ثمة تناقض في الندوب العاطفية التي خلّفتها كارثة الطائرة الاثيوبية فوق المياه اللبنانية. تناقض وجودي يلخّص وجه إصطدام الحياة بالموت: انه اجتماع الأسى والفرح في آن. وانتَ تذرف الدمعة الحارقة على لوعة الأهالي، لا يمكنك تجنّب الفرح بالنجاة. حتى لو لم تكن، لا أنت ولا احد من اهلك او احبائك على وشك رحيل أو إنتظار. هذا تناقص يفسد فرحتك بالنجاة ويحولها الى ذنب؛ كما يضعف زخم حزنك، وكنت توده عارما، ولو للحظات، تخلّصاً منه. واذا اخذتَ على عاتقك ان يبقى حدادك على الضحايا قائما حتى تُتاح لهم المواراة في الثرى، مثلهم مثل المواطنين الراحلين الآمنين، فعليك تحمّل هذا التناقض في كل لحظة من يومك تتذكر فيها مأساتهم. والايمان هنا لا يكفي: والدليل ان نائبا من الحزب الالهي، بثّ امينه العام على الشاشة كلمة مواسية وواعظة بمعنى «الموت الحق»… نائب من هذا الحزب المؤمن نفسه لا يستطيع ان يقمع فرحته بعدم ركوب الطائرة في اللحظة الاخيرة، ولا ان يقع في موقف التعارض الصارخ مع اطروحات زعيمه الأعلى السياسي الايمانية، عندما يقول للإعلام ان الله «يحبه»، فلذلك «أنقذه من الموت»!
وحدهم المنجمون ومسوّقوهم أعفتهم الضرورات المهنية من هكذا تناقض: فرحتهم لم يشبْها حزن ولا ذنب، بل إنتصار محض. كلهم كانوا ينشدون بصوت حاد: «توقعنا….! توقعنا…. الكارثة!». بحماسة، وفي جميع وسائل الاعلام، وخصوصا الاذاعات. ولما لا؟ يسيطرون على الزمن بمعرفتهم أسرار صيرورته. وان كانوا لا يملكون غير بسط هذه السيطرة، لا وقايتنا من انحرفات هذا الزمن وغدره. هل يصدق المنجمون؟ كي لا يحتاجوا ان يكذّبوا؟
المواراة في الثرى خطوة في مواجهة حقيقة الموت. إن لم ندفن تحت التراب، بحسب تقاليدنا الدينية-الزمنية الألفية، فموتنا وهمٌ، وعودتنا إحتمال. ربما من هنا جاء اختراع الاشباح، أي الارواح الهائمة، التي لم تجد مكاناً ابدياً تسكن فيه. لم يتسنّ للأحياء القطع النهائي بين موتها وحياتها، فتاهت على وجه البسيطة… والقبر فوق ذلك مكان، حيث يحلو للمفجوع أن يبكي أو يصلي أو يتذكّر أو يتأمل أو يشرد؛ نقطة رمزية مقدسة تنظر اليها عين المفجوع لعلّها تطمئن روحه الى حقيقة الموت، الى حتميته. مصيبة أهالي ضحايا الطائرة مضاعفة؛ يفيضون حزنا ويحتاجون الى إيفاء حقّه: وأفضل هذه الحقوق هي بناء نصب تذكاري لضحايا الطائرة المنكوبة، مع لائحة بأسمائهم كلهم، لبنانيون وأثيوبيون وفرنسية وسوري…حيث يجول المفجوعون توسَلا ليقين الموت. فيكون للحداد ساعتئذ معنى ومكان.
طبعا الدولة كانت غائبة الا عن المشهد الاعلامي. التقرّب الاعلامي من أهل الضحايا المفجوعين لم يكن كافياً، وان نجح اعلامياً. مستشارو علم النفس من جمعية اهلية مغمورة حاولوا القيام بنفس المهمة، ولم يكن هناك فضول اعلامي يعلمنا كيفية تجلّي هذه المهمات على الارض، لأول مرة على الارجح. والموضوع ليس في تقصير هذا او ذاك في تقديم التعازي والمشاركة في الهموم، أو في ارجاع الموت الى عصيان كابتن الطائرة… بل في غياب مؤسسات يفترض انها ملتحقة بالنقل الجوي وأمنه، ومزوّدة بموارد بشرية وتقنية وادارية عن كيان الدولة. النجاح الاعلامي لم يستطع ان يخفي الدولة الجوفاء. شيء قريب من هايتي، صاحبة المصيبة الأعظم. ولكن من دون غضب الطبيعة والفقر المدقع والاستبداد. وكما في هايتي، ولكن بحجم أقل، احتجنا الى سفن وغواصات أميركية غربية، خاصة ورسمية، وخبراء ومحققين… وإلا فما عسانا نستطيع فعله لو اردنا انتشال بقايا الجثث والعلبة السوداء؟ حتى الآن الاعلام الذي انشغل بالتفجع وبالمسؤولين لم يقلّ، لم يبحث عن الطبيعة الادارية او التقنية والمالية لكل هذه المؤسسات الرابضة فى مياهنا الاقليمية. ولا حاول صياغة علاقة كل هذه الخبرات والقوى بالـ«دولة» اللبنانية. ما هو تصورها لهكذا علاقة؟ علاقة مع مهيمن قد ينجح ببسط مزيد من الهيمنة؛ وذلك في حال تدخّله لمساعدتنا بالنهوض من كارثتنا؟ مفارقات والتباسات وشىء غائم هنا يسمح بأصوات «السيادة الوطنية» ان تعلو إستنكاراً «لإنتهاكات القوات الاميركية» وحلفائها. وهكذا تعود الحماسة والتعبئة والشعارات! بل يشرّع الباب امام النوادر اياها. من نوع ان الحادثة اصلا كانت مفتعلة، على يد الاميركيين؛ «مؤامرة» يعني، وغرضها قتل مموّل كبير لـ«حزب الله»، كان من بين الضحايا، «ثم إعطاء الذريعة للقوات الاميركية بأن ترسو بحرية على شواطئنا». (سمعت هذه الخبرية عن لسان شابة مثقفة تقرأ الصحف).
بعد المؤامرة والتفجّع والمسؤولين، بماذا انشغل الاعلام؟ او القسم «الناجح» منه؟ بالمعلومات أو الشائعات الرسمية المتضاربة، وبطبيعة التغطيات التي قامت بها مؤسسات اعلامية اخرى لحادثة سقوط الطائرة. فكانت التوضيحات اليومية، والردود، وردود على الردود؛ فيما نجهل ثلاثة أرباع ما يحصل مع السفن الباحثة عن الصندوق والاشلاء. وهذه معْمعة تفيد المزايدات على «السيادة» وإنشغال صحافة إثارة بصحافة أكثر إثارة منها!
المجتمع والاعلام العنصريان: نصف ضحايا الطائرة تقريبا من الاثيوبيات. ومع ذلك كانت مأساتهن ذيلاً من ملحقاته في أحسن الأحوال، أو غائبة تماما عن الصورة في الحالات الأسوأ. هنا التقصير المؤسسي الفاضح. نستقبل أولئك النسوة للخدمة في بيوتنا، وليس في دولتنا ولا مجتمعنا مؤسسة تنظّم وجودهن، أو تحاول ان تنظمه؛ ولا يوجد إطار يجمعهن في مناسبات كهذه. لذلك غبْن عن الصورة. ليس فقط لأن الاعلام عنصري، بل لأن المجتمع أيضاً لا يسأل إلا عن نفسه. لتجد كل واحدة من أولئك المنكوبات، أو اللواتي أضافت الحادثة على غربتهن مزيدا من القسوة، عليك ان تدقّ ابواب الناس، أن يسمحوا لك، أن تستأذن الخ. لذلك بدت الاثيوبيات في الاعلام انعكاساً لما هن عليه في الواقع، في المجتمع: كائنات لا ننظر اليها، لا صورة لها ولا مكان.
كنيسة في حيّ بدارو جمعتهن يوم الاحد الماضي. حيث تمكنّ من البكاء جماعة، والتبرّع، كل واحدة منهن، بـ50 دولاراً اميركياً الى العائلات المنكوبة، وبحسب أولوية المصائب: الأم التي فقدها ابناؤها الأربعة وتربَيهم جدتهم أرسلن لها 10000 دولار، وهكذا. سمو الروح… هل يجذب اعلامنا؟ مجتمعنا؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل