في قلب الشرق الأوسط “البركان المتفجر”، يعود النزاع السوري إلى صدارة الاهتمام بعد نهاية حرب غزة الثالثة، وبعد تسجيل اختراق سياسي محدود في العراق. ومع اشتداد دورة العنف من القنيطرة إلى الرقة، وتمكن تنظيم البغدادي من تحقيق مكاسب عسكرية جديدة وسط همجية غير مسبوقة، يستمر النظام السوري في رمي البراميل المتفجرة وممارسة العنف في بلاد ماتت فيها الإنسانية في ظل عجز العالم أو تجاهله وتشجيع بعضه.
إبان هذا الوقت يتكرس المأزق السياسي مع زوال وهم تحول جدي بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتراجع منظومات المعارضة المختلفة. ومع تفاقم الوضع في العراق وتعرض المكونات الأقلية للهلاك أو الإبعاد، واضطرار إدارة باراك أوباما إلى التحرك من أجل وقف تمدد “داعش”، وفي موازاة الحديث عن ضربة عسكرية ممكنة ضد نفس التنظيم في عمقه السوري، يعود إلى الواجهة، تدريجيا، حراك عربي وإقليمي على خط الأزمة السورية، تحت عناوين ظاهرة عن الانتقال السياسي والحفاظ على الدولة السورية والوحدة ضد التطرف، ضمن معادلة “لا غالب ولا مغلوب” تتيح الخروج الآمن للرئيس السوري بعد سنة أو سنتين، وتمنع الانتقام وتمهد للمصالحة الوطنية.
إزاء شلال الدم السوري وحجم المعاناة والأحقاد المتراكمة، تبدو هذه الأفكار أضغاث أحلام بالنسبة إلى البعض، أو كوابيس لمن كان يتصور الحسم النهائي عند الطرفين. بالطبع المهمة شاقة والرهان شبه مستحيل، نتيجة التأخر في فرض الحل السياسي الممكن بدل الغرق في متاهات “جنيف”، لكن لعنة الدم السوري المهددة للجميع في الجوار والعالم وبدء غرق سفينة نوح بمسببي التهلكة، ربما يكون دافعا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، لأن سوريا هي الحلقة المركزية، ومن يغير وجه سوريا يغير وجه الإقليم. ومجمل الأمن القومي العربي مهدد في حال الانهيار السوري، بيد أن أي طرح تبسيطي حول الانتقال السياسي دون ضمانات ودون قرار ملزم من مجلس الأمن الدولي سيقود إلى الدوران في الحلقة المفرغة، وتبعا للتجارب السابقة فالحل يرتبط بتسوية بعيدة عن منطق كسر العظم تعتمدها واشنطن وتقبل بها موسكو وطهران.
في سياق تطورات هذا الصيف عاد النقاش بقوة في واشنطن حول المسؤولية عن النكسة العراقية، واتفق كثير من السياسيين والمتابعين على أن عدم قيام أوباما بالتحرك في سوريا أدى إلى الانهيار الأوسع. لكن سيد البيت الأبيض الذي أعطى أوامره في العراق رفعا للعتب أو لرسم الخطوط الحمر والصفر التي نساها مرارا في سوريا وفلسطين، لا يبدو متحمسا لتحرك منفصل في سوريا ضد “داعش” لأنه سيفيد نظام الأسد، مع إقراره بوجوب اعتماد مقاربة إقليمية ونفس طويل لمحاربة هذا “السرطان”، كما وصفه، أو هذا “التنظيم الأكثر خطورة في العالم” حسب وصف وزير دفاعه. ولكي لا يستفيد الأسد “الحليف الموضوعي للجهاديين” حسب رأي الرئيس الفرنسي هولاند، لابد إذن للخروج من المأزق من العمل على مبادرة تعزل داعش وتضمن تغييرا سياسيا انتقاليا في سوريا.
الملفت في هذا الإطار دخول مصر على الخط بعد نجاحها النسبي في غزة والملف الليبي، إذ فوجئ المراقبون بتوقيت ودوافع تصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسي التي أكد فيها أن بلاده “لا تدعم المعارضة السورية ولا النظام” مما فسره البعض بمثابة تمهيد للأجواء مع دمشق لتقبل بالدور المصري في إيجاد حل سياسي للأزمة في سوريا. ولا يستبعد أن تكون الدبلوماسية المصرية قد استطلعت رأي موسكو خلال زيارة السيسي الأخيرة، خاصة أن هناك اتصالات في هذا الصدد منذ حقبة وزير الخارجية السابق نبيل فهمي، والتي اصطدمت، حينها، بعقبة بقاء الأسد أو صلاحياته في المرحلة الانتقالية.
جاء اجتماع جدة الأسبوع الماضي المخصص لمكافحة داعش (بمشاركة وزراء خارجية السعودية ومصر وقطر والإمارات والأردن) ليعطي دفعا لمبادرة تحظى بتأييد جامعة الدول العربية وتهدف إلى “إنهاء الحرب الدائرة في سوريا بين المعارضة والنظام، وإجراء حوار سوري- سوري للاتفاق على مستقبل النظام السياسي”.
حتى الآن لم تتم صياغة نهائية لهذه المبادرة، لكن تفاهم الرياض والقاهرة سيمنحها فرصة جدية خاصة أن هناك بداية حوار مع إيران أتاحته زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان للسعودية بتوقيت متعمد، ليتم التباحث معه بأفكار إيجابية للحل السياسي للأزمة السورية، الذي من الممكن أن تساهم طهران في تسهيله.
هناك سيناريوهات عدّة يمكن أن تكون خليطا للنموذجين اليمني والعراقي في إيجاد المخارج. في مقابل التسويق لنظام الأسد لإبقائه في السلطة مع تقليص صلاحيته بتعديل دستوري على أساس تسوية محلية تقضي بمشاركة أطراف سياسية من المعارضة في المرحلة الانتقالية، يطرح البعض المثل العراقي الذي يحتاج إلى التنسيق الإيراني، ويؤدي إلى التخلّي عن الرئيس السوري بشار الأسد، كما تخلّت طهران عن نوري المالكي، وهذا مستبعد نتيجة الطبيعة الشمولية للنظام إذا لم يحصل تعديل في ميزان القوى أو اهتزاز في الكتلة الأمنية. أيا كانت التطورات المتسارعة لا يبدو إنقاذ الدولة السورية ممكنا دون صيغة توافقية أساسها عدم الإقصاء وتقليد لبنان في اتباع نهج لا غالب ولا مغلوب تحت مظلة إقليمية ودولية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس