عشيّة مؤتمر المانحين الذي انعقد في مصر، نشرت جريدة “لوموند” الفرنسية التحقيق التالي لمراسلها “ميشال بول-ريشار” حول التدمير الإسرائيلي المتعمّد لما تبقّى من نشاط إقتصادي في غزّة بعد 3 سنوات من الحصار. تدمير النسيج الإقتصادي لغزة لا يبدو نتيجة “مؤسفة” للقصف العنيف بل مخطّط دقيق قد يكون الهدف منه ضرب مقوّمات البقاء لشعب غزّة، وإحكام السيطرة الإسرائيلية على القطاع عبر تعزيز إعتماده على الإقتصاد الإسرائيلي.
*
يجلس جميل أبو عايدة على كرسي من البلاستيك ويمضي نهاره في احتساء الشاي. وهو يقول: “أين تريدني أن أذهب؟ لم أعد أملك شيئاً. لقد دمّر الإسرائيليون كل شيء، هدموا كل شيء من أساساته”.
كان جميل أبو عايدة ، قبل الحرب، يمتلك 4 مصانع إسمنت و7 منازل في المنطقة الصناعية قرب معبر “كرني”. ولم يبقَ له الآن سوى منزل وحيد استخدمه الجنود الإسرائيليون كملجأ وكنقطة مراقبة. إن مقاتلات “إف-16″، وهليكوبترات “أباتش”، ومعها الجرافات قد سوّت كل شيء بالأرض. ولم يبق من هذه المنشآت التي كانت تنتج 35 إلى 40 بالمئة من الإسمنت في قطاع غزة سوى أكوام من الركام,
يقدّر جميل أبو عايدة خسائره بحوالي 10 مليون دولار. وهو يسير بين أحزمة النقل الممزقة، والمخازن المدمرة، والشاحنات المحروقة والسيارات التي سحقتها الدبابات، ويقول: “من أصل 27 مصنع للإسمنت في غزة، دمّر 7 كلياً، وتعرّضت 10 أخرى لأضرار مختلفة. وكان التدمير منهجياً. لم تكن هذه المصانع تمثّل أي خطر عسكري. بل كانت لدينا علاقات تجارية جيدة مع الإٍسرائيليين. ولسنوات طويلة، كنا شركاء معهم. لقد شنّ الإسرائيليون هذه الحرب ضد المدنيين وضد الصناعة، وليس ضد حماس”.
يتكرر مشهد الدمار في المنطقة الصناعية التي تقع على بعد كيلومترين من الحدود. ولم يبقَ بناء واحد على طول الطريق الشرقي لقطاع غزة. فقد قام الجيش الإسرائيلي، وبطريقة متعمدة ومنهجية، بتدمير 60 مؤسسة من كل الأنواع، تشمل مصانع الثلج، ومعامل الخزفيات، وصولاً إلى معمل الكهرباء. لقد أباد الجيش الإسرائيلي صناعة غزة إبادة كاملة. بل إن محطة البنزين تحوّلت إلى ركام.
لا يصدق “شعبان الجعل” عينيه. فقد جاء بشاحنتي صهريج لكي يحاول إستخراج ما تبقّى من الوقود بعد تدمير محطّته. وهو يقول: “ما يريده الإسرائيليون هو أن نرحل من هنا. إنهم يعتقدون أننا قريبون منهم أكثر من اللزوم. وهم يرغبون في إفراغ المنطقة، من أجل توزيع الحزام الأمني إلى أبعد حدّ ممكن، ويرغبون في تجويعنا. أنا أعمل في هذه المنطقة الصناعية منذ 30 سنة، ولم يبقَ لي شيء الآن”.
لا جدال في أن الإسرائيليون يرغبون في توسيع المنطقة العازلة على طول حدودهم. ولكن يبدو، كذلك، أن هدف الجيش الإسرائيلي كان ضرب النسيج الإقتصادي لقطاع غزة. وتشهد على ذلك الأضرار الكبيرة جداً التي لحقت بمطاحن “البدر”، الواقعة شمال “بيت لهيا”، غرب قطاع غزة.
يقول “عمدان حمادة”، وهو واحد من أربع شركاء في هذا المشروع: “كانت هذه المطحنة الوحيدة التي ظلت تعمل من أصل سبعة مطاحن. وقد وجّه الإٍسرائيليون قصفهم نحو الآلات بصورة متعمدة.، ولكنهم لم يتعرّضوا لمخزون الحبوب. كانوا يدركون جيداً ما يفعلونه، وكان هدفهم هو التدمير من أجل التدمير”. وقد أتت النيران التي اشتعلت بفعل القصف على كل منشآت المطاحن. ولم يبقَ سوى حديد محترق وجدران شققتها النيران. وعلى أحد الجدران كتب أحدهم “لن تقضوا على أحلامنا”!!
كان حلم أهل غزة، منذ الإنسحاب الإسرائيلي في صيف 2005، هو بناء حياة جديدة في هذه الأرض المكتظة بالسكان. وقد تكاثرت المشروعات من كل نوع. ولكن الحصار، والصراعات الداخلية بين الفلسطينيين، حوّلت كل شيء إلى كابوس. ثم جاءت عملية “الحديد المصبوب” لتستكمل عملية إستنزاف الإقتصاد الغزّاوي التي كانت بدأت عبر فرض حصار خانق تزايدت حدّته بوتيرة مطّردة منذ 3 سنوات، أي منذ إنتصار “حماس” في الإنتخابات التشريعية التي جرت في 25 يناير 2006.
كانت أسابيع الحرب الثلاثة ذروة مشروع الإستنزاف. ويقول “عمر حمد”، وهو رئيس غرفة الصناعة الفلسطينية: “ما لم يستطع الإٍسرائيليون تحقيقه بالحصار، فقد حققوه بواسطة الجرّافات”.
ويضيف: “قبل الحرب، كان 97 بالمئة من الصناعات مشلولاً بسبب الحصار. أما الآن، فقد تم تدمير الـ3 بالمئة التي كانت ما تزال تعمل. والهدف واضح: أولا، إجبار الإقتصاد الغزاوي على الدخول في تبعية كاملة لإسرائيل، وتوجيه رسالة إلى أهل غزة مفادها أن “حماس” هي المسؤولة عما لحق بهم”.
ويقدّر “عمر حمد” أنه تم تدمير 300 معمل وورشة خلال العمليات الإسرائيلية. ويلفت إلى أنه تمّ إختيار الأهداف بصورة متعمدة، فجرى تدمير كل المنشآت التي تعمل كانت تعمل بصورة مستقلة لأنها تستورد موادها الأساسية من مصر.
بالمقابل، كانت الأضرار أقل بكثير في المنشآت التي تستخدم مواد أولية يتم إستيرادها من إسرائيل حينما تكون المعابر مفتوحة. ويقول “حمد”: “هذا دليل على أن الإسرائيليون يريدون أن يسيطرون على أعمال البناء وإعادة التأهيل. وهم يرغبون في فرض إرادتهم على القطاع الخاص. لقد تم تخطيط كل شيء بدقة. في حياتي، لم أرَ كل هذا العدد من الجرافات في عملية عسكرية. هذا كله بعيد كل البعد عن مكافحة الإرهاب. إن “كرني” منطقة مفتوحة كلياً. ولم يسبق أن تجرّأ أي من مقاتلي “حماس” على دخولها”.
لن ينتهِ “عمر حمد” من إحصاء الأضرار، التي ستصل حتماً إلى مئات الملايين من الدولارات. إن معظم الصناعيين الذين اجتمعنا معهم ما يزالون مقتنعين بأن الروابط الإقتصادية مع إسرائيل ضرورية وطبيعية. لكنهم باتوا اليوم، وأكثر من السابق، تحت رحمة جيرانهم كلياً من اجل رفع الأنقاض وإعادة تأهيل منشآتهم.
لقد رفض “جميل أبو عايدة” مبلغ 4000 “أورو” الذي عرضته عليه “حماس” مقابل منزله المدمّر. وقال: “لست شحّاذا. أريد أن أعيد تشغيل جبّالات الباطون، أريد أن أعمل”. وردّاً على سؤال حول ما إذا كان حاقداً على الإسرائيليين، فقد اكتفى بالإطراق صامتاً.