التشريح السريري للعلاقة بين البلدين (لأنظمة الحكم فقط) من كافة الزوايا تظهر بشكل واضح للجميع بأن هناك حالة مرضية مؤكدة وقد تكون مستعصية الحل، ليس لان المرض لم يجد له العلم السياسي الحالي علاجا، بل لان المعالجين استسلموا للمرض من واقع الحال، أمام الشعور(بنشوة الانتصار لكافة الفرقاء). وقد يكون ذلك من زيادة الاهتمام بالمسألة اللبنانية الراهنة من جميع دول العالم تقريبا. حتى بات الأمر يثير التساؤل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، غدا الظهور الإعلامي لأي مسؤول من أي فريق كان، للبوح بمكنوناته من أفكار متنوعة، مطلباً عند الجميع، للتصريح عن الأزمة الحرجة التي وصلتها تلك الحالة، حتى بات (من باب الحصر فقط) لوئام وهاب (مثلاً) منبر إعلام منتظر، وكأنه يقرر منه سياسة البلد المستقبلية، ووجهة نظر لا يزاحمه عليها احد، وقذائف من الشتائم والسباب في كل الاتجاهات (لخصومه) دون استثناء، تصيب من الدمار النفسي والأخلاقي مكاناً في النفوس أكبر بكثير من كونها حقيقية أو زائفة، وهو عملياً على أرض الواقع لا يمثل إلا نفسه!
ومجاراة لما يحدث، جاء رفض الاعتراف بحقائق التاريخ وما فيه من خفايا، وأيضا معضلات الجغرافيا ومن وضعها قبل قرن من زمن. فسيرورة التكون والتطور الاجتماعيين، في كلا النظامين السوري واللبناني أمر مثبت، لكن المسؤوليات المترتبة على نتائج هذا الرفض، لم تكن واحدة، وهي غير متساوية، وتتوزع نسبها حسب المواقع التي انطلق منها كل نظام في بناء علاقاته مع النظام الأخر.
شئنا أم أبينا، لابد وان يبقى لبنان وما يحدث فيه، الشغل الشاغل للجميع في سوريا دون استثناء. الشعب بكل مكوناته، والسلطة بكل تفرعاتها، والمعارضة الوطنية بكل أطيافها. ولا نستطيع أن ننكر بأن الزلزال الكبير الذي ضرب لبنان باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، لاقى صداه بهزات ارتدادية كثيرة وعنيفة في كل مفاصل الحياة السورية، وفي أكثر الأماكن أهمية. حيث التداخل المجتمعي السكاني أمر واقع، بحكم علاقات غابرة في الزمن، تلونت بألوان متعددة، فرحة حيناً، وكالحة بالسواد أحياناً كثيرة، وعلاقات اقتصادية متشابكة بحكم الموقع الجغرافي، تدفع ضريبتها في أغلب الأوقات المراكز الحدودية، وما ينتقل عبرها من مواطنين لكلا البلدين، غالبيتهم العظمى للأسف من العمال السوريين، الذين ضاقت بهم سيل العمل في بلدهم، وفوق ذلك مجبرون على ابتلاع مرارة الاهانات المتكررة دائماً من أجل تأمين حياة أفضل لأسرهم، وأسطول طويل من شاحنات النقل البري، والترانزيت الدولي، لوقت قد يستمر أياما عديدة في أكثر الحالات، كعقاب جماعي لذنب لم يقترفوه، حتى أصبحت الحالة كمثال (فشة خلق) تنفذ على كل المعابر الحدودية. وكأن قدر لبنان منذ منتصف القرن الماضي أن يكون (صمام أمان والصاعق المتفجر في آن معاً) في كل الأزمات التي تضرب المنطقة، من مشاريع حلف بغداد في خمسينات القرن الماضي، حتى مشروع (ولادة الشرق الأوسط الجديد) وما فيه من (الفوضى الخلاقة) في الوقت الراهن، والتي استتبعت موجات مضادة إقليمياً بهدف مناهضتها والوقوف في وجهها بصلف يثير الفضول، إن كان من ناحية تركيبه، أو من ناحية التصريحات الهوجاء التي تثير الغبار أكثر مما تجد طريقاً للحل. وهذا الأمر ينسحب على (دول المواجهة) بالتحديد، أو التحالفات الشكلية الدائرة في فلكها، في وقت يتلمس الجميع دون استثناء طريق الخلاص الفردي، من هذه العاصفة الهوجاء، فكثرة المشاريع وتنوعها افقد الجميع البوصلة والاتجاه الصحيح.
والمعارضة الوطنية السورية كأمر واقع لاقت نصيبها من كل ما جرى. وقد تكون السنوات الثلاث الأخيرة من أصعب ما مرت به مكونات هذه المعارضة بكل تلاوينها – القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية – وما يتقاطع بينها من لجان إحياء وتفرعات المجتمع المدني، والجمعيات الحقوقية، ومنظمات حقوق الإنسان بكل مسمياتها. وانسحبت إشكالية تداعي العلاقات السورية اللبنانية عليها بشكل أو بآخر…
وإذا وقفنا في إحدى أهم تلك المحطات، التي كانت في التوافق المشترك للمهتمين بالشأن العام في سوريا ولبنان وتمثل ذلك بالتوقيع على وثيقة إعلان بيروت – دمشق، التي تناولت تصويب العلاقات لمصلحة ثنائية بين البلدين ولتخفيف الاحتقان الحاصل من جراء نتائج عملية الاغتيال الفظيعة تلك، فكانت النتيجة المرجوة من قبل السلطة في سوريا هي تماماً عكس ما كتب، وتداعت على عجل كل فروع الأجهزة الأمنية للانقضاض على من وقع عليها، وكانت حملة عنيفة من الاعتقالات العشوائية طالت عدد لا بأس به من الموقعين، وتزامنت تلك الحملة الإعلامية و(الإيديولوجية) المكثفة والمستمرة إلى الآن، التي قامت بها مختلف وسائل الإعلام الرسمية من كافة الأنواع (المقروءة والمسموعة والحزبية والأمنية)، غلب على معظمها خطاب هجومي مركز ضد مضامين الإعلان وتوقيته والتشكيك بأهدافه، وصولاً إلى تخوين الموقعين عليه، وإظهار بعضهم بمظهر المتسرعين وغير المدركين لأغراضه الخبيثة وارتباطاته التآمرية !.ولم تقف الحملة هنا. بل كان هناك إجراء أخر قد يكون اشد قسوة من الاعتقال، وتمثل بصرف تعسفي لسبعة عشر موظفاً من الخدمة في الدولة بحسب قرار رئيس مجلس الوزراء في 14/6/2006، بينهم خمسة من الموقعين على الإعلان بما فيهم واحد من المعتقلين، والباقون من بين الموقعين (الموظفين فقط) الـ 91 على بيان آخر صدر عن مثقفي محافظة السويداء في 23/5/2006 استنكاراً لاعتقال الموقعين على ذلك الإعلان.
ولم تكن تلك الإجراءات القمعية المنسقة من كل أجهزة السلطة، بما فيهم كل المفرغين والأعضاء في الفروع والشعب والفرق الحزبية، إلا برنامجاً تعليمياً شاملاً ومدروساً، يهدف لتدريب عموم المواطنين السوريين على أخطار هكذا خروج. ووصل الأمر بأحد المسؤولين البعثيين للمطالبة بالإعدام لكل من وقع على تلك الوثيقة، وخاصة المفصولين (الذين جاء قرار الفصل رحمة بهم ؟!). وطبعا ستبقى قضية عودة هؤلاء إلى وظائفهم مرتبطة بأمر سياسي وأمني بكل معنى الكلمة، وليكون فصلهم درساً آخر يضاف إلى دروس السجن والمنع من المغادرة وكل أنواع التضييق، وفوق ذلك عبرة لمن يعتبر، لكل الموظفين في الدولة، ورسالة واضحة المعالم، بأنهم خارج دائرة التفكير، أو الاهتمام بالوضع العام (أي كان نوعه)، حيث مناقشة الوضع السياسي الذي يمكن أن يكوّن لهم رأياً مخالفاً هو من أعظم الكبائر عند السلطة، ولتبقى خارج اهتمامهم إلى ما بعد سن التقاعد من الخدمة.
وأخيرا:
ستبقى تأثيرات الوضع اللبناني المتأزم والمراوح مكانه، بسبب إصرار النظام السوري على التعامل مع الحالة اللبنانية باعتبارها شأناً سورياً، أمام أنظار العالم، ليبقى جرح نازف، لتصل ألامه إلى كل أصقاع الأرض. ولن يكون الشعب في سوريا بكل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية بمنأى عن تأثيراته القريبة والبعيدة. وعسى أن يصل لبنان في نهاية المطاف إلى بر الأمان ولتعود الثقة المتبادلة بين البلدين الشقيقين إلى ما كانت عليه سابقاً، إلى ما قبل دخول الجيوش المتعددة إلى أراضيه، والى ما قبل تجارب أهل السياسة فيه.