ست سنوات تفصل بين كتاب “لندنستان” (2007) لميلاني فيلبس، ورواية “جني لندنستان” (2013) لجاك بولدن. كلاهما بريطاني. الأولى كاتبة وصحافية، والثاني شاعر وروائي. ويمكن لقارئ العناوين تخمين المضمون، وكذلك التحيّزات السياسية والأيديولوجية للكاتبين. ويمكن، بالقدر نفسه، تنصيف الكتابين في خانة الإسلاموفوبيا، الشائعة هذه الأيام، التي يستخدمها كثيرون بحماسة لا تدانيها سوى حماسة مصنّفي كل نقد لإسرائيل، الدولة، والسياسة، والمجتمع، في خانة العداء للسامية.
في الكتاب الأوّل، تحاول فيلبس تحليل، والبحث عن، أسباب تحوّل بريطانيا إلى عاصمة للإسلام السياسي، في الغرب، ولفت الأنظار إلى حقيقة أن لأبرز ممثليه من فصيلة أبو حمزة المصري، وأبو قتادة، وعمر بكري، ارتباطات بجماعات إرهابية، كما أن بعضهم لم يتورّع عن الدعوة، علانية، لفرض الشريعة في بريطانيا، وذهب البعض إلى انتظار يوم تُرفع فيه راية الإسلام على قصر باكينغهام.
كانت الهجمات الإرهابية، التي ضربت لندن في العام 2005، وأودت بحياة خمسين شخصاً، وجرحت مئات غيرهم، دافِعَها الرئيس لطرح أسئلة، والبحث عن إجابات لا يتسع المجال، هنا، للاستفاضة في الكلام عنها، بل يكفي القول إن مرافعتها الرئيسة تضع الليبرالية الغربية، وسياسات وقوانين حقوق الإنسان، والتعددية الثقافية، في موضع الاتهام، باعتبارها الثغرة، التي تسلل منها متطرفون وإرهابيون، يهدد وجودهم الدولة والمجتمع البريطانيين.
هذه المرافعة ليست جديدة، بل هي بضاعة مألوفة وتقليدية في ترسانة اليمين الأوروبي الأيديولوجية والسياسية: في جانب منها عداء للهجرة والمهاجرين مصدره العداء للآخر والمُختلف، وفي جانب آخر صراع بين تيارات مختلفة داخل المجتمعات الأوروبية نفسها حول هوية الدولة والمجتمع، وتمثل، مع هذا وذاك، خلافاً في تفسير الميراث الكولونيالي، وطريقة التعامل معه، ناهيك عن عقدة المركزية الأوروبية، وجراحها النرجسية، بطبيعة الحال.
لتحويل الليبرالية الغربية إلى كيس للملاكمة، في المرافعات الثقافية، والمناكفات الأكاديمية، قيمة تسويقية عالية، ويمكن توظيفها في قول الشيء ونقيضه. فيلبس صاحبة “لندنستان”، وجوزيف مسعد صاحب “الإسلام في اللبرالية“، مثلاً، يضعانها في قفص الاتهام، ولكن لأسباب مختلفة تماماً، فالأولى ترى فيها ما يشبه انتحاراً ثقافياً، من جانب الغرب، لصالح الإسلام، بينما يرى فيها الثاني، على طريقة من يُخرج الأرنب من القبعة، الدليل الحي على كراهية الغرب للإسلام، ويلوم الليبراليين العرب، لأنهم لم يكتشفوا السم في العسل.
مهما يكن من أمر، وعلى الرغم من تفوّق الأدب على النظرية في الانتقال من التجريد إلى التجسيد، إلا أن الكائنات والكيانات الأدبية تصلح، دائماً، كوسائل إيضاح لأفكار نظرية مجرّدة. وإذا شئت، فإن كل ما لا يُجرّد لا يُعوّل عليه.
ولعل في هذا ما يعيدنا إلى “جني لندنستان”، التي يمكن الكلام عنها باعتبارها تكسو مرافعات فيلبس النظرية باللحم، وتندرج في إطار جنس أدبي يحفل بعلامات بارزة من نوع “1984” لأورويل، و”ظلام في الظهيرة” لكويستلر، مع التذكير بحقيقة أن الانتماء إلى سلالة ما لا يكفي لرفع هذا العمل أو ذاك إلى مرتبة العلامة.
يعالج بولدن، في الرواية المذكورة، حياة ومصير عائلة بريطانية من الطبقة الوسطى، تعيش في لندن، أواسط القرن الحالي، على خلفية عالم يعاني من الاحتباس الحراري، وعاصمة إمبراطورية عريقة (لندن) يهيمن فيها الإسلاميون على أحياء واسعة، تُسمى مناطق الخلافة، يخشى البيض البريطانيون دخولها، ويجوب شوارعها مطاوعة (على الطريقة السعودية) لفرض آداب السلوك على النساء، بما فيها الحجاب، ويُطارد فيها بائعو الكحول، والموسيقى، والأفلام.
أما الحبكة الروائية فتتمحور حول بنت في الثامنة أصيبت في إطلاق نار من جانب المطاوعة، وموسيقي قُتل في هجوم لهم على حفل موسيقي. ويحدث أن طبيباً يعتمد تقنيات علمية حديثة يحاول وضع دماغ القتيل في جسد البنت إلى حين الانتهاء من إصلاح دماغها في جهاز خاص. وما لم يكن في الحسبان، أن الكائن الجديد، الذي يتكوّن من دماغ رجل بالغ، وجسد بنت في الثامنة، يهرب من المستشفى، ويتحوّل إلى نجم في حفلات الموسيقى السريةّ، يطارده المطاوعة، وتلاحقه فتوى بالقتل، وينتهي الأمر بإعادة دماغ الطفلة إلى صاحبته، وفرارها مع أبويها، وشقيقتها خارج بريطانيا.
ولنلاحظ، دون الدخول في تفاصيل ما يشبه مرثية لعاصمة إمبراطورية، أمرين يختزلان الاستراتيجية الخطابية للنص: أولاً، مركزية اللغة، وثانياً، مركزية الذاكرة. وكلاهما يمثل مفتاحاً للنص، ووسيلة إيضاح لما ذكرناه حول قدرة الأدب على الانتقال من التجريد إلى التجسيد.
في لندن، أواسط القرن، يمارس الناس رقابة ذاتية، فعمليات إطلاق النار من جانب الجهاديين، والمطاوعة (الكلمة نفسها في النص الإنكليزي) على المارّة، وكذلك أعمال التحرّش والاغتصاب، والرجم في الميادين العامة، تكتسب دلالات لغوية يحرص المتكلمون على توظيفها، فهي تندرج في باب التعبير عن الإيمان، أو الإفراط في التقوى. وقد تغيّرت أسماء الشوارع، والميادين العامة، والمستشفيات، ومحطات القطار، والمعالم التاريخية، واكتسبت تسميات جديدة من نوع ميدان أبو الأعلى المودودي، أو مستشفى سيد قطب. ولا يكاد فصل من فصول الرواية يخلو من جولة مشياً على الأقدام في لندن، للتذكير بما أصبح أثراً بعد عين.
“بدأ الكابوس” هو العنوان الفرعي الذي اختاره بولدن لروايته. ولعل أسوأ ما في الكابوس الداعشي، على اختلاف تسمياته، وراياته، وقضاياه، وضحاياه، أن تجلياته على الأرض، تسبق الفنتازيا في الأدب. وطالما كان الأمر كذلك، لماذا نلوم امرأة، أو رجلاً، في بريطانيا، إذا ما أصابهما الذعر من احتمال العيش في مكان اسمه لندنستان، قد يهبط، ذات يوم، من بلاغة المجاز، إلى جحيم الكابوس.
khaderhas1@hotmail.com