صدر، مؤخرا، كأنما “معايدة” لدولة إسرائيل بمناسبة 59ً عاماً على تأسيسها، كتاب ضخم بالغ الأهمية وقد يشكِّل بداية صحوة اجتماعية أو ثورة اجتماعية في المجتمع الإسرائيلي.
الكتاب بعنوان “انعدام المساواة”. حرره البروفسور أوري رام من قسم علم الاجتماع في جامعة بن غوريون في بئر السبع، والدكتورة نيتسا بركوفيتش رئيسة قسم علم الاجتماع والسياسة والحكم في الجامعة نفسها. وساهم في وضع المقالات العلمية في الكتاب أكثر من ثلاثين باحثاً، وتناولت المقالات: اتجاهات التطور الاقتصادي،توزيع الثروة في الدولة، مدى مشاركة (أو عدم مشاركة) العرب واليهود الشرقيين والنساء، انهيار الأحزاب الأيديولوجية التقليدية، انهيار النقابات “القديمة”، العلاقة بين السياسة وامتلاك الثروة، والعلاقة بين المراكز السياسية والإعلام.
ويصل الباحثان- المحرران، وكذلك عدد من كتاب المقالات العلمية في الكتاب إلى أن إسرائيل تطورت لتصير دولة رأسمالية احتكارية من أقل دول العالم حرصاً على “العدل الاجتماعي” وعلى توزيع “عادل” للثروة، إلى حد أن بعض الكتاب يقولون إن إسرائيل أكثر قسوة ووحشية ضد الفقراء والمسحوقين من الولايات المتحدة الأمريكية ومن بريطانيا، أيام “المرأة الحديدية” تاتشر. وهناك عدد من الباحثين يكشفون، باحتقار، نفاق المؤسسة الحاكمة التي تدعي ” الحرص على العدل الاجتماعي” وضرورة رفع الطبقات المسحوقة “فوق” مستوى “الفقر المهين”!
ويقول البروفسور أوري رام إن الاستقطاب الطبقي الحاد، وتركز الثروة تركزاً حاداً في أيدي قلة ليس في حقيقة الأمر “فشلاً يجب إصلاحه”، بل هو في الحقيقة “نجاح” الرأسمالية الإسرائيلية، فهذا، في الحقيقة، ما سعت ألرأسمالية الاحتكارية إلى تحقيقه!
في الكتاب، في أكثر من مقالة، سخرية لاذعة من استعمال أقطاب النظام الحاكم في إسرائيل لأقوال الأنبياء القدامى والرابانيين المصلحين في القرون الوسطى، الذين كانوا يعظون ويكرزون بإعطاء الفقراء والمحتاجين، والطموح إلى أن “لا يكون بيننا يهود جائعون ومحتاجون”.
إن الرأسمالية اليهودية في إسرائيل أكثر شراسة وأكثر نجاعة رأسمالية من أن يستيقظ ضميرها لسماع أقوال الأنبياء والمصلحين. أحد الكتاب يقول ما معناه إن الرأسمالية اليهودية”ليس لها دين ومرشدها في نشاطها هو الربح والربح والربح”. والحقيقة أن الرأسمالية اليهودية لا تختلف، مبدئياً، عن الرأسماليات الأُخرى، من حيث الجوهر الاستغلالي البشع.
الأهمية الفائقة، لهذا الكتاب أنه ليس كتاباً إقتصادياً، بل هو كتاب ينظر إلى المجتمع الإسرائيلي ويحلله، مستعيناً بأكثرية العلوم الاجتماعية، الاقتصاد، علم الاجتماع، علم النفس، النظام السياسي، مبنى النخب القيادية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، وغير ذلك.
إن هذا الكتاب، لذلك، أشبه ما يكون بمرافعة أكاديمية، اقتصادية –سياسية-طبقية-اجتماعية، ضد النظام القائم في إسرائيل برمته، وليس متركزاً في الاقتصاد فقط.
وفي أحد المقالات هناك تحليل مدهش وموجع حول “موت التضامن الاجتماعي” في ظل الرأسمالية الاحتكارية الإسرائيلية ومقارنة تاريخية بين القِيَم التي كانت سائدة في بداية الاستيطان اليهودي- الصهيوني في فلسطين، وبين القِيَم المختلفة تماماً السائدة الآن، حيث إسرائيل دولة رأسمالية متطورة جداً، متقدمة جداً صناعياً وعلمياً أيضاً، ولذلك انقضى عهد القِيَم “التعاونية” و”الاشتراكية” الصهيونية، وبدلاً من ذلك نمت رأسماية وحشية، وربما زاد في وحشية الرأسمالية الإسرائيلية حالة الحرب الدائمة مع العالم العربي، وحالة الاحتلال الشرس للفلسطينيين، وطناً وشعباً.
الكتاب يشير إشارة شفافة جداً إلى دور الصناعة العسكرية، وانتقال النخبة العسكرية إلى النخبة الصناعية الرأسمالية، كما يتضمن الكتاب فضحاً شجاعاً لحقيقة سيطرة رأس المال الكبير الإسرائيلي على وسائل الإعلام والاتصالات الرئيسية في الدولة، وبينما الإعلام الرسمي التابع للدولة في جفاف وانكماش وانحسار، فإن إعلام القطاع الرأسمالي الخاص هو السائد والمسيطر، سواء في الإعلام الاكتروني أو الإعلام المكتوب.
أريد، هنا، أن أشير، إلى حقيقة معروفة جداً في إسرائيل، وهي أن جامعة بئر السبع، وهي أحدث الجامعات في الدولة، جذبت أكاديميين شباناً كثيرين من اليسار ومن التيارات الأكاديمية”الانتقادية”. وبالذات في مجال العلوم الاجتماعية والاقتصادية، هناك نخبة هامة جداً من الباحثين أصحاب السمعة العالمية ممن يعادون “الرأسمالية المتوحشة” عداء واضحاً، ويروِّجون فكراً نقدياً، معارضاً، إلى درجة أن بعض “كهول” الجامعات الأخرى، يقولون إن جامعة بئر السبع صارت جامعة تجذب إليها الأساتذة المعارضين والنقديين والمتحزبين للطبقات الشعبية المسحوقة ولليهود الشرقيين وللعرب أيضاً.
ورئيس جامعة بئر السبع، خلال 17 عاماً، الذي هو منشئها ومعزز مكانتها في الواقع، البروفسور أبيشاي برفرمان قفز قبل عامين من الأكاديمية إلى السياسة وأصبح عضواً في البرلمان الإسرائيلي عن حزب “العمل” وهو يروِّج في عمله السياسي والفكري لضرورة “ثورة بنيوية” في المجتمع الإسرائيلي لتوسيع توزيع الثروات . وفتح إمكانيات واقعية أكثر أمام أبناء وبنات الفقراء من اليهود الشرقيين والعرب للتغلغل إلى أعلى في الأكاديمية وفي الاقتصاد. إنه ليس اشتراكياً بالمعنى الماركسي الكلاسيكي، ولكنه يفضِّل، وبشكل واضح، التوجه الاقتصادي في أوروبا الغربية على التوجه الاقتصادي الأمريكي، خصوصاً في عهد “المحافظين الجدد”.
إن هذا الكتاب هو أكثر من كتاب، أولاً لأن مجموعة هامة من الأدمغة المختصة ساهمت في الكتابة له، وثانياً لأن الكتاب يحلل المجتمع الإسرائيلي تحليلاً هاماً من زوايا مختلفة، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية،كما يفضح بلا رحمة، تعمق الظلم وتعمق “تركز الثروة” الهائلة في يد قلة احتكارية.
ولعل أهم ما في الكتاب إشارته المبرره علمياً بأن البطالة والفقر واتساع الجوع في المجتمع الإسرائيلي ليس “غلطة” بل هو نتيجة حتمية للنظام السياسي- الاقتصادي الشرس.
هذا الكتاب ينسف الكثير من الأكاذيب، ويشكل مرافعة بالغة القوة ضد النظام السياسي-الاقتصادي- الاجتماعي في إسرائيل
salim_jubran@yahoo.com
*الناصرة