“كلا! كلا! لستُ أبداً نسوية…! ولكن…”؛ تلك هي العبارة التي تسمعها أينما وليتَ في العالم. من العالم كله، المتقدم والمتخلف، الشرقي والغربي، يأتي هذا النفي، ذاك التبرؤ من النسوية؛ مثل أوراق اعتماد إلى ذوي الرأي أو أي نوع من أنواع السلطة الرائجة. نساء لامعات ناجحات متحقّقات، غالبيتهن العظمى تدفع عن نفسها تلك الصفة، “النسوية”، قبل أي حديث، خصوصاً إذا كان حول أنفسهن كنساء. وكأنهن بذلك تنْفين مسبقاً تهمة مبثوثة في متون الكلام الخاص بشأنهن.
فهن بحدسهن الخارق يدركن أن النسوية ارتبطت منذ وقت، ربما عقود، بملامح، هي أكثر ما يخشين الآن التصاقها بهن. العبارة “كلا! كلا! لست أبداً نسوية…” مثل طلسم يبعد عن صاحباته هذه الملامح. لماذا؟ لأنها، أي الملامح، تنطوي على صفات ضمنية، مسكوت عنها، مبثوثة بعمق في نسيج الخيال. فالتي ترفض أن تكون “نسوية” ترفض بالواقع أن يكون لها تلك الملامح. فهي أمام كليشيه، يلخّص قولاً أكثر تفصيلاً. وقوامه ان المرأة “النسوية” هي إمرأة “مسترجلة”، قبيحة، متقدمة في السن، في روحها مرارة عالية، عديمة الجاذبية الجنسية. أي كل الصفات التي لا يحبها الرجال في النساء، تقليديين كانوا أم حداثيين. والتقليديون أسهل انكشافاً من الحداثيين… ولكن هذا موضوع آخر.
حسناً، من أين أتى هذا الكليشيه؟ من أين له كل هذه القوة؟
في ما يلي القصة المتخيلة لنشأته وتسلله إلى العقول: البداية كانت في الآثار المتتالية للثورة النسوية؛ من انطلاقة ديناميكية خروج النساء تباعاً من الفضاء الداخلي إلى الخارج؛ وطموحهن الذي لا يقتصر على غزو هذا الفضاء، إنما أيضاً إلى انتزاع كل الأدوار التي كانت مخصّصة للرجال: أول إمرأة طالبة، طبيبة، مهندسة، عالمة، أديبة، رئيسة وزراء أو جمهورية… بهذا الخروج اكتسبن ملامح جديدة، لا تستجيب تماماً لملامح الأنثوية القديمة. تغيرت النساء بهذا الخروج. ولكن الرجال بقوا على ما كانوا عليه منذ آلاف السنين: لم تتم الحركة العكسية من جانبهم. في الخارج بقوا. ومعه صفات هذا الخارج. أمران حدثا ببطء مطّرد ونسبي: صارت المرأة تنافس الرجل في مجاله، وصارت أنوثتها مستقلة أو تتوق إلى الاستقلال، نظرا لخروجها واكتسابها مهارات الخارج. هنّ تغيرن، وهم لم يتغيروا. ولم يكن ممكناً ان يتغيروا بوتيرة تغير النساء ذاتها، السريعة، بالنسبة لهم. هكذا ولدَ الخلَل بين الوتيرتين، أي الخلل في التوازن القديم الذي كان قائماً على فصل الأدوار، بوتائر متوازية. وبما أنهم اعتبروا أنفسهم في حرب دفاع عن مواقعهم، حربٌ من النوع الحميم… كان سلاحهم للردّ على التمرد الانثوي بنفي الصفة الأنثوية عن صاحباته؛ تلك الصفة الثمينة، المطلوبة من أجل العلاقة المتخيلة مع الرجل. السلاح هو الربط بين الثورة النسوية وبين ضياع الصفات الأنثوية…
لم يقلْ الكليشيه ان المرأة النسوية “خبيثة” أو “كذابة” أو “أنانية”، وهي كلها صفات لا تتناقض مع الأنوثة المطلوبة، بل تتعايش معها: الصفات الثلاث هي إبنة التوازن القديم، حيث كانت المرأة تدافع عن نفسها بالمكائد والحيل والمعسول من الكلام. مساكين هم الرجال: تقفز ثمار النسوية بوجههم، مباغتة، بمقدمات تاريخية غضوا الطرف عنها، لما استشعروا من خطرها. بقوا يحبون النساء طالما انهن يستجبن لصفات الأنوثة التي غرزتها سيطرتهم الممتدة على آلاف من السنين. وها هم اليوم، لا يجدون في النساء المعاصرات إلا تهديدا للإنسجام القديم. هل هم الذين صاغوا الكليشيه الأنتي نسوي”؟ أم إن النساء أنفسهن صغنه وبثثنه حمايةً لأنفسهن من مغبّة إضراب الرجال عنهن…. لا شيء مؤكد بهذا الخصوص. ولكن من الواضح أن الجملة المستنكرة، النافية للنسوية “كلا! كلا!…”، تسكت عن القول بأنها بذلك لا تريد خسارة الصفات القديمة، المحبّبة لدى الرجال الضائعين. ربما هي حيلة أنثوية أخرى، نوع من التسوية بين استمرار قبولهن في الفضاء العام، بتنازلات لفظية ” كلا! كلا! لستُ…!”، لا تكلّف شيئاً. أو أنها نوع من الإندراج الفكري تحت مظلة الإرتدادات السلبية للثورة النسوية؛ وأقوى هذه الإرتدادات اختلال تلك العلاقة بين النساء والرجال، وخصوصاً على مستوى العلاقة الجنسية والصفات الجنسية المرغوبة؛ وهذه العلاقة هي محور العلاقة بين الجنسين، ومحور الحياة أيضاً.
مع أن نفي النسوية بهذا الدأب لا يتطابق مع واقع حال صاحباته. فأولئك النساء، الناجحات، لا تستجبن لمضمون الكليشيه حول النسويات. هن متألقات بنجاحهن، سعيدات به، وعلى قدر من الطلب الجنسي. وهن فوق ذلك، لو تأملن قليلا في تاريخهن القريب، لانتبهن الى انه لولا النسوية، لولا ثورتها، لكنّ الآن في البيت، لا يُسمع صوتهن ولا تُرى صورهن… لا شيء غير قضايا بيت لا يغادرنه. وهن بتطلعهن الى مزيد من الاختراق للفضاء الرجالي السابق، يجسدن استمرار هذه الثورة، على الرغم من الكليشيهات. يبدو أحيانا وكأن نفي النسوية هو وسيلة أو طريقة للتخلص من الشعور بالذنب، بسبب هذا التفوق. طريقة للقول بأن ثمن النجاح هو نكران من كان، أو ما كان وراءه: تناقض تعيشه الناكرات، تفادياً، ربما للمجابهات ذات الخسائر الفادحة، تجنباً للعنف. ولكن تفادي العنف من جانب النساء، لا يناظره تفادياً من جانب الرجال…
منظمة “فيمين” الأوكرانية، التي تتبنى تعرية الصدر كفعل احتجاجي ضد السيطرة الذكورية، هي على الأرجح واحدة من بنات النفي: تقول فعالياتها العارية ونصوصها القليلة بأنها لا تشبه النسويات العجوزات القبيحات القابعات في المؤتمرات… كلا! لسن كذلك! انهن شابات جميلات ممشوقات…. هل هناك أنوثة أكثر من ذلك؟ هذه الأنوثة بالذات المغرية الجذابة، هي ضد النظام الذكوري. منظمة “فيمين” أيضا تنفي عن نفسها صفة النسوية ذات المحمولات “التقليدية”. واللواتي ينقدن تجربة هذه المنظمة قادمات من نسوية تقليدية وغير تقليدية. ولكنهن مجمعات على المفارقة العظيمة القائمة بين محاربة الذكورة وبين الانضواء تحت الأضواء التي يحبها الرجال وتثير رغبتهم…
كل هذا للقول بأن هناك أنواع من النسويات بقدر ما هناك تجارب نسائية في الفضاء العام، بقدر طبائعهن المتنوعة، وبقدر طبيعة الأدوار المزدوجة، الداخلية والخارجية، العمل والأولاد أو الطبخ الخ. النسوية متعددة التجارب والثقافات والبيئات. لكل نسوية طابعها وجيلها وطرقها. ولكنها كلها تغرف من الفكرة الأساسية نفسها، من أن الأدوار السابقة يجب ان تتغير؛ هي لم تفرد اهتماما خاصا بما سوف يحلّ على الرجل من اضطراب وارتباك وتشوش، نتيجة هذا التغيير. وهذه مهمة ستكون هي على الأرجح محور العقد المقبل من السنوات؛ على الأقل بالنسبة للنساء المحظوظات بالانتماء الى مجتمعات متقدمة. أما بالنسبة لمنطقتنا فالأمر أقل بعثاً على الايجابية. والاحتمال الأكبر أن تكون أحكام الإسلاميين وتصوراتهم، التواقة الى إعادة النساء الى الداخل، نوع من المدَد للذكورية؛ فتقوم هذه الاخيرة بتغذية مقابِلة للإسلامية. ليدخل الإثنان في حلقة مغلقة تغذي بعضها البعض. فيُحكم بذلك الطوق على النساء. ويأخذ نفي الصفة النسوية منحى واتساعاً قياسيين. فمستوى الهجوم الإسلامي على النساء لا يحتقر ثمار النسوية فحسب، إنما يحقّر الأنوثة نفسها، يرمي أعداءه بها.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل