الاستقرار النسبي الأمني والاقتصادي يدفع إلى تذكر مقولة الراحل رفيق الحريري ‘البلد ماشي والشغل ماشي’ بالرغم من التراجع الاقتصادي وتداعيات الأزمة السورية.
بعد عشر سنوات على حرب تموز 2006، وبعد خمس سنوات على انطلاق الصراع السوري، يبدو لبنان وكأنه واحة استقرار نسبي وسط إقليم ملتهب، وذلك خلافا لأحد ثوابته التاريخية في التحول بسهولة إلى ضحية الصراعـات الجيوسياسية في محيطه. هل ينجو “طائر الفينيق” أي الكيان اللبناني من مطحنة نزاعات الفوضى التدميرية وهل يصمد الستاتيكو إذا استمر المأزق الداخلي الذي يعكس عمق الانقسام الإقليمي. هل يعاني لبنان مستقبلا من ارتدادات الزلزال السوري وإعادة تركيب المنطقة؟
إن التعويل على المفارقات والظروف الخارجية لا يقدم ضمانات ملموسة للمواطن اللبناني الخائف على حاضره ومستقبله. للوهلة الأولى يبرز التعطيل؛ الجمهورية اللبنانية من دون رئيس منذ مايو 2014، الديموغرافيا اللبنانية تغيرت جذريا وأكثر من نصف المقيمين هم من غير اللبنانيين، المؤسسات خاضعة لمنطق التمديد والمحاصصة والتسيير.. لكن مقابل هذه الصورة الرمادية يستنتج المتابع عن كثب لأوضاع بلاد الأرز أن الاستقرار النسبي الأمني والاقتصادي يدفع إلى تذكر مقولة الراحل رفيق الحريري “البلد ماشي والشغل ماشي” بالرغم من التراجع الاقتصادي وتداعيات الأزمة السورية، إن كانا لناحية أزمة اللاجئين أو لانعكاسها على الدورة الاقتصادية والسياحة.
شهد شهر يونيو حدثين أمنيين خشي معهما لبنان الأسوأ:
في 12 يونيو حصل اعتداء أمام بنك لبنان والمهجر في بيروت رأى فيه البعض رسالة محلية أو إقليمية إلى القطاع المصرفي اللبناني وإلى واشنطن التي فرضت عقوبات مالية على حزب الله، وحسب مصدر مطلع جرى تطويق التتمة والتداعيات عبر اتصالات أجرتها طهران مع الولايات المتحدة الأميركية، وأدى ذلك إلى تراجع في التطبيق المتشدد للقرار الأميركي حرصا على اهتمام الجانب الأميركي بصلاته الإقليمية مع إيران روحاني – ظريف وسلامة القطاع المصرفي في لبنان في آن معا.
حسب القراءة الفرنسية والأميركية لتطور الوضع اللبناني وفي ظل الفراغ الرئاسي، يعتبر حاكم مصرف لبنان بمثابة نصف رئيس اقتصادي، أما نصف الرئيس الأمني فهو قائد الجيش العماد جان قهوجي، ولذا يفرض التمديد منطقه في غياب رئيس للجمهورية إذ لا يستحسن استسهال اختيار رأس المؤسسة العسكرية في ظل شغور الموقع المسيحي الأول في الدولة. ومن هنا الحرص العميق على استمرارية الدولة من خلال حماية هذين الموقعين، وبرز ذلك في الحدث الأمني الثاني أواخر شهر يونيو مع استهداف بلدة القاع، ونجاح الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية في كسر الإرهاب وضرب خلاياه النائمة.
لا تخفي مصادر أوروبية قلقها على الأمن في لبنان وخاصة في حال احتدام الصراع الإقليمي المفتوح من دون أفق تسويات منظورة، لكنها تعتبر أن وجود هذا الكم من اللاجئين السوريين في لبنان يعزز المظلة الخارجية لأن أوروبا والغرب يطمحان إلى تركيز هؤلاء في دول الجوار السوري وعدم عبورهم المتوسط.
سيكون لبنان رهينة انتظار اتضاح موازين القوى الإقليمية، إذ مع بدايات أغسطس أمل اللبنانيون خيرا وانتظروا الدخان الأبيض من استئناف الحوار الوطني لثلاثة أيام متوالية في عين التينة، مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري، صاحب مبادرة ما سمي السلة المتكاملة لإخراج البلاد من الفراغ الرئاسي المستعصي والأزمة التي تضرب نظامها السياسي، لكن ظنهم خاب وجرى إغلاق هذا المشهد بانتظار جلسة شهر سبتمبر القادم، وذلك بسبب استمرار المناكفات الشخصية والتناقضات الناجمة عن الاصطفاف الإقليمي.
لكن في مواجهة مشهد عين التينة الملتبس والمتعثر، برز مشهد إيجابي آخر في المختارة دار آل جنبلاط في جبل لبنان ليعكس صورة أخرى عن التمسك بالتنوع والتعددية والعيش المشترك بين كل الفئات اللبنانية. لقد كانت مناسبة انتهاء ترميم وتدشين كنيسة سيدة المختارة فرصة لتلاقي كل الزعامات السياسية والدينية على اختلاف مشاربها في لحظة إقليمية حرجة وكأنها قبل أربع سنوات على مئوية إعلان دولة لبنان الكبير، تؤكد أن هذا البلد الصغير قابل للحياة وأن وحدته الإنسانية هي دره الفريد.
من المختارة قال الكاردينال بشارة الراعي بطريرك الموارنة بالفم الملآن إن انتخاب الرئيس هو الأولوية قبل الحوار في المواضيع الخلافية الأخرى، وشدد على عدم انتظار الخارج للقيام بهذا الواجب الوطني مشيرا إلى أن مصالحة الجبل عام 2001 التي أتمها سلفه مار نصرالله بطرس صفير مع وليد جنبلاط كانت نابعة من إرادة داخلية من دون انتظار الخارج. وفي نفس السياق شدد جنبلاط على أن الأثمان السياسية التي تدفع من أجل السلم تبقى أبخس بكثير من أثمان الحروب المدمرة. من كلام الراعي وجنبلاط، ومن حضور الرئيسين السابقين أمين الجميل وميشال سليمان وكل ممثلي الطيفين السياسي والديني، والقيادات العسكرية والأمنية والاقتصادية، تتبين بوضوح قدرة لبنان على رفع التحدي وسط الحريق الإقليمي، وأن التسوية المتجددة فيه ولو كانت مؤجلة هي صنو لاستمراره.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك، باريس
العرب