ثلاثة صور
لا أخترع الصور، بل أنقلها إليكم كما هي، من واقعنا العربي، ومن حكاياتنا.
حكايات حدثت.
حكايات نعرفها،
نحكي عنها في خلواتنا، نهمس بها لأنفسنا،
ثم نتجاهلها.
نداري أعيننا عنها،
ثم نصمت،
نقطع ألسنتنا ثم نبلعها، كي لا نبوح…
تمعنوا فيها،
تمعنوا،
ولا تنفروا مما تروه.
بل واجهوه، ثم غيروه!
غيروه إذا استطعتم!
الأولى
“رفضت!”
رفضتني.
رفضتني أنا.
بنت الكلب.
الشرموطة.
رفضتني أنا،
أنا الذي أردت إجلالها وتكريمها.
رفضتني.
القحبة. بنت الأفاعي.
من تظن نفسها بنت الأباليس هذه.
لكن أنا الذي أستأهل. أنا الذي احترمتها، ودخلت البيوت من أبوابها. أنا الذي أستحق ضرب الأحذية.
بنت الشرموطة.
رفضتني.
وكنت قد أردتها زوجة لي. أردتها يوم رأيتها وهي تمشي تتبختر في الجامعة. بشعرها الأشقر الطويل المموج، ببشرتها العاجية، وبقوامها الممشوق الرشيق، جمال تهتز له الأرض إجلالاً. رأيتها وأردتها.
أردتها لي.
زوجة لي.
أنا أبن عم الحاكم.
شرف كبير تتهافت عليه بنات بلدي، يتنافسن عليه تنافساً.
شرف لا تحوز عليه إلا من تستحقه.
أبن عم الحاكم.
لست أيا كان.
إذا رفعت أصبعي أشير إلى فتاة، جاءت إلي،
وإذا لم تأت طواعية يأتي بها رجالي إلي عنوة.
وستصمت.
الكل يعرفني، والكل يهابني.
والكل يعرف أسرتي.
تلك الحاكمة.
تلك التي يتلفت الناس حول أنفسهم عندما ينطقون باسمها.
يعرفونها، ويعرفون بطشها إذا غضبت.
ويحترمونها.
يحترموننا.
يحنون رؤوسهم وظهورهم عندما يروننا.
يكسرون نظراتهم وهم يلثمون التراب الذي نمشي عليه، ويهللون.
يهللون كثيراً عندما نمر.
كالقرود.
يهللون ويصرخون،
كببغاوات زاعقة صماء،
يدعون الله أن يديم عليهم حكمنا.
يضرعون إليه أن يديم عليهم عدلنا.
ويبتهلون إليه أن يديم عليهم سعادتهم بوجودنا.
ويخافون..
يخافون من ظلنا،
ثم من ظلهم،
يلتفتون حول أنفسهم كلما فكروا فينا،
رعباً،
ثم يدعون لنا بالحمد حتى في سرهم!
ورغم ذلك رفضتني بنت القحبة.
الحمقاء البلهاء.
ظنت أن صلتها العائلية البعيدة بنا ستحميها، ظنت أن مركز أبوها الفكري الأكاديمي سيشفع لها، ظنت أنها تقدر أن تقول “لا. لا أريده زوجا”، ظنت أنها تقدر على القرار إذا أرادت.
ظنت.
الشرموطة بنت القحبة.
كانت قادرة أن توفر على نفسها مصيرها.
كان يمكنها أن تختار الإعزاز والتقدير والجاه، وزوج يشار إليه بالبنان.
كان يمكنها فعل ذلك.
لكن لا.
رفضت الحمقاء الغبية الهبلة.
رفضت، فماذا كانت النتيجة؟
أخذتها.
رفضت، وكانت النتيجة أني أخذتها بلا احترام، بلا إجلال، بلا تقدير.
وبلا زواج.
جاءوا بها إلي.
وأخذتها عنوة.
اغتصبتها عنوة.
فاحشتها ألف مرة عنوة، قبل أن أهتك عذريتها.
ثم تركتها لرجالي.
تركتها لهم.
يفترسونها.
يقطعون في جسدها.
يتناوبون عليها.
وأنا أنظر.
حتى ماتت.
ماتت من نزفها،
ومن جروحها.
ورموها، رموا جسدها على قارعة الطريق.
رموها مع كومة زبالة على الناصية.
زبالة.
حتى تكون عبرة.
حتى تكون قصة.
حتى لا ينسى الناس ما تعنيه كلمة “لا” إذا وجُهت إلي.
بنت الكلب، الشرموطة، القحبة.
رفضتني.
أنا.
الثانية
“لِمَ قتلها؟”
وقفت السكرتيرة أمامي بعد نهاية يوم عمل شاق طويل.
نظرت إليها بعينين متسائلتين.
كانت مرتبكة على غير عادتها.
فركت يديها وهي تقول: “هناك امرأة تنتظرك منذ الصباح”.
جرت عيناي سريعاً على الأوراق المتراكمة على المكتب وقلت: “لا أذكر أن هناك مواعيد أخرى مع عملاء في هذا الوقت؟”
ردت سريعا: “نعم، لكنها في الواقع قريبتي، وهي امرأة مسكينة فعلاً وفي حاجة إلى مساعدتك”.
حدقت فيها ملياً وتنهدت:”أدخليها إذن”.
انفرجت أساريرها وهرعت إلى الباب، لتعود ومعها امرأة متشحة بالسواد، الحزن متجلد على وجهها.
جلست أمامي ونظرات عينيها متبعثرة لا تستقر على هدف.
سألتها عن سبب قدومها إلي مكتب محاماة.
فردت علي قائلة: “زوجي مسجون منذ ستة أشهر، وسيخرج بعد أشهر معدودات. وأنا أريد الطلاق منه”.
تنفست بعمق، عقلي يتساءل عن سبب انشغال سكرتيرتي بموضوع طلاق، وأنا أقول:” ولماذا تريدين الطلاق”؟
أجابت: “لأنه قتل أبنتنا ذات الخمسة عشر ربيعا”ً.
بدأ الاهتمام يتسلل إلى صوتي:” ولماذا قتلها”؟
غصت وهي تقول:”لأنها حملت سفاحاً”.
صمتُ برهة ثم قلت:”أفهم ألمك، لكن الرجل فقد عقله على ما يبدو وهو يدافع عن شرفه”.
ردت بجمود:”لا. أنتِ التي لم تفهمِ. هو الذي أغتصبها”!!
الثالثة
“اشتراني”
يدخل الرجل ككل ليلة إلى الحانة ذاتها.
وككل ليلة رآها تجلس على كرسيها على حافة البار. فستانها الأحمر فاقع لا يكاد يغطي من جسمها إلا النذر اليسير. وكأسها أمامها، لا يكاد يمتلئ حتى يبتلعه جوفها بشراهة.
اخذ مقعداً مجاوراً لها ونظراته تتبع الخط الفاصل بين ساقيها المضمومتين.
تعرفت عليه، ولمح شبه ابتسامة على وجهها المغموس في بحر ألوان متلاطمة.
سألها إن كانت مشغولة الليلة. سؤال يعرف جوابه جيداً، وتعرف هي أيضا مرماه، وكلاهما متفقان على السعر.
غادرا الحانة معاً، وتوجها إلى شقته. ومثل المرة السابقة قامت بالمطلوب تماماً كما يحب. وعندما شبع عرض عليها الكأس من جديد، فهزت رأسها بالإيجاب.
شربت الكثير الليلة، يعرف ذلك من الغيوم التي تتلبد في عينيها، ثم من ثرثرتها. تتكلم دائما بلا هدف حتى تعود لتحكي له من جديد عن قصة قدومها إلى فرنسا.
وقد اعتاد على ذلك منها، تماما كما اعتاد على تركها تحكي حتى تُفرغ ما في جوفها، كي يأخذها من بعد إلى أحضانه.
بدأ هذيانها يستقر على بوصلة البداية، والتحم صوتها في نسيج تترابط فيه كلماتها بوضوح، يسمع بنصف أذن وهي تقول بصوت متثاقل بطئ: “لو أني عرفت ما سيحدث. لكن ما علينا. المهم أني كنت أعمل بالقرب من حينا في محل لبيع الحلويات. كنت أقف يومها مع بقية زميلاتي العاملات نلبي طلبات الزبائن عندما دخل، فرنسي في نهاية الستينات من عمره، يتبعه جار لنا.
توجهت إليه أسأله عن ما يريده، فحدق في ملياً ثم التفت إلى صديقه الجار وقال له “هذه أريدها”.
هكذا ببساطة لفني في ورق سلوفان، وأضافني إلى قائمة مشترياته.
لم أفهم، ونظرت إليه بامتعاض، ثم توجهت إلى زبون أخر.
في الظهيرة جاء جارنا في زيارة. تحدث إلى والدي، قال لهم إن الفرنسي يريدني زوجة له، وإن أمامهم مهلة أربع ساعات ليقرروا إما بالإيجاب أو الرفض.
لم يكن الجار في حاجة فعلاً إلى الاستفسار، ستة أطفال وأب بلا عمل كانا كافيين للنطق بالإجابة ووضعها على شفاهنا ونحن باسمون.
في المساء جاء الجار بالفرنسي والمأذون وعقدوا قراننا، وخرجت من داري وأمي تزغرد في صوات حاد، وأبي يتمنى لي السعادة من كل قلبه، وأصابعه تعد الدراهم التي دسها الرجل في يده.
أخذني إلى فندق ثلاثة نجوم.
أدخلني إلى غرفتنا.
عيناه تمسحان جسدي بشبق، وابتسامته تتدلى على شفتيه صفراء قاتمة، كدودة لزقة.
أقترب مني، فشممت رائحة فمه.
كريهة.
جفلت خائفة.
أبتلع ريقه، ثم طلب مني أن أجهز نفسي في المرحاض.
دخلت فيه وأنا أرتعش.
صفحة المرآة عائمة، غائمة، لا أرى فيها وجهي.
لا أعرف الرجل.
وهو عجوز.
أين وجهي؟
استجمعت شجاعتي، ثم خرجت عليه، فهجم علي بلا مقدمات.
وجدت نفسي مدفونة وهو فوقي،
حاولت أن أنطق، أن أحرك لساني، فلم أسمع صوتي.
أين صوتي؟
يداه تنزعان ثوبي عني بلهفة متعجلة، ثم تجريان على تعرجاتي،
وشفتاه ترومان على عنقي وصدري،
يده تعتصر ثدي، كأنها تعجنها، ومخالبه تدميها،
ثم تعضها أنيابه، تقرضها، ولعابه يسيل عليها،
وأنيني متشنج.
أين جسدي؟
وأخرى تندس بين حنايا أنوثتي،
تفرك فيها بخشونة، كأنه يدعك جلد سميك بليفه.
ولم يقبلني.
أين روحي؟
هتكني بصعوبة، وهو يلهث.
وصرخت.
وهو يلهث.
وبكيت.
وهو يلهث.
ثم قام عني،
وهو يلهث.
أين وجهي، أين صوتي، أين جسدي،
يا رب، أين أنا من كل هذا؟
يا رب، أين أنت من كل هذا؟
جلس بي في الغرفة سبعة أيام، يفعل هو بجسدي ما يشاء، وأنا جثة باردة أستسلم له في كل مرة وعيناي مغمضتان، وأستكمل فيها جارنا إجراءات التأشيرة، فسافرنا إلى فرنسا.
استقريت مع زوجي العجوز في حي متواضع بباريس. وهناك عرفت أنه سبق له الزواج مرات عديدة من نساء مثلي، كلهن من الجنوب. وعرفت أيضا لم تركوه، لمَ فروا منه ومن “نعيمه”، فقد أذاقني ما أذاقهن، حتى فاض بي الصبر يوماً وهربت.
ولم أعرف كيف أعود إلى أهلي، كيف أواجه خيبتهم أو خوفهم من الغد.
كانوا قد اعتادوا على المال اليسير الذي أبعثه لهم شهريا،
أصبحوا لا يتخيلون الحياة بدونه.
وفي ليلة ما،
وجدت في أنوثتي منفذا وخلاصاً.
لم أستصعب المسألة كثيراً.
فقد جربت بيع الجسد بعقد زواج رسمي.
فتعرفت على حياة الجسد وغرقت فيها.
وإلى اليوم، إلى اليوم لا يعرفون أني تركته.
وأظنهم لن يهتموا كثيراً لو عرفوا”.
استمعَ إليها بصمت، يده تمتد لتأخذ بضع حبات من فول سوداني يلقمها لسانه فيلوكها، يهز رأسه في حركة لا معنى لها، ويغمغم بكلمات مبتورة، وهو مدرك أنه أيضا لا يهتم!