قلبت موجات الربيع العربي المتلاحقة الكرسي الذي اختارت أن تجلس عليه حركة “حماس” الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1993.
وباشرت قيادات الحركة في اجتماعات مكثفة عقدتها في الفترة الماضية في أكثر من عاصمة، مراجعة شاملة لعلاقاتها الإقليمية كرست ابتعادها جغرافيا وسياسيا عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد، حليفها الرئيسي في المنطقة، واقترابها بالنتيجة من الأردن ومصر بخطى متسارعة.
وأفاد قيادي بارز في الحركة swissinfo.ch أنها تخلت نهائيا عن مكاتبها في سوريا منذ مغادرة رئيسها خالد مشعل دمشق على إثر توسع المظاهرات والإحتجاجات ضد حكم الأسد. ويُعتبر هذا القرار أهم تحول في العلاقات بين الجانبين منذ سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزة في منتصف يونيو عام 2007.
وأوضح القيادي الذي فضل عدم الكشف عن اسمه أن الحركة لم تُقفل مكاتبها، لكنها مكاتب فارغة تماما. وأضاف أن السلطات السورية حاولت إقناع مشعل بالظهور في وسائل الإعلام الرسمية السورية لإدانة الإحتجاجات الشعبية، إلا أنه اعتذر بل ونصح مسؤولا سوريا التقاه قبل خروجه من سوريا بالإتعاظ من تجارب تونس ومصر وليبيا واليمن في التعاطي مع مطالب الإصلاح والحذر من تغليب الأسلوب الأمني. وقال القيادي أيضا إن “حماس” كانت منذ البداية مع مطلب الحرية للشعب السوري، إلا أنها لم تكن في وارد الإعلان عن تأييدها لمطالب الإصلاح خشية ردود الفعل على قرابة نصف مليون لاجئ فلسطيني يقيمون في سوريا.
“مرونة وواقعية”؟
كانت خطوة الابتعاد عن دمشق تباعدا واعيا من “حماس” عن “محور الممانعة” الذي تشكل من إيران وسوريا وحزب الله وحماس، وإلى حد ما السودان. وحاول الرجل الثاني في “حماس” ورئيس حكومتها في قطاع غزة اسماعيل هنية التخفيف من وقع تلك الهزة في طهران، من خلال الحرص على زيارة إيران ضمن جولته العربية والإسلامية، وإطلاقه تصريحات مُطمئنة عن تمسك “حماس” بثوابتها المعروفة وتحالفاتها. وفي هذا الإطار، أكد لنا القيادي في “حماس” أن طهران لم تقدم مساعدات للحركة منذ فترة، عدا الدعم السياسي والمعنوي المعروفين.
وأضاف أن التعامل مع إيران تحول إلى بؤرة احتكاك بين حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” التي أبقت على مكاتبها في سوريا مفتوحة. وفيما ابتعد قادة “حماس” عن إيران وسوريا ظل رمضان شلح أمين عام “الجهاد” وزملاؤه في قيادة الحركة، على علاقة متينة مع بشار الأسد والمرشد العام للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي.
والملاحظ أن المحللين الإسرائيليين، ومنهم المحلل العسكري عاموس هارئيل وأفي سخاروف، محلل الشؤون الفلسطينية في صحيفة “هآرتس” التقطوا هذا التحول وفهموه على أنه ميل إلى “المرونة والواقعية” من جانب “حماس”.
تقارب مع معسكر “الاعتدال”
النتيجة المنطقية للقطيعة الصامتة مع دمشق كانت اقترابا من الأردن ومصر على نحو جعل بعض المحللين يتوقعون أن ينتقل مشعل بعد فترة إلى الإقامة في عمان أو القاهرة. ولعب القطريون دورا رئيسيا في كسر الجليد بين عمان و”حماس”، إذ اصطحب ولي العهد القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مشعل إلى الأردن، وحضر اللقاء مع الملك عبد الله الذي كرس طي صفحة القطيعة بين الجانبين.
في هذا السياق، قال المسؤول في “حماس” لـ swissinfo.ch إن بعض الأطراف التي رفض أن يسمّها سعت إلى نسف اللقاء بوضعه في سياق مختلف، إذ “بذلت كل جهدها لفصل برنامج زيارة مشعل عن زيارة ولي العهد القطري، وعملت على أن يقتصر اللقاء الرفيع على الملك عبد الله والشيخ تميم فقط، فيما يكتفي مشعل بالإجتماع مع رئيس المخابرات الأردنية، من أجل نزع أي طابع سياسي لزيارته الأولى إلى عمان منذ القطيعة التي استمرت ثلاثة عشر عاما. واعتبر المصدر أن تلك “الخطوة الإلتفافية” كانت ترمي لتعطيل المصالحة التي بنت عليها “حماس” آمالا بمعاودة فتح مكاتبها في الأردن بعد انقطاع مديد.
وفي خط مواز للتقارب مع الأردن قطعت الحركة خطوة جديدة في التقارب مع مصر على رغم الإشكالات التي طفت على السطح من حين إلى آخر بسبب الخلاف على تزويد قطاع غزة بالطاقة أو العلاقات مع اسرائيل. واستطرادا كان طبيعيا أن تنعكس العلاقات الجديدة مع عمان والقاهرة تقاربا مع حركة “فتح” المنافس اللدود لـ”حماس”.
وفي هذا السياق، تم الاجتماع الذي ضم محمود عباس وخالد مشعل في الدوحة، وقد لعب القطريون دورا أساسيا في جمع الإخوة الأعداء على مائدة الحوار، ولم يتردد رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” في التوقيع على اتفاق المصالحة، بعدما ناقش بنوده وعدل بعضا منها. وعلى خلاف ما أكده المعارضون للإتفاق داخل “حماس”، وعلى رأسهم محمود الزهار الذي انتقده بشدة علنا، قال المصدر لـ swissinfo.ch: “إن مشعل حرص على وضع قيادات الحركة في صورة المفاوضات الجارية مع عباس وأخذ ملاحظاتهم في الإعتبار لدى بحث بنود الإتفاق”، واستدل على ذلك بأن غالبية القياديين عبروا عن دعمهم له إن لم يكن في التفاصيل فعلى الأقل في الإتجاه العام.
مناخ ربيعي
القيادي في “حماس” عزا التحول في سياسات الحركة التي قربتها مما يُسمّى بمعسكر الإعتدال إلى مفاعيل الربيع العربي الذي أتى بحكومات كانت على علاقة متينة سابقة مع الحركة قبل وصولها إلى الحكم، وخاصة حركة “الإخوان المسلمين” في مصر وكذلك جماعة الإخوان في سوريا.
وأدى بروز حركات الإسلام السياسي في أكثر من بلد عربي بعد الثورات إلى تعديل في تعاطي الإدارة الأمريكية مع تلك الحركات، إذ باتت تنظر إليها بوصفها تيارا براغماتيا وفتحت قنوات الحوار معها، لا بل هي تراهن على بناء علاقات كاملة معها، ما سيؤدي ربما إلى تعديل الموقف الأمريكي المتشدد من “حماس”، وإن تدريجا.
وفي معلومات مصادر مطلعة، يبدو أن واشنطن شجعت التقارب بين “حماس” والأردن، وشجعت أكثر ابتعاد الحركة عن سوريا وبرود علاقاتها مع إيران وحزب الله. واستطرادا من المرجح أن تكون واشنطن تنظر بعين الرضى للتقارب بين “حماس” و”فتح” على رغم مناهضة اسرائيل الشديدة لتلك الخطوة واعتبارها “خطرا مصيريا” عليها.
“وثيقة” مُثيرة للجدل
في مقابل هذه التطورات، تعثر التقارب بين الحركتين مع نشر مواقع إخبارية موالية لـ “حماس” ما سمتها “وثيقة” قالت إنها تكشف النقاب عن اجتماع أمني ضم مندوبين عن المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والمصرية والأردنية إضافة إلى مخابرات السلطة الفلسطينية، وكان يرمي لتشديد الحصار على قطاع غزة، إلا أن مصادر “فتح” نفت مشاركة السلطة الفلسطينية في الإجتماع.
وكانت “وثيقة” حماس عبارة عن تقرير قالت إن مدير جهاز المخابرات الفلسطيني اللواء ماجد فرج أرسله إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتضمن ملخصا عن أعمال الإجتماع الذي قد يكون عُقد في العاصمة الأردنية عمان لبحث الأوضاع السياسية والأمنية في قطاع غزة.
وبحسب مصادر “حماس” تم الإتفاق خلال الإجتماع على تشديد الخناق على القطاع بما في ذلك تقسيط إيصال الوقود والمواد الطبية في إطار تصعيد الضغوط على الحركة لحملها على الإعتراف بالإتفاقات الموقعة بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية. أما في الشق العربي فقيل إن “الوثيقة” تضمنت تعهدا من دول عربية بتصعيد الضغوط على “حماس” لوقف إطلاق الصواريخ من غزة وتعزيز التعاون الأمني بين الدولة العبرية ومخابرات بعض الدول المجاورة، والذي شمل السماح لقوات مصرية خاصة بالدخول إلى سيناء والسيطرة على خطوط إمداد القطاع بالوقود للضغط على حكومة “حماس”. وبناء على تلك “الوثيقة” اتهم عضو المكتب السياسي لحركة “حماس” خليل الحية السلطة الفلسطينية بالضلوع في أزمة الكهرباء بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية والأميركية وبعض المخابرات العربية، وهدد بنشر أسماء المشاركين في الإجتماع. غير أن “فتح” نفت تلك الاتهامات وأكدت أن الوثيقة مُختلقة.
في الوقت نفسه، لعبت فصائل فلسطينية في مقدمتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين دورا نشطا في احتواء الأزمة ومنع العودة إلى المربع الأول بين التنظيمين الرئيسيين “فتح” و”حماس”. وتحركت أيضا شخصيات تقف على مسافة متساوية من التنظيمين لوقف التصعيد الإعلامي مؤكدة أنه لم يعد هناك مجال للإلتفاف على اتفاقي الدوحة والقاهرة بين الحركتين. وشددت تلك الشخصيات على أنه لا يجوز لـ”حماس” السيطرة على القطاع وفصله عن الضفة، كما لا يجوز للسلطة أن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين في غزة.
في المحصلة، يمكن القول أن “حماس” تعيش مخاضا قد يمهد لتحول في استراتيجيتها الإقليمية بعد مراجعة علاقاتها مع النظام السوري، وما ترتب عليها من استتباعات في العلاقات مع حليفي دمشق (أي إيران وحزب الله)، في مقابل تقارب حثيث مع كل من الأردن ومصر قد يُتوّج بنقل قسم من مكاتب الحركة إلى أحدهما أو الإثنين معا، في سياق خط براغماتي جديد يُعتقد أنه يمهّد لحوار رسمي مع واشنطن بعدما كانت الإتصالات السابقة تتم خارج الأطر الرسمية، إلا أن اسرائيل لا تبدو على استعداد للتعاطي الإيجابي مع أي ميل فلسطيني إلى الإعتدال، حتى وإن خرج للتو من عباءة “الممانعة”.