منير يونس:
«نحن بلد محتل من قبل إيران بواسطة حزب الله»… هذا ما يذكّر به بوضوح الخبير المالي والمحاضر في الاقتصاد الدكتور توفيق كسبار، ليؤكد، على سبيل المثال لا الحصر، أنه ضد طروحات كثيرة متداولة عن كيفية استخدام ايرادات الغاز المستقبلية كجزء من حل الأزمة، وكذلك الأمر بالنسبة لرهن أو بيع جزء من مخزون لبنان من الذهب، وسبب الرفض أننا في سلطة تبعية لا ثقة مطلقاً بما تقوم به. ويقول كسبار إن العهد الحالي أتى نتيجة صفقة مع «حزب الله»: رئاسة الجمهورية مقابل الجمهورية. ويجزم بأنه لا يمكن لهؤلاء ان يأخذوا قرارات لمصلحة البلد. لا يأخذون قرارات الا لصالحهم ولمصالحهم، والدليل انه ومنذ حوالى 3 سنوات، ومع اكبر انهيار مصرفي في التاريخ الحديث، ومع وصول 80% من السكان الى تحت خط الفقر… لم يتخذ اجراء واحد لمعالجة الأزمة!
ويضيف كسبار في حوار مع «نداء الوطن» أن لدى أي احتلال هاجساً أساسياً هو ان تكون السلطة تابعة له، أما الأمور الأخرى فثانوية. لذا، سقطت دولة القانون، وأصاب الشلل عمل كل المؤسسات الرقابية بمقدار ما هي حاصلة على موافقة المحتل. فالنظام الرقابي اللبناني جيد جداً من حيث المبدأ، لكنه مع سلطة الاحتلال تحول الى طالب رضا من تلك السلطة، وراح يتصرف على هواه ولمصالحه السياسية والمادية. وذلك يشبه ما كان يحصل أيام الاحتلال السوري، إذ كانوا يرضون المحتل ويعبثون بالباقي. وتحت سلطة الاحتلال لا يمكن للبلاد ان تتمتع باقتصاد طبيعي بعدما استنزفت كل قوى لبنان وصولاً الى الودائع والمدخرات. فقد تدمرت ادخارات 3 أجيال: الآباء والأبناء والجيل الطالع الذي يقف عاجزاً عن التعليم كما يجب، وعن الطبابة كما يجب. وفي ما يلي نص الحوار مع الدكتور كسبار:
كيف ترى تدحرج الأزمة من دون حلول جذرية حتى الآن؟
– علينا دائماً التمييز بين انهيارين حصلا في لبنان، طبيعتهما واسبابهما مختلفة، ونتائجهما أيضاً مختلفة!
لدينا انهيار سعر الصرف لسبب مباشر وأساسي هو أن الدولة كانت تقترض بشكل مفرط. وبفعل تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار اندفعنا الى الافراط في الاستهلاك، وبالتالي الاستيراد، ما أدى الى عجز في ميزان المدفوعات. بكلام آخر: كنا نعيش بأكثر من طاقتنا بفعل أن سعر الصرف كان سخياً جداً بالنسبة لليرة، خصوصاً وأن لبنان دولة مستوردة لمعظم حاجاتها.
ولا علاقة بتاتاً لانهيار سعر الصرف بانهيار الجهاز المصرفي الذي يضم المصارف التجارية ومصرف لبنان.
علينا أن نعلم أنه في الثمانينات، انهارت الليرة اللبنانية وبنسب أعلى من النسب الحالية، ورغم ذلك بقيت المصارف بأوضاع ممتازة. ففي خلال 15 سنة من الحرب الأهلية-الفلسطينية كانت التحويلات تجري من دون حدّ للمبالغ ومن دون أي معوقات. ألا يدعو ذلك الى التساؤل مقارنة بما نحن فيه اليوم؟؟
ما أريد التأكيد عليه هو أن هناك اختلافاً كبيراً بين انهيار الليرة، والانهيار المصرفي الذي هو الجريمة الكبرى. انه من بين الانهيارات المصرفية الأكبر في العصر الحديث، إن لم نقل أكبرها.
لتلخيص ذلك للقارئ أقول: السبب المباشر والأساسي والاجرامي هو سياسة الهندسات المالية التي انتهجها مصرف لبنان، والتي تمثلت في استدانته دولارات المصارف، وصلت هذه الاستدانة إلى حدّ 100 مليار دولار، أي حوالى 80% من مجمل الودائع بالدولار، التي كان معظمها في الخارج وجذبها إليه بالفوائد الباهظة. أي أن دولارات المصارف هذه تحولت من سيولة إلى لا سيولة. كانت فوائد تلك الأموال في الخارج بين ربع ونصف من واحد %، فيما منح مصرف لبنان المصارف 6 و7% ومن ثم أكثر من 10 و13%. دام ذلك سنوات عديدة، خصوصاً بعد عام 2015.
في المقابل، وبالأرقام الرسمية والمنشورة على موقع مصرف لبنان، بين 1975 و1990، كانت نسبة السيولة بالدولار آنذاك في المصارف 99%. وهذه النسبة هي ما لدى البنوك من دولارات في الخارج قياساً بودائع الدولار لديها. وهذه نسبة صلبة لم تعرف مثيلها مصارف تجارية أخرى في العالم. ولذلك بقيت المصارف اللبنانية صلبة، وهذا كان امتداداً لتاريخ من العمل المصرفي المحافظ في لبنان.
أما في أيلول 2019، أي قبيل الانهيار، فكانت نسبة السيولة بالدولار 7% فقط. هذا ما أكد ان الدولارات «طارت» بعدما كان استعملها مصرف لبنان في عدة أوجه.
نعود ونكرر أن السبب الأول والأساسي والمجرم لانهيار الجهاز المصرفي هو سياسات ما كان يسمى بالهندسات المالية لمصرف لبنان، وأيضاً سياسات المصارف باساءة إدارة واستخدام الودائع عبر توظيف معظمها اختيارياً لدى مصرف لبنان. أي أن المصارف شاركت في الجريمة طوعاً. لم يجبرها أو يلزمها أحد على ذلك، ولا بأي شكل من الأشكال. دافعها الأول كان الربح الوفير من الفوائد المرتفعة، وقصر نظر قاتل.
ألا ترى أن هناك مسؤولية ما للدولة؟
– إنها مسؤولية غير مباشرة لكنها بالدرجة نفسها من المسؤولية. فمن واجبات الدولة الأساسية والمسلّم بها الرقابة على المصارف. وعادة يناط هذا الدور بالمصرف المركزي لكن تبين أنه المسؤول الأول كما بينّا أعلاه. وحسب النظام اللبناني، هناك عدة مستويات رقابة في الدولة. على سبيل المثال، فان القرارات الصادرة عن مصرف لبنان لا تخص الحاكم وحده بل هناك المجلس المركزي. صحيح أن الحاكم استخدم عدة أساليب لتطويع الأعضاء، لكن ذلك لا ينفي مسؤولية ذلك المجلس.
إلى ذلك، لدى لجنة الرقابة على المصارف صلاحيات مستقلة، ومن واجبها يومياً مراقبة نسبة سيولة المصارف بالدولار.
وهناك أيضاً وزير المالية، فتلك الوزارة هي سلطة رقابة ووصاية على مصرف لبنان، لذا نسألها عن مسؤوليتها تجاه الخسائر التي كان يتكبدها المصرف المركزي.
ثم نأتي على مسؤولية مجلس الوزراء الذي كان يفترض أن لديه من يقرأ ويتابع ما ينشر. لقد نشرت دراسة موثّقة بالأرقام الرسمية في آب 2017 محذراً من الأوضاع الخطرة جداً، وتحديداً بالنسبة لخسائر مصرف لبنان المتراكمة منذ عام 2002، وكون صافي الاحتياط بالعملات الأجنبية لديه أصبح سلبياً أقلّه منذ عام 2015، وعن الهبوط المتواصل لسيولة المصارف بالدولار.
واسمح لي في هذا السياق تذكير ما أتى في الجملة الافتتاحية لهذه الدراسة في عام 2017: «من المرجح أن لبنان يتجه نحو أزمة مالية خطيرة ستتخذ شكل انخفاض في قيمة العملة الوطنية، والأخطر من ذلك أنها ستؤدي إلى زعزعة استقرار القطاع المصرفي… إن عواقب هذه الأزمة المالية يمكن أن تكون مدمّرة على جميع المستويات… وستشمل هذه العواقب انخفاضاً حاداً في دخل وثروة معظم الأسر في البلاد وزيادة حادة في حالات الإفلاس والبطالة، وضبابية واسعة النطاق حول المستقبل في ظلّ حكومة مصعوقة وعاجزة، ما سيدفع بعشرات الآلاف إلى الهجرة…».
أخيرا وليس آخراً، للمجلس النيابي مسؤولية. فمنذ انشاء مصرف لبنان كان البرلمان يسائل حاكم مصرف لبنان عن سياساته النقدية. استمر في المساءلة حتى خلال فترة الحرب. وأنا أذكر جيداً أني رافقت المرحوم أدمون نعيم عدة مرات الى المقر المؤقت للمجلس النيابي في «فيلا منصور». وكانت تجري مساءلة للحاكم نعيم عن الوضع النقدي والاقتصادي. لكن ومنذ تعيين الحاكم الحالي، اي منذ 1993، لم يساءل مرة واحدة كما يجب وفقاً للأصول.
كيف تقيّم ما يتم تداوله عن حقوق الناس بودائعها التي تبخرت؟
– تتحدث السلطة عن أشياء بطريقة مهينة لذكاء الناس. فكل الرؤساء، بالاضافة الى الحاكم ورؤساء قطاعات مثل رئيس جمعية المصارف ورئيس جمعية التجار… يؤكّدون باستمرار أن همّهم الثابت هو الحفاظ على حقوق المودعين، علماً بان كل كلفة الانهيار، منذ نحو 3 سنوات، وقعت حتى الآن حصراً على المودع وحده.
ما التوزيع الأفضل للمسؤوليات وبالتالي للخسائر؟
– الخسارة توزع مبدئياً على 4 فرقاء: مصرف لبنان والمصارف بالدرجة الأولى، ثم الدولة، وفي المرتبة الأخيرة المودعين. المودع يتحمل أقل بكثير من بقية الفرقاء بلا شك، لكنه يتحمل قسطاً ما لأنه كان عليه التنبه للمخاطر.
مصرف لبنان مؤسسة عامة وهو جزء من الدولة. فأي أموال عليه تحملها هي حكماً أموال عامة. لذا بتنا نتحدث عن 3 فرقاء يتحملون فعلياً الخسائر: الدولة (بما فيها مصرف لبنان)، المصارف، والمودعون.
في ما يخص المصارف فانها تتصرف بشكل معيب. ومعارضتها لخطط التعافي تستند إلى أن هذه تلحظ عادة إعادة رسملة المصارف من قِبل أصحابها، وهذا أمر طبيعي. ومن الضروري تذكير المصارف بانه، ووفقاً للقانون وللممارسات المتّبعة في كل دول العالم، عندما يفلس مصرف ما، عليه اعادة تكوين رأسماله خلال فترة معينة وبشروط مدروسة. بينما المصارف المفلسة في لبنان تريد البقاء في السوق وتمارس عملها من دون تكبد دفع اي مبلغ، وهذا شيء لم نره في أي بلد في العالم!
على المودعين أن يعلموا، أن كل يوم يمر هو يوم يُنهب فيه ما تبقّى من أموالهم، وذلك بالمعنى القانوني والمحاسبي الدقيق. فبالإضافة الى «الهيركات» الذي يتعرضون له عند سحب أموالهم، هناك حقيقة أن المصرف الذي فقد رأسماله أو الذي بات رأسماله سلبياً، عليه اعادة الرسملة، واذا عجز عن ذلك تتم تصفيته. عند التصفية تدرس أصوله لتقييم ما تبقى من قيمتها، واذا شكلت (على سبيل المثال) 40% من اجمالي التزاماته، فان تلك القيمة المتبقية تذهب في معظمها الى المودعين. أما إذا استمر المصرف المفلس في العمل وهو يعلن خسائر، فانه عملياً يخسر مما تبقى من أصوله أو موجوداته يمكن ان يعوض بها على المودع. بمعنى آخر، كل خسارة مصرفية منذ الانهيار هي انتقاص مما قد يحصل عليه المودع في حال التصفية.
اذاً، المودع يخسر بشكل اضافي يومياً بينما ادارات المصارف تمعن في عمليات تشغيل، وكأنها مصارف عادية، تدفع كلفتها من اموال المودعين او مما تبقى منها.
ويجب التذكير بانه عندما يفلس مصرف ما توضع اليد على كل أملاك اعضاء مجلس ادارته اي المالكين وحاملي الأسهم، وتتم ملاحقة هؤلاء في الداخل والخارج.
علاجات الأزمة متروكة حتى الآن لمصرف لبنان، كيف تقيّم ما يقوم به؟
– حاكم مصرف لبنان هو المسؤول الأول عن الانهيار، فاذا بالسلطة تطلب منه هو ادارة ذلك الانهيار! لا مثيل لذلك العبث في العالم. ولا ننسى انه يدافع عن مصالحه الشخصية ومصالح أشخاص في السلطة ويدير الأمور على طريقته الى حين مغادرته للحاكمية. وأنا أقول انه الآن أقوى رجل في الدولة اللبنانية.
كيف يمكن القول أنه أقوى رجل؟
– كيف تسير أمور الدولة اللبنانية حالياً؟ هناك بعض الدعم المتبقي للخبز والادوية والمحروقات، وهذا الدعم يأتي من مصرف لبنان. إلى ذلك، الكل يتصل به ليأخذ منه الموافقة على تمويل حاجة هذه الوزارة او تلك. لذا، فان الحاكم يدير هذه السلطة بشكل او بآخر. ما من وزير أو رئيس لديه ما لدى رياض سلامة من سلطات حالياً، لا سيما وأن الأمر متعلق بالتصرف بالدولارات المتبقية لتستمر الدولة بشكل او بآخر. انه وضع سوريالي، إذ إن المطلوب من المتهم الأساسي لانهيار النظام المصرفي أن يدير ساحة الجريمة وحل لغزها.
أما المصارف فلا تتصرف كمصارف، بل هي الآن أشبه بـ»دكاكين كاش». لا تجري تحويلات ولا تقبل شيكات وبطاقاتها الائتمانية لا تعمل كما يجب، ولا هي تقرض… جلّ عملها قائم على الكاش فقط حالياً.
الليلرة تدمير للمستقبل المصرفي بعد تدمير الحاضر
عما يقوله مصرف لبنان لجهة انه يمكن رد شهادات الايداع الدولارية بالليرة، يؤكد الدكتور توفيق كسبار «أن هذا كلام غير مسؤول وتدمير للمستقبل المصرفي في لبنان بعد تدمير الحاضر». ويسأل: «من سيضع دولاراً واحداً في لبنان مستقبلاً عندما يقول حاكم المصرف المركزي انه اذا وضعتم في المصارف لدينا أو أقرضتمونا دولاراً يحقّ لنا رده بالليرة»؟؟
مخاطر في الحلول المجتزأة
عن ادخال ايرادات الغاز المستقبلية كما مخزون الذهب في الحلول المطروحة لاطفاء الخسائر ورد الودائع، يشير توفيق كسبار إلى طرح الكثير من الحلول المجتزأة التي لا تفيد بشيء، لا بل إن اعتمادها قد ينطوي على مخاطر. فالانهيار كبير ومتشعب ويحتاج الى سلة حلول شاملة متكاملة.
يمكن القول، على سبيل المثال، انه يمكن رهن ايرادات الغاز ضمن سلة حلول، وهذا ينطبق على رهن الذهب ايضاً… هذا اذا اتبعنا خطة كاملة تطرحها سلطة مستقلة فعلياً يواكبها دعم دولي.
الإعلام مسؤول عن تضليل الرأي العام
يستغرب الدكتور كسبار جداً من عدم وجود تفسير رسمي لغاية الآن عن الانهيار المالي والاقتصادي الشامل. ويضيف: “في هذا السياق، أحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية للاعلام في تضليل الرأي العام. في الاعلام المرئي والمكتوب من يمارس التضليل في الشأن الاقتصادي والمالي والمصرفي، وذلك عن قصد غالباً، وذلك بتجاهل كل ما تكلمنا عنه والتركيز على الشعارات. وعدد كبير من هؤلاء يتولّى علناً الدفاع عن حاكم مصرف لبنان من دون الاستناد الى اية وقائع”.