أنقرة- ” الشفاف” خزامى عصمت
يكثر الحديث منذ ستة أعوام عن الدور التركي المتنامي في المنطقة الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى أسوار فيينا غرباً. والحقبة التي تنسب إليها ولادة الدور التركي الإقليمي تعود إلى عام 2002- أي مع صعود حزب العدالة والتنمية بزعامة الثنائي عبد الله غول ورجب طيب آردوغان سلم القيادة لدفة السفينة التركية.
الصديقان من جيل الشباب في التيار الإسلامي، وهما من تلاميذ المدرسة السياسية الإسلامية تتلمذا على يد الزعيم الروحي للحركة السياسية الإسلامية نجم الدين أربكان. وعندما فاز حزبهما، “العدالة والتنمية”، في إنتخابات 2002، كانت التوقعات لهما تبشر بالفشل الذريع والإطاحة بحزبهما من الأيام الأولى لأنه إسلامي الجذور في دولة أتاتورك العلمانية. وعند فوز الحزب بمنصب رئاسة الحكومة، كان زعيمه آردوغان يقضي مدة محكوميته القضائية بسبب تلاوته أبيات من الشعر تحتوي على رموز جهادية وطنية وقومية إعتبرها مدعي النيابة الجمهوري آنذاك دعوة للجهاد والإنقلاب على الجمهورية العلمانية الأتاتوركية.
توالت الإتهامات للعدالة والتنمية وتكررت مطالبات العلمانيين بإعتراف صريح من آردوغان بأنه تراجع عن مقولاته السابقة المعادية للعلمانية. ورغم تكرار الرجل تأكيده على أن الناخب التركي إنتخبه لنزاهته وإحترامه للدين- إلا أنه لم يتمكن من إقناع النخبة التقليدية بأن المتدين النزيه أفضل من العلماني الفاسد.
إعداد العدة لتوثيق أركان الحكم
صب الثنائي المحافظ جام إهتمامه على ملفات الإصلاح الإقتصادي، والعلاقة مع الغرب، وتطوير النظام التجاري، والإنتاج. وكان الهدف من سعيهما هو بناء منظومة متكاملة من الإنتاج والصناعة والتصدير تضمن لتركيا إستقلالية إقتصادية تمكنها من الإكتفاء الذاتي ولو بشكل نسبي لتكون القوة الإقتصادية النامية في أوروبا. وبالتالي تمكنها هذه القوة الإقتصادية من الإنفتاح على محيط تركيا الشرق أوسطي لتكون فيه صاحبة رأي محترم.
نجح الثنائي في توطيد العلاقة مع الغرب. لم يضيع آردوغان ساعة من وقته إلا وأمضاها على متن الطائرة متنقلا ً بين العواصم الأوروبية والغربية، حيث أجرى 36 زيارة للعواصم الغربية حتى قبل توليه أي منصب رسمي في رئاسة الوزراء. وكان يجول العالم الغربي بصفته الحزبية فقط- بعد تمكنه من إقناع الغرب بقدرات فريقه على تغيير وجه التاريخ الحديث لتركيا. وعاد ليكسب ود مراكز القوى التقليدية داخلياً، وأعطى المؤسسة العسكرية صورة واضحة ومفصلة عن خارطة الطريق التي ينوي هو وصديقه غول السير فيها. ولم يكتف برسم الخارطة- بل حدد الأهداف والنتائج التي لخصها بإعادة تركيا من جديد إلى موقعها الطبيعي الذي غابت عنه أكثر من تسعة عقود من عمر الجمهورية.
مراكز القوى التقليدية لم تجد بداً من إعطاء الرجل فرصة كونه منتخب ديمقراطياً ويمتلك شعبية واسعة لم يسبقه إليها زعيم سوى رئيس الوزراء الأسبق مندريس في خمسينيات القرن الماضي.
وبمساعدة نجاحاته القديمة التي حققها خلال رئاسته بلدية إسطنبول، توالت نجاحاته الجديدة في منصبه الجديد من خلال برامجه الإصلاحية والتنموية التي حظيت بدعم وتأييد رأس المال الإسلامي الذي أنبت طبقة جديدة من التجار والصناعيين المحافظين الذين تميزوا بالقناعة والإكتفاء بالقليل من المرابح والكثير من الجودة والإتقان بخاصة في مشاريع التنمية وبناء القاعدة الإنتاجية للبلاد، محققاً بذلك المزيد من الإعجاب الجماهيري بإنجازاته التي إنعكست بسرعة على سمعة تركيا إقليمياً وعالمياً. فتحول الإقتصاد التركي إلى المرتبة السابعة من بين أكبر إقتصاديات القارة الأوروبية وأصبحت السوق التركية مركز جذب للإستثمارات الأجنبية وقبلة السياح الوافدين من أوروبا والغرب، وتنامت المشاريع الإستراتيجية في مجالات خطوط إمداد الطاقة والغاز لتكون الخارطة التركية خلال ستة أعوام من حكم الثنائي المحافظ أشبه ببيت العنكبوت المصنوع من أنابيب النفط والغاز في جميع الإتجاهات.
التوجه إلى المحيط القريب ومد الأيادي البيضاء لأعداء الأمس
رسم الثنائي غول- آردوغان سياسة جديدة تعتمد على التصالح مع الذات وثم التصالح مع الجيران. واعتمدا أفكار البروفيسور “أحمد داؤود أوغلو”، كبير مستشاري آردوغان والمبعوث الخاص، وهو صاحب نظرية حل الخلافات وتحويلها إلى صداقات- فهو القائل “يمكنك بالتفاوض تحويل عدوك التقليدي إلى صديق”.
الأقدار كانت ساعدت تركيا قبل ولاية آردوغان- غول. فالإتحاد السوفياتي كان قد أنهى مخاض الإنهيار، وحلف الناتو كان قد رفع عن تركيا فريضة الدفاع عن حدوده ضد المد السوفياتي. الولايات المتحدة كانت قد أنهت دورة الإنقسام الميتوزي للزعيم الإنفصالي عبد الله أوجلان، وسوريا كانت قد وقعت مع أنقرة إتفاق أضنة الأمني الذي أنهى مشاكل شائكة معها في ملفات تقاسم مياه الفرات ومشكلة لواء إسكندرون وأزمة الأكراد.
فكانت الأرضية السورية جاهزة لبناء الممر السهل لتركيا آردوغان إلى محيطه الطبيعي في العالم العربي. فبعدما كانت تركيا الدولة التي تتعرض في كل بيان ختامي لقمة عربية للتنديد بسبب مياه دجلة والفرات، باتت الدولة المشاركة بصفة ضيف مراقب في قمم العرب. وتوالت الفتوحات التركية عبر سوريا ومن فوق أسطحها لتصل إلى عموم الدول العربية عبر الشركات التركية وكبار المصدرين والتجار الأتراك الذين ينتمون إلى الطبقة المحافظة التي تجيد لغة المنطقة وأسلوب تعاملها.
هذا الإنفتاح على المحيط الجغرافي رافقه إنفتاح آخر على المستوى الثقافي والعلاقات السياسية. فكانت تركيا دائماً صاحبة المواقف المتوازنة والمرضية للجميع. فهي لم تشارك في اغتيال العراق- لكنها سمحت للقوات الأميركية باستخدام مجالها الجوي في العمليات اللوجستية. ولم تتردد في ممانعة إنفصال الشمال عن العراق، لكنها كانت الأكثر سخاء في بناء البنية التحتية والقاعدة التجارية لإقليم كردستان العراق. ولم تحارب إلى جانب اللبنانيين ضد إسرائيل- لكنها كانت وراء التسوية التي أنهت أزمات لبنان الرئاسية في الدوحة. وهي، مؤخراًً، لم تحارب إلى جانب غزة ضد جرائم إسرائيل، إلا أنها كانت وراء إقناع حماس بالموافقة على وقف إطلاق النار الإسرائيلي من جانب واحد. وهي الدولة العضو في حلف “الناتو” الوحيدة التي تربطها علاقات متميزة مع إيران بملفها النووي- الذي يصر زعماؤها على مسح إسرائيل من الخارطة. وتتمتع تركيا بمستوى رفيع من الإحترام والتقدير في الدوائر الرئاسية والسياسية والعسكرية في كل من باكستان والهند وأفغانستان حيث تمكنت من جمع المتخاصمين من إسلام آباد ونيودلهي وكابول أكثر من مرة في أنقرة وإسطنبول. وأدارت أعتى الأزمات في الحرب الجورجية وتخلصت من تبعات الدعم التقليدي لقضية الشيشان وناغورنو- كاراباخ. وأدخلت روسيا مع وريثاتها من الجمهوريات الإسلامية والبلقانية في تشكيلة جديدة لمنظومة التعاون بين دول البلقان تارة ً ودول حوض البحر الأسود تارة ً أخرى. وفي تعاونات ومسميات منوعة لمظلات أشبه بالتحالفات، تربط روسيا بإيران بأذربيجان مع جورجيا وتركمانستان بطريقة ذكية- ربما تكون في بعض الأحيان مبنية على أساس التعاون في بناء خط أنابيب لنقل الغاز أو قد تكون للتعاون والتنسيق في صيد الأسماك في بحر تتشاطأ عليه مجموعة من الدول، وأحياناً تكون هادفة لحل نزاع تاريخي عبر مشاركة الرئيس التركي مع نظيره الأرمني مشاهدة مباراة بكرة القدم بين الفريقين التركي والأرميني.
إنطلاق تركيا بمحيطها الشرق الأوسطي نحو الإتحاد الأوروبي
حان وقت الحصاد وجني ثمار الأعوام الستة من ولاية الثنائي آردوغان- غول. الحصاد المنتظر من المواقف التركية والنجاحات التي حققتها تركيا من عودتها إلى محيطها الطبيعي المدعومة بالإقتصاد والديبلوماسية والمواقف السياسية حيال قضايا العالمين العربي والإسلامي والغربي والبلقاني والآسيوي.
والهدف المرجو في المرحلة الحالية من موسم الحصاد هو إقناع العواصم الأوروبية في الإتحاد الأوروبي بأهمية الدور التركي وتأثيره في قضايا العالمين العربي والإسلامي وإبراز تركيا كدولة صاحبة تأثير ونفوذ في محيطها الإسلامي والعربي وإقناع أوروبا بأن إنضمام تركيا المتصالحة مع محيطها لعضوية الإتحاد سيكون كسباً للإتحاد وسيساعد الإتحاد على إستعادة تأثيره في العالمين العربي والإسلامي وفي حدوده الجديدة مع سوريا وإيران وآسيا الوسطى والبلقان. بحيث يؤكد الأتراك على هزالة التأثير الأوروبي في ملفات محورية مثل القضية الفلسطينية، العراق، أفغانستان، الهند وباكستان، جورجيا وروسيا، إسرائل وسوريا، أميركا وإيران، سوريا ولبنان، تقاسم ثروات بحر قزوين بين دول الشاطيء، قضايا القارة الأفريقية والخلافات هناك.
ويعزو الأتراك في حديثهم هزالة وتراجع الدور الأوروبي في هذه الملفات إلى سيطرة واشنطن عليها جميعاً ومساعيها لإستبعاد الأوروبيين من دائرة التأثير فيها خلال ولايتي الرئيس جورج بوش. ويركز الحديث التركي على النجاح الذي حققته تركيا في إختراق جميع هذه الملفات وتمكنها من لعب أدوار موازية حيناً ومتقدمة أحياناًً على الدور الأميركي والأوروبي. والآن يسعى الثنائي آردوغان- غول لتقديم أنفسهم مسلحين بهذه الإمكانات والإمتيازات للقادة الأوروبيين مع عرض إقتراح لاغتنام فرصة تولي باراك أوباما الإدارة الجديدة في البيت الأبيض لتكون تركيا الدولة العضو في الإتحاد الأوروبي على عجل، ولمنح الإتحاد الأوروبي فرصة تاريخية لتحسين وضعه وإستعادته الدور المنزوع منه في العالمين العربي والإسلامي والبلقاني والآسيوي عبر العضو الجديد- تركيا.
فآردوغان يخاطب الأوروبيين في بروكسل اليوم ليس بلهجة علمانية، بل يريد أن يقول لهم إن جذوره الإسلامية هي التي تحتاجها أوروبا. ولا يسعى لإظهار قشوره العلمانية ولن يتردد في الإستشهاد على بعض الأحداث بأحاديث للرسول ليخلق لدى الأوروبيين حالة من الشعور بعجزهم ونقصهم في معرفة أساليب مخاطبة الأطراف الأخرى من النزاعات، وهي جميعاً من المسلمين في إيران ولبنان وفلسطين وأفغانستان وباكستان…
وليؤكد حاجة الإتحاد الأوروبي إلى تركيا التي أجادت بحكومتها أسلوب مخاطبة وإقناع الطرف الرئيس في جميع الصراعات الدائرة بين العالمين الإسلامي والمسيحي.
khouzama1@gmail.com
لعبة الأقدار أم لعبة الأدوار في محيط تركيا الغدار
تحليل رائع وجرد للأحداث في سياقها يجعل القاري يفهم الدور التركي في الأحداث…