الإعلام. لكن، بعد تكريس قرار التوريث في 2009، وقيام الهيئات المُكونة لـ”الحكم الجماهيري” باستكمال مُبايعة سيف الإسلام على رأس السلطتين التنفيذية والتشريعية، توسع الجدل في شأن ضرورة إدخال تعديلات على نظام الدولة لتحديد صلاحيات “المنسق العام للقيادات الشعبية”، ما يجعل سن دستور للدولة ممرا إجباريا. إلا أن معمر القذافي يظل هو الممسك الحقيقي بخيوط الجناحين الإصلاحي والمحافظ في الحكم.
ابن النظام
ورّث العقيد معمر القذافي الحكم لنجله سيف الإسلام بتسميته رجلا ثانيا في الدولة. وسرعان ما قامت الهيئات المُكونة لـ”الحكم الجماهيري” باستكمال مُبايعته على رأس السلطتين التنفيذية والتشريعية في منصب “المنسق العام للقيادات الشعبية”. وتم التمهيد لهذه الخطوة بمنحه دورا سياسيا متزايدا طوال السنوات العشر الأخيرة، وتحديدا منذ رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على ليبيا. وبرز هذا الدور من خلال الحوار الذي أرساه سيف الإسلام مع العواصم الغربية الرئيسية وخاصة واشنطن ولندن وباريس.
لكن، على عكس السابقة السورية، يحرص القذافي الأب على متابعة ملف التوريث متابعة دقيقة لإنهاء جميع ترتيبات نقل الحكم قبل رحيله، من دون الابتعاد عن سدة القيادة طالما ظل حيا. فما هي التأثيرات المحتملة لعملية التوريث على المطالب الإصلاحية، وما أثر رسائل الانفتاح التي أطلقها سيف الإسلام في السنوات الأخيرة، في تحقيق التنازلات التي تمت لصالح الحركة الإصلاحية، وخاصة في مجالي الإعلام وحقوق الإنسان، مثل هدم مُجمع سجون “أبو سليم” الرهيب، والسماح لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” بإعلان تقريرها عن ليبيا من داخل البلد وبحضور سجناء سياسيين سابقين.
وبقدر ما يمكن أن تشكل تلك الخطوات مقدمة لتنفيذ برنامج إصلاحي متكامل، يمكن تفسيرها أيضا بكونها الشرط الضروري لضمان سلاسة التوريث وتأمين استتباب الأمر للحاكم الجديد. فما الذي يضمن أن تلك الوعود الديمقراطية لن تتبخر بعدما يُسيطر الحاكم الجديد على أجهزة السلطة وتستعيد الفئة الحاكمة السيطرة على مفاتيح الحياة السياسية والاجتماعية، وهو ما جعل قسما من المعارضة الليبية المطالبة بإصلاحات ديمقراطية تتردد في تزكية توريث الحكم لسيف الإسلام.
فسيف الإسلام (37 عاما)، وهو النجل الأصغر للزعيم الليبي من زوجته الثانية، لم يُنتخب لأعلى منصب تنفيذي في الدولة في استفتاء شعبي أو انتخابات عامة، وإنما سلك نهج والده من خلال انقلاب أبيض أربك الدوائر المناهضة لهذه الخطوة في “اللجان الثورية”. وظل معمر القذافي يمهد لهذه اللحظة منذ 1995، وهو أعلن في خطاب ألقاه في 30 نيسان / أبريل 1996 أن “القيادة الشعبية” ينبغي أن تحل محل مجلس قيادة الثورة الذي اندثر منذ أواخر السبعينات. وكان أكثر وضوحا في 2 آذار/ مارس 2000 عندما أكد أنه “ليس هناك أعلى من القيادة الشعبية فهي ترسخ سلطة الشعب وهي المظلة فوق أمانة مؤتمر الشعب العام (البرلمان) واللجنة الشعبية العامة (الحكومة) والأمن، مشيرا إلى أن “المنسق العام يصبح بمثابة رئيس دولة في يوم ما”.
أما مصطلح “القيادات الشعبية” في ليبيا، فظل يعني حتى اليوم وجهاء العشائر والقيادات الاجتماعية المحلية التي يُراد لها أن تلعب دور المجتمع المدني، لكن دائرة قرارها تقتصر على فض الخلافات فقط مثلما يفعل شيوخ القبائل. على أن إعطاءها اليوم دورا سياسيا يُحدث التباسات في طبيعة المنصب الذي يتولاه سيف الإسلام في الدولة. فليبيا تقترب بهذه الخطوة من مفصل أساسي على المسار العام لتجربتها السياسية، يُكرس وجود رأسين على قمة الهرم هما “القائد” الذي منح لنفسه دورا أمميا، والرئيس التنفيذي الذي يُفترض أن يُدير الملفات الداخلية، وهي صيغة غير مسبوقة. فوجود قيادتين وخروج إحداهما من تحت عباءة الأخرى أمر يدعو فعلا إلى التوقف في نظام غير ملكي، ويطرح حزمة من التساؤلات التي من أهمها: هل أن سيف الإسلام صاحب مشروع إصلاحي يرمي لمكافحة الفساد وسن دستور للبلد وتغيير النظام السياسي وإطلاق الحريات؟ وهل سيملك أدوات الحكم لوضع هكذا مشروع موضع التنفيذ، وبتعبير آخر، هل سيتنازل والده عن النفوذ ليفسح المجال أمام إقامة نظام تعددي في ليبيا؟ ثم هل تقبل النخب الليبية بمقايضة تقوم على ابتلاع التوريث لقاء جعلها شريكة في تجربة تقود البلد إلى حكم مدني تعددي يمكن أن يؤدي إلى الديمقراطية؟
اشتغل سيف الإسلام على جبهتين متوازيتين، هما تحسين علاقات ليبيا مع العواصم الغربية ورفع شعار الإصلاح في الداخل. واستطاع في المجال الأول أن يُكرس نفسه المحاور المفضل لدى الدول الغربية الرئيسية، فتوصل من خلال مؤسسة القذافي التي يترأسها إلى تسوية لقضية “لوكربي” التي كانت مبررا لفرض عقوبات دولية على ليبيا استمرت سبع سنوات (1992 – 1999). كما توصل أيضا إلى تسوية مماثلة لقضية الطائرة الفرنسية التي تم تفجيرها في سماء النيجر، ولعب دورا حاسما في إطلاق الممرضات البلغاريات الست اللائي كن مسجونات في ليبيا مع طبيب فلسطيني. كما ساهم في المفاوضات التي أدت إلى إفراج حكومة اسكتلندا المحلية عن عبد الباسط المقرحي الذي كان أدين وقضى سنوات في السجن في حادثة لوكربي، ولعب أيضا دورا في فتح حقول النفط والغاز الليبية أمام الاستثمارات الدولية. وتُوجت تلك الخطوات بتطبيع شامل للعلاقات السياسية والاقتصادية مع العواصم الغربية، بما فيها معاودة فتح السفارة الأميركية في ليبيا التي ظلت مقفلة طيلة أكثر من عشرين عاما.
بهذا المعنى أصبح سيف الإسلام الرجل الذي تثق فيه العواصم الغربية وتعتبر احتمال وصوله إلى موقع الزعامة فرصة لوضع البلد على سكة الإصلاح والتحديث. وتعززت تلك المكانة بفضل الصورة التي ترسخت شيئا فشيئا عن الرجل بوصفه رمز الجناح الإصلاحي في النظام، الذي يخوض صراعا مريرا مع “الحرس القديم”. وتبلور ذلك من خلال مبادرات اتخذها سيف الإسلام ونفذتها الحكومة التي كان يقودها شكري غانم، أحد دعاة الانفتاح قبل عزله واستبداله بالبغدادي المحمودي، وهو من البيروقراطيين المحافظين.
وعلى رغم المواجهة الدائمة بين الإصلاحيين والمحافظين (والتي يحتويها دائما القذافي الأب داخل خيمته)، حقق سيف الإسلام إنجازات ميدانية لا يمكن إنكارها غيرت المشهد السياسي في ليبيا إلى حالٍ ما كان يمكن تخيلها في التسعينات. ففي المجال الإعلامي، أنشأ مجموعة “الغد” الإعلامية التي أطلقت صحيفتي “أويا” و”قورينا” اليوميتين في طرابلس وبنغازي، وهما الإسمان القديمان للمدينتين، واللتين حررتا الرأي العام والنخب من قبضة “الإعلام الجماهيري” الذي يعتبر نسخة سيئة من الإعلام السوفياتي. وأطلقت المجموعة أيضا القناة الفضائية “الليبية” التي تفوقت على القناة الرسمية “الجماهيرية” في استقطاب المشاهدين داخل ليبيا. كذلك أنشأت أول وكالة أنباء خاصة في البلد بشكل سيُنهي سيطرة الوكالة الرسمية الوحيدة، (“الجماهيرية”)، على المشهد الإعلامي منذ أربعة عقود. ولعبت مجموعة “الغد” أيضا دورا أساسيا في عودة الصحف العربية والدولية إلى الأكشاك في ليبيا بعد غياب استمر أكثر من عشرين سنة.
وفي مجال حقوق الإنسان، قامت “مؤسسة القذافي” التي يرأسها سيف الإسلام بمبادرة لمحاولة تسوية ملف السجناء الـ1200 الذين تمت تصفيتهم في مُجمع سجون “أبو سليم” سنة 2006. واستطاعت تأمين دفع تعويضات إلى 598 أسرة، فيما ظلت التعويضات المالية الخاصة بـ569 أسرة أخرى في خزائن المحاكم تمهيداً لتسليمها لمستحقيها. وتزامنت تلك الخطوة مع إزالة مُجمع أبو سليم، وهو ما اعتبره كثير من المحامين والنشطاء الحقوقيين وذوي المغدورين، محاولة لطمس معالم الجريمة والتغطية على الضالعين في المجزرة، الذين ما زالوا يتقلدون مسؤوليات في الدولة. ويُقال إن المستشار بالمحكمة العليا، محمد بشير الخضار، الذي كُلف بالتحقيق في الحادثة، قام بتجميع كل ما توافر من تحقيقات سابقة ومعلومات ذات صلة بالموضوع، وهو يعتزم استدعاء شهود عيان على الحادثة وأولياء أمور المتوفين لسماع شهاداتهم. غير أن الخطوة التي أثارت جدلا أكثر من سواها، هي الحوار الذي فتحه سيف الإسلام منذ سنتين مع التيار الإسلامي الجهادي، ممثلا خاصة بقيادات “الجماعة الإسلامية المقاتلة” المسجونة، وهو الحوار الذي تُوج بإطلاق معتقلي “الجماعة” بعد تعهدهم التخلي عن العنف والعمل المسلح ضد النظام.
محورية الدستور
هذا العمل على جبهتي تحسين أوضاع حقوق الإنسان وتكريس تعددية إعلامية، ينبع من فكرة محورية لدى سيف الإسلام والجناح الذي يقوده، تتمثل في إعادة ليبيا إلى وضع دستوري يقطع مع منطق “الحكم الجماهيري” الذي ساد منذ سنة 1977 إلى اليوم. وظهرت محورية الفكرة الدستورية في رسالة الدكتوراه التي دافع عنها سيف الإسلام، وكان عنوانها “دور المجتمع المدني في دمقرطة مؤسسات الحكم في العالم: من القوة الناعمة إلى صنع القرار الجماعي” (428 صفحة). رسميا، أمضى الطالب القذافي أربع سنوات في البحث لإعداد رسالته في كلية لندن للاقتصاد( London School of Economics). غير أنه كان منشغلا في الواقع بالمفاوضات التي أدت إلى قرار حكومة اسكتلندا المحلية بالإفراج عن عبد الباسط المقرحي. كما لعب سيف الإسلام دورا في فتح حقول النفط والغاز الليبية أمام الاستثمارات الدولية. لكن ليس ذلك هو الأهم، وإنما ما ورد في الأطروحة من أفكار إصلاحية. فهو يدعو في الرسالة إلى مزيد من الديمقراطية في مستوى أنظمة الحكم في العالم. وقدّم للرسالة بقوله “سوف أكون مهتما أولا بما أجادل بأنه الفشل المركزي لنظام الحكم العالمي الحالي في البيئة العالمية الجديدة: أنه غير ديمقراطي بالمرة”.
وعلى هذا الأساس سعى إلى “تحليل المشكلة المتمثلة في كيفية إيجاد مؤسسات عالمية حاكمة أكثر ديمقراطية وعدالة”، إضافة إلى تركيزه على أهمية دور المجتمع المدني. وجادل سيف الإسلام بأن تقديم منظمات غير حكومية لمرشحين إلى البرلمان ينتخبون، سيوجد حكومة عالمية أكثر ديمقراطية وأن هذا سيؤدي إلى نظام حكم أكثر ديمقراطية، معتبرا أن هناك “أسبابا أخلاقية قوية لإصلاح منظمة التجارة العالمية” بسبب ما دعاه تمركز السلطة في أيدي عدد محدود من دول الشمال. واستعان سيف الإسلام القذافي بخبراء ومستشارين من مجموعة أبحاث ودراسات لإجراء استطلاع بين عدد من المنظمات غير الحكومية وجمع معلومات لاستخدامها في رسالته الجامعية. وأظهر الاستطلاع أن 91 في المائة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن هناك “عجزا ديمقراطيا” في مؤسسات الحكم العالمية. وقال 84 في المائة أنهم يعتقدون أن مشاركة المنظمات غير الحكومية ستؤدي إلى صناعة أفضل للقرار. وبناء على هذه النتائج، كتب في رسالة الدكتوراه أن “مواطني الدول غير الديمقراطية يؤكدون على أنهم غير ممثلين في عملية صنع القرار على صعيد المنظومة الحكومية العالمية، حتى إذا كانت حكوماتهم ممثلة ببعض الساسة، وذلك لأن تلك الحكومات استبدادية وقمعية ولا تمثل المصالح الحقيقية لشعوبها”. وأشار إلى الولايات المتحدة باعتبارها “التنين الجديد” مُعتبرا أن سلوك إدارة بوش لا يبطل النظرة الليبرالية القائلة بأننا نستطيع بناء حكم قانوني ومؤسساتي دولي له مغزى استنادا إلى التزامات متبادلة. وخلص إلى القول “اعتقد أن البراهين التي عرضت في الرسالة تشير إلى أن منهج صنع القرار الجماعي لديه إمكانات حقيقية وهو يستحق مزيدا من الدراسة”.
وفي ضوء هذه المنطلقات، قدّم سيف الإسلام تصوراً لمشروعه الإصلاحي في ليبيا، داعياً إلى إعداد دستور يقوم على مبادئ “البيان الأول للثورة”، في إشارة إلى الانقلاب الذي قاد والده إلى الحكم. وهذا يعني أنه سيُجدد النظام من الداخل وبالاعتماد على المرتكزات التي أرساها معمر القذافي ورفاقه من “الضباط الأحرار”، وهي المبادئ التي ظلت حبرا على ورق. غير أنه عزا تعطل تنفيذ تلك المبادئ إلى “حدوث خلل في تطبيق سلطة الشعب، الأمر الذي ترتب عليه هيمنة القبائل الكبيرة على المناصب الحكومية على حساب القبائل والتجمعات الصغيرة، وبالتالي أصبح من الضروري التوصل إلى حل بدستور أو صيغة نتفق عليها”.
وفي هذا الإطار اقترح أن يكون المصرف المركزي مؤسسة مستقلة عن الحكومة، وكذلك الوسائل الإعلامية. ودعا إلى تكريس استقلالية المحكمة العليا من خلال تسمية قضاة معينين مدى الحياة. وأشار إلى ثلاثة موضوعات “تهدد ليبيا وأمنها الوطني”، أولها يتعلق ب”الذين يدّعون الجهاد وبدلاً من أن يقاتلوا في العراق أو في فلسطين، فإنهم يقومون بعمليات تفجير ضد الناس الآمنين”، في إشارة إلى عمليات تقوم بها جماعات ليبية مسلحة يُعتقد أنها مرتبطة بتنظيم «القاعدة». أما الخطر الثاني فمصدره الهجرة غير الشرعية من خلال تدفق مهاجرين أفارقة إلى ليبيا في طريقهم إلى أوروبا، ما يشكل مصدر تهديد أمني واجتماعي، فيما يتمثل الخطر الثالث، برأيه بـ”التآمر مع أطراف خارجية، سواء خلف الحدود أو خلف البحر ضد الوحدة الوطنية لليبيين”، وهو يقصد بذلك شخصيات المعارضة الإسلامية والليبرالية اللاجئة في أوروبا وأميركا، والتي ترفض التطبيع مع نظام والده.
أربعة خطوط حمر
وحدد سيف الإسلام “أربعة خطوط حمر” لا يمكن تجاوزها في أي عملية تطوير لتطبيق نظرية “الديموقراطية المباشرة وسلطة الشعب” التي ينبني عليها النظام السياسي في ليبيا، وهي تطبيق الشريعة الإسلامية، وأمن ليبيا واستقرارها، ووحدة البلد، ومعمر القذافي نفسه. وشرح ذلك في كلمة ألقاها في تجمع ضم آلاف المؤيدين في بنغازي (شرق ليبيا) في 21 آب/ أغسطس 2007، قائلا “إن البيان الأول للثورة هو “أهم وثيقة في أي عمل دستوري يوضع في ليبيا”. وعلى رغم تأكيده في تلك الكلمة أن “ليبيا لن تتجه إلى نظام وراثي ولن ترجع إلى الملكية ولا نريدها أن تعود ديكتاتورية، فهذا موضوع انتهى. ونقول الآن على الهواء مباشرة وليسمع العالم، وقد سبق أن قلنا ذلك: إننا متجهون إلى الأمام لترسيخ نظامنا الديمقراطي الحالي وسنطبقه ونرسخه في شكل أفضل وفي شكل أكثر فاعلية”. إلا أن التوريث تكرس بعد عامين فقط من ذلك النفي العلني.
أكثر من ذلك، ألغى القذافي الأب بجرة قلم كل الجدل الذي حرك الطاقات في ليبيا طيلة نحو سنتين على أمل وضع دستور للبلد. وبعدما أكد سيف الإسلام في صيف 2007 أن “التحدي القادم هو تحدي وضع حزمة من القوانين سواء سميت دستوراً أو مرجعية”، مشدداً على أن الشعب هو الذي يطورها ويضع تفاصيلها، و”عندما يقرها جميع الشعب الليبي في صيغتها النهائية تصبح هي العقد الاجتماعي الخاص بالشعب ونلتزم به جميعاً”، طُوي الموضوع برمته في خطوة تم تفسيرها على أنها “فيتو” من الحرس القديم الممثل بـ”اللجان الثورية”، وهي الحزب الحاكم الذي يشكل الذراع السياسية لنظام العقيد القذافي.
مع ذلك، ظل سيف الإسلام متمسكا بالخيار الإصلاحي إذ أكد في حديث صحفي في شباط / فبراير 2009 أنه “لا توجد قوة في ليبيا أو خارجها تقدر على الوقوف أمام الإصلاحات…لأن هذه رغبة الليبيين ورغبة الشعب الليبي وهذه إرادته، وأي شخص يقاوم الشعب الليبي سيتم سحقه وهزيمته، وأي واحد يقوم بإجراءات عرقلة كما صار أمس عندما سمعنا أن النائب العام الليبي قام بإجراءات اعتقال…هذا عمل مرفوض وغير مقبول وسخيف. لكن نهايتهم معروفة، لأن عصر إهانة الليبيين وقمع الأفواه والتخويف والقفز فوق القوانين، كل هذا انتهى ولا مجال للرجوع للوراء. دائماً هناك أفراد فاسدون وشريرون وهؤلاء تجدهم في كل دول العالم.. ونحن نعيش في الأرض وهؤلاء موجودون في ليبيا كما في غيرها.”
وذهب إلى حد القول إن هؤلاء الفاسدين موجودون داخل الدولة الليبية ويحتلون مناصب رسمية، مستدلا بما حدث لمساعده المحامي والأكاديمي جمعة عتيقة الذي ما أن عاد من المنفى حتى “تم تلفيق تهمة له من أجل إسكاته” كما قال سيف الإسلام نفسه (أخلي سبيله لاحقا).
وأثبتت سهولة إحباط فكرة وضع دستور لليبيا هشاشة الجناح الإصلاحي الذي يتزعمه سيف الإسلام، إلى درجة أن الأخير أعلن بعد تلك الانتكاسة أنه سيغادر ليبيا للإقامة في سويسرا ويعتزل السياسة من أجل التفرغ لإنشاء مركز دراسات خاص به. كما أن بسط السلطات الليبية كفها لبعض المعارضين الذين أبدوا استعدادهم للجنوح إلى “الاعتدال”، تزامن مع تشديد القبضة الأمنية والقضائية على معارضين آخرين وصفتهم بـ”المتشددين”. وفي هذا السياق أصدرت أحكاما قاسية على عناصر اتهمت بالمس بأمن الدولة لمجرد محاولتها التظاهر في ساحة الشهداء بالعاصمة طرابلس للتعبير عن آرائها والمطالبة بحقوقها السياسية والمدنية. وألغت أيضا ترخيصا كانت منحته لجمعية العدالة لحقوق الإنسان، وهي جمعية أهلية تحت التأسيس، كانت عقدت اجتماعها التأسيسي يوم 25 شباط /فبراير 2009، وتشكلت اللجنة التحضيرية من شخصيات مدنية بينها محامون وإعلاميون وأكاديميون. وطبقا لصحيفة “ليبيا اليوم” ،عللت إدارة الجمعيات والنشاط الأهلي باللجنة الشعبية العامة (وزارة) للشؤون الاجتماعية إلغاء قرار إشهار جمعية العدالة لحقوق الإنسان بعد عشرة أيام من إجازتها، بعدم مطابقة النظام الأساسي للقوانين النافذة، إضافة إلى سبب آخر أغرب منه هو عدم انتظار صدور قرار اللجنة الشعبية العامة (الحكومة) بالإذن بمزاولة النشاط، مع أن الجهة نفسها وافقت على إشهار الجمعية من دون تحفظ على النظام الأساسي أو إبداء أية ملاحظات أخرى. وهذا ما حمل منظمات المعارضة والجمعيات الحقوقية الليبية في الخارج على تجديد مطالبتها بإلغاء “كافة القوانين المكبلة للحريات والمنتهكة لحقوق الإنسان”، وحل نيابة ومحكمة امن الدولة، والإفراج عن كافة سجناء الرأي والفكر والمعارضين السياسيين القابعين في السجون والمعتقلات.
وشكل انتقال سيف الإسلام إلى ملفات الداخل بعد أن أغلق الملفات الشائكة في الخارج أكبر تحد له، ولا سيما بلورة شروط المصالحة الوطنية بعدما دعم بيان لقادة الإخوان المسلمين في داخل ليبيا وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة وعلماء ومشايخ ليبيين المشروع الإصلاحي الذي يقوده لبناء دولة القانون والمؤسسات، وطالبوا بتضافر الجهود الوطنية لتمكينه من تحقيقه. لكن كثيرا من الشخصيات المعارضة التي صدقت تصريحات سيف الإسلام وعادت إلى بلدها وجدت نفسها في السجن، أو تعرضت لمضايقات شديدة منعتها من متابعة نشاطها خوفا من البطش بها. وهذا يدل على أن مشروع سيف الإسلام ينحصر في تجديد الخطاب السياسي وتحسين الواجهة بالاعتماد على الإمبراطورية الإعلامية التي أنشأها، ومؤسسة القذافي للأعمال الخيرية، مع الإبقاء على الجوهر الاستبدادي للنظام. ويرتدي الاستبداد في ليبيا طابعا خصوصيا مرتبطا بالبنية القبلية للمجتمع. ويشير الباحثون المتخصصون في تحليل أفكار معمر القذافي إلى أنه متأثر بآراء الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي قرأ أفكاره مُعربة منذ وقت مبكر، وخاصة فكرته عن سلطة الشعب التي هي الحكم الطبيعي، أي الأقرب إلى الطبيعة. وصادف هذا التفكير تجاوبا لدى القذافي وأقرانه المنحدرين من أسر بدوية، فالعناصر البدوية في الثورة أبعدت الحضر وتخلصت منهم سريعا، مثلما يقول خبير الشؤون الليبية توفيق المنستيري، “لأن البدوي لا يفهم ما معنى الحدود أو القانون الوضعي…وهو يتهرب عادة من المدينة، ولا يثق إلا في بدوي مثله”. ويتابع “تم البناء حجرا حجرا، وكان القذافي هو المنظر طيلة المرحلة الأولى، قبل أن يأتي المنظرون الحاليون أمثال رجب بودبوس ومهدي امبيرش”. ويُعرف المنستيري النظام الليبي بكونه نظاما بدويقراطيا إن صحت الترجمة من Bédouinocratie، فهو ليس نظاما ثيوقراطيا أو أوتوقراطيا، أو أي نموذج من النماذج المعروفة في العلم السياسي الكلاسيكي، إذ ظلت الدولة غائبة ( le non état)، فلا رئيس وإنما هناك قائد، ولا أحزاب وإنما لجان شعبية تُسير الإدارة ولجان ثورية هي الثورة، ثم شكلوا بعد ذلك “لجان المراقبة”.
واعتمادا على هذه الأدوات، ظل الحكم في ليبيا يقوم إلى اليوم على ثلاثة أعمدة تُوزع الأدوار بينها على النحو الآتي:
الإدارة، التي كانت بأيدي اللجان الشعبية وهي لا تعين ولا تُنتخب وإنما تُختار بواسطة “التصعيد”، وهي التي تُصعد في دورها اللجنة الشعبية العامة أي الحكومة وهو مصطلح مرفوض لديهم، وتختار أمينها أي رئيس الوزراء، ويشمل هذا الركن البلديات أيضا، إذ لا وجود لرئيس بلدية. وعلى رأس هذا الهرم يوجد “مؤتمر الشعب العام” الذي كان يترأسه في أحيان كثيرة القذافي نفسه حتى عقد الثمانينات، ثم صار آخرون يتولون المنصب.
اللجان الثورية التي لا يعرف أحد كيف يتم “تصعيدها” ولا كيف يُنتقى أعضاؤها، وهي تحكم لكنها لا تُسير الدواليب بالمعنى الإداري، ولا تتفق أحيانا مع “اللجان الشعبية” وحتى مع “القائد” فتضطره إلى التراجع عن بعض أفكاره.
لجان المراقبة التي تشكلت في الفترة الأخيرة بسبب عدم التفاهم بين اللجان الشعبية والثورية، وهي أيضا جهاز لا يعرف أحد تجاويفه الغامضة.
بهذا المعنى، فالحكم يرجع في الواقع إلى “القائد” والجيش والقبائل، وهي قبائل مسلحة. وبدأ رفاق سلاح القذافي يبتعدون عنه تدريجا على مدى العقود الأربعة الماضية ويهربون، وأبرزهم عبد السلام جلود الذي احتمى بقبيلته في نهاية المطاف، مثلما أن القذافي محمي من قبيلته هو الآخر. وطالما أن “القائد” قابض على المقود ولا يقبل أن يُقاسمه أحد الحكم، وما دام يعتقد دائما أن “من تحزب خان”، وأن المنظمات الأهلية المستقلة مخابئ للجواسيس على نظامه، سيكون من الصعب أن تتوافر في الأمد المنظور الشروط اللازمة لتنفيذ المشروع الإصلاحي الذي تبناه سيف الإسلام، خصوصا أن الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لا يعتقدان أن انتقال ليبيا إلى الديمقراطية أمر يستأهل أن يحظى بالأولوية في علاقاتهما مع هذا البلد، أقله في هذه المرحلة، على نحو قد يشوش على السباق الجاري للفوز بالمزيد من العقود النفطية والصفقات التجارية.
•كاتب صحفي من تونس