اليوم يبدو أن فريقاً من اللبنانيين سجل هدفاً، من خلال صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1575 القاضي بإنشاء المحكمة الدولية، لمقاضاة المتهمين باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، ولولا الحذر من الجهر بالفرح الذي أثاره هذا النصر لخرج أنصار هذا الفريق إلى الشوارع ليزمروا ويرقصوا، ولكن لحسن الحظ كان هناك نوع من التعقل لدى بعض القيادات التي دعت إلى كبت مشاعر الابتهاج، وضبط التعبير عن النشوة لكي لا يثير ذلك ردود فعل سلبية لدى أطراف لبنانية أخرى.
إزاء هذا الوضع الهش والملتبس، الذي ينقسم حياله الشارع اللبناني، هناك الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها: لماذا يشعر فريق لبناني بالنصر؟ وما الذي سوف تجلبه هذه المحكمة للبنان؟ وهل بوسعها حقاً أن تقر العدالة، وتقتص من قتلة الحريري؟ وهل سوف ينهي ذلك المشكلة اللبنانية ويضع حداً للاغتيالات والتفجيرات، ويعيد الاستقرار والهدوء إلى ربوع لبنان؟ ولو افترضنا أن المجتمع الدولي جاد في مساعدة لبنان من دون خلفيات، فهل المحكمة الدولية هي الأسلوب الأمثل لتحقيق ذلك؟
كل هذه الأسئلة لا تبدو أنها مأخوذة في عين الاعتبار، من طرف الفريقين، الطرف الذي سعى بكل الوسائل لإنشاء المحكمة الدولية، والآخر الذي عارضها، وهذا يعد أمراً خطيراً بكل المقاييس، لأن ما قد يبدو ظاهرياً في مصلحة لبنان يمكن أن ينعكس ضده، إذا ما حصل أدنى خطأ في الحساب أو التوقيت. إن إنشاء محكمة لمحاكمة المتهمين باغتيال الحريري، وسمير قصير وجورج حاوي، وجبران تويني، أمر لا يختلف اثنان على أحقيته، بل هو واجب لكي لا يتحول هذا البلد إلى غابة، ولكن يا ترى هل إن محاكمة المجرمين، الذين أهدروا دم زعامات وقيادات لبنانية سياسية وإعلامية، كان ينقصها فقط إنشاء المحكمة الدولية؟ إن المرء ينبغي أن يكون مغفلاً، حتى يقتنع بأن حل المسألة اللبنانية اليوم بات معلقاً على المحكمة الدولية، لأن الآتي أعظم.
يستدعي الأمر التوقف عند ثلاث نقاط جوهرية: الأولى، هي سبب رفض قسم من اللبنانيين للمحكمة الدولية. ورغم حدة الانقسامات الداخلية، وشراسة المعركة السياسية التي دارت من حول هذه القضية، فإن هذا الفريق لم يوضح بما فيه الكفاية سبب رفضه إلى اليوم. لقد بدت معارضته لإنشاء المحكمة وكأنها تهرب من مواجهة القضاء، وقد سجل لهذا الفريق فضل عدم الاعتراض، خلال جلسات الحوار الوطني في العام الماضي على مبدأ المحكمة والموافقه عليه، واعتبر ذلك الموقف ضرباً من الحنكة السياسية، لكن كل مبررات الرفض التي جاءت في ما بعد بدت ضعيفة، إلى حد صار فيه البعض يشك في إمكانية ضلوع هذا الفريق في الجرائم، في حين أن هذا ليس هو السبب الفعلي لرفض المحكمة. ومهما تكن حجج هذا الفريق وجيهة، فإنه ليس في مصلحته أن يبدو وكأنه يقف في الصف المضاد للعدالة، ومع التفريط بدماء الناس، علاوة على أن لا أحد يمكن أن يقبل بإعادة تركيب بلد، إلا على أساس متين من المصالحة.
أما النقطة الثانية، فهي إصرار الفريق الآخر على الاقتصاص من خلال الدعم الخارجي، والتعاطي مع الآخرين على أنهم متهمون حتى تثبت براءتهم، وهو بذلك أعطى لنفسه حق اتهام الآخرين ومقاضاتهم، وهذا أمر يحتمل تبعات كثيرة، ليس أقلها أعباء العطل والضرر الأخلاقي وتشويه السمعة. ويضاف إلى ذلك أن هناك ماكينة من الشائعات التي لا تكف عن الدوران، وهدفها تفسير رفض الطرف الآخر على أنه خوف من مواجهة القضاء.
ويمكن هنا تسجيل ملاحظتين أساسيتين: الأولى، هي أن الطرفين يتحملان مسؤولية في لعب كرة المحكمة الدولية، كل طرف ظل يقذفها نحو الطرف الآخر، بعيداً عن النتائج الفعلية للتحقيق الجنائي الخاص بالجريمة، والذي بقي يسير بسرية تامة، منذ أن تولى القاضي سيرج براميرتس الملف. والملاحظة الثانية، هي أن المحكمة يجب ألا تتحول إلى مبرر لحرب لبنانية لبنانية، فبوسع الفريقين أن يتفاهما حول الأسس، وطريقة العمل التي سوف تجري بها مداولاتها. إن الفرصة تلوح اليوم لتحويل المحكمة إلى ضمانة قضائية دولية للبنان، وهذا أمر يصب في مصلحة هذا البلد، الذي لا يخلو فيه بيت من دم ضاع هدراً، من دون وجه حق.
تتعلق النقطة الثالثة بالمحكمة الدولية وسوريا، وهنا يعرف الجميع أنها هي المستهدف الرئيسي بالمحكمة، لأنها “المتهم البدهي”، كما قال تقرير الايرلندي “فيتزجيرالد”، الذي أشرف على التحقيق الإجرائي، قبل أن يبدأ القاضي ديتليف ميليس التحقيق الجنائي في جريمة اغتيال الحريري. وهنا يسود أيضاً قدر كبير من التشويش والخلط بين التحقيق والمسؤولية، في وقت تتعدد فيه الأهداف المتوخاة من المحكمة. ورغم نبل مقاصد بعض اللبنانيين في ضرورة تكريس المحكمة منذ البداية، من أجل جلاء الحقيقة، فإن هناك فريقاً أخذ يتصرف وكأن المحكمة أداة بيده، لتصفية حساباته مع النظام السوري، لذا صار يعول عليها ويلوح بها كوسيلة لإحداث تغيير جذري في سوريا، الأمر الذي أعطى مبررات لدمشق لكي تعتبر أن المحكمة سياسية، وقد شنت حملة سياسية على هذا الأساس، وبنت استراتيجية دفاعية انطلاقاً من هذا المبدأ، مما ساعدها على حشد تأييد كبير من ورائها على المستويين العربي والدولي. ذلك أن قطاعاً واسعاً من الرأي العام العربي والدولي صار على قناعة، بأن المحكمة الدولية ليس الهدف منها الاقتصاص من قتلة الحريري، بقدر ما هو تقويض النظام في سوريا، وساعدت على تعميم هذا الفهم مواقف كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وطريقة إدارة النائب سعد الحريري للملف. ورغم أن مواقف شيراك من هذه القضية لا تصلح للقياس عليها، بسبب اختلاط الشخصي بالعام، فقد اتضح من خلال مسار الأحداث أن فرنسا والولايات المتحدة لا تريدان من هذه المحكمة، أن تكون أكثر من ورقة ضغط على دمشق، وهما على استعداد لإجراء مقايضات وتسويات مثلما حصل في قضية لوكربي. وفي اليوم الذي يحصل فيه بوش على مساعدة سورية في العراق، لن يتردد لحظة في لفلفة موضوع المحكمة الدولية من دون أدنى شعور بتأنيب الضمير.
من المؤسف أن التجاذبات الداخلية والخارجية، أبعدت المحكمة الدولية عن هدفها الأساسي، من هنا ليس هناك في الأفق من مكان للفرح اللبناني، ولا للحقيقة.
bacha@noos.fr