“اضغط هنا لرؤية الخرائط المنشورة في الأصل مع هذا المقال.”
“على جثثنا!” عبارة قالها نجيب الخطيب باللغة العربية عندما هممت بالخروج من سيارتنا في الغجر، وهي تلك القرية الخلابة التي يقسمها خط حدودي إلى جزئين بين مرتفعات الجولان الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، ولبنان. “لا يخبرنا أحد بأي شيء!” خرجت من فمه تلك الكلمات وذراعاه يخفقان في الهواء كالحكم في مباراة لكرة القدم الأمريكية وهو يشير إلى احتساب هدف مثير.
وقد نلتمس للخطيب، كل العذر في تحيته هذه التي تفتقر إلى اللباقة. والخطيب هو الناطق الرسمي باسم سكان قرية الغجر التي يبلغ عدد سكانها حوالي 2000 نسمة. إن إسرائيل التي تتولى إدارة القرية كمنطقة عسكرية، لا تسمح للأجانب عادة بالدخول إليها. ولقد وصلْتُ — برفقة مجموعة من المحللين الإسرائيليين ومسؤولين من الأمم المتحدة بجانب مجموعة من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي — لمناقشة قضية تعني الكثير بالنسبة للخطيب: إنها كابوس قرية الغجر المتمثل في الغموض الحدودي والإقليمي. ويعزى السبب في غضب الخطيب إلى قيام الأمم المتحدة بتقديم خطة لحل هذه المشكلة من خلال وضع الحي الشمالي من قرية الغجر تحت السيادة اللبنانية، وليس السورية. وبالنسبة لسكان هذه القرية، الذين لا يزالون متمسكين بالولاء الشديد لأبناء عمومتهم من السوريين، هناك ارتياحاً قليلاً من استبدال العلم الإسرائيلي الذي يحمل نجمة داود بالعلم اللبناني الذي يتميز بشجرة الأرز.
احتلت إسرائيل قرية الغجر في تموز/يوليو 1967، بعد شهر واحد من استيلائها على مرتفعات الجولان من سوريا. وعلى عكس معظم المجتمعات الدرزية التي تسكن الجولان، قَبِل سكان الغجر الجنسية الإسرائيلية عندما قامت الكنيست بالتصويت على ضم الجولان في عام 1981، لكنهم استمروا في إصرارهم على أن قريتهم ليست في الحقيقة إلا جزءاً من سوريا.
عندما سحبت إسرائيل قواتها من لبنان عام 2000، قام رسامو الخرائط التابعون للأمم المتحدة برسم خط حدودي مؤقت بين الدولتين، سمِّي بـ”الخط الأزرق” كان يمر عبر قرية الغجر. هذا، ولم يتمكن رسامو الخرائط التابعون للأمم المتحدة من دخول القرية [في ذلك الحين] بسبب التوترات بين القوات الإسرائيلية و «حزب الله». وفي أعقاب إنسحاب قوات جيش الدفاع الإسرائيلي إلى جنوب “الخط الأزرق”، تركت الحدود في القرية غير محصنة حتى لا تؤثر على الحياة اليومية هناك. وبدلاً من ذلك، قامت بتشييد سياج أمني جنوب القرية وبه بوابة يعبر من خلالها سكان القرية إلى المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية في مرتفعات الجولان. ولبعض الوقت، كانت الحياة في قرية الغجر جيدة: إذ أصبح السكان يتمتعون بالحرية في إعادة إرساء بعض أسس الإستقرار [في حياتهم] بعد حرب العصابات طويلة الأمد التي دارت بين «حزب الله» وإسرائيل في جنوب لبنان، كما قام الكثير من أولئك السكان بترميم منازلهم وشراء سيارات جديدة.
وبعد ذلك، وفي هجوم كان هو الأكثر تهوّراً منذ الإنسحاب الإسرائيلي، شن «حزب الله» غارة غير ناجحة داخل قرية الغجر في تشرين الثاني/نوفمبر 2005، لإختطاف جنود إسرائيليين. وبالنسبة للإسرائيليين، أكد ذلك الهجوم بأن قرية الغجر كانت هي المنطقة الأضعف في دفاعاتهم على طول الحدود مع لبنان.
وعندما نجح «حزب الله» في اختطاف ثلاثة جنود إسرائيليين في منطقة أخرى على “الخط الأزرق” وتسبب في إشعال حرب في تموز/يوليو 2006، قامت إسرائيل باحتلال قرية الغجر بالكامل، ونسفت مقر قيادة تابع لـ «حزب الله» في الركن الشمالي الشرقي للقرية، وأعادت إنشاء سياج أمني يبعد حوالي 500 متراً شمال “الخط الأزرق” على طول الأطراف الشمالية للقرية. ومنذ ذلك الحين، بقيت القوات الإسرائيلية في المنطقة المعروفة حالياً باسم “الحي الشمالي” من قرية الغجر. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة قد أوجدت حلاً للمخاوف الأمنية الإسرائيلية، إلا أنها جعلت إسرائيل في وضعية [متوترة] تتمثل بانتهاك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، وهي الإتفاقية الدبلوماسية التي أنهت الحرب الإسرائيلية اللبنانية عام 2006، والتي تدعو إلى إنسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان.
ووفقاً لخطة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (“اليونيفيل”)، سوف تسلِّم إسرائيل المنطقة بين “الخط الأزرق” والسياج الأمني الشمالي بقرية الغجر إلى إدارة الأمم المتحدة. وسوف يقوم ضابط الإتصال اللبناني مع قوة اليونيفيل برفع العلم اللبناني فوق أجواء “الحي الشمالي”، بما يتيح للبنان بسط سيادتها على هذه المنطقة المتَنَازَع عليها إلى أن يتم التفاوض بين بيروت ودمشق حول البت النهائي المتعلق بالسيادة عليها. لكن هذا الأمر، في جوهره، يعني الانتظار لأجلٍ غير مسمَّى: ومع استمرار كون مرتفعات الجولان تحت السيطرة الإسرائيلية، تستمر الحاجة إلى مباحثات السلام الإسرائيلية السورية للتفاوض بشأن البنود الخاصة بإعادة الجولان إلى سوريا. وحيث أن سوريا وإسرائيل لا تتواصلان بشكل يسوده التفاهم، قد يحتاج الأمر لبعض الوقت حتى قبل أن تشارك قرية الغجر بحدود مع الأراضي السورية.
وعلى الرغم من أن خطة قوات اليونيفيل مباشرة وواضحة نسبياً، إلا أن معظم الأمور الأخرى بقرية الغجر ليست كذلك. فالخطيب ورفاقه الآخرون من القرويين بقرية الغجر ينتمون للطائفة العلوية، وهي الفرقة الأقل شهرة بين الفرق الشيعية المسلمة، والتي تهيمن على نظام الأسد في سوريا. وخلال حديثي مع الخطيب، لاحظت عيناه بلونهما المرقط الأخضر-الضارب إلى الزرقة، وهي سمة تشابه بصورة مذهلة تلك التي يتميز بها إخوانه السوريين – لكن لهجته العربية تختلف عنهم تمام الاختلاف. وحين ذكرت هذه الحقيقة، كشَفَت لي نظرات التحديق الساكنة التي ظهرت على وجه الخطيب دافعاً آخر يقف وراء هذا الولاء المطلق من جانب القرية لسوريا: الخوف. فإنهم إذا أظهروا أي علامة تردد عن طموحهم النهائي في إعادة الإندماج مع سوريا، فسوف يعاقَبون على ذلك بلا شك إذا آلت السيادة على القرية إلى السلطات السورية في نهاية المطاف.
كما تركز الغجر أيضاً على استمرار التواجد الإسرائيلي في المنطقة بسبب المزيد من المصالح الآنيَّة. فتحديد القرية على أنها قرية سورية في مرتفعات الجولان يعني أن سكان الغجر سيتمكنون من مواصلة الإستفادة من الخدمات التي تصاحب الجنسية الإسرائيلية مع الإبقاء على إمكانية إعادة الجولان وسكان قرية الغجر إلى السيادة السورية في يوم ما.
وفي الوقت نفسه، يظل الشك يسيطر على مشاعر الإسرائيليين حيال جيرانهم بقرية الغجر. فمن المعروف أنه، قبل عام 2006، كان «حزب الله» يقوم بنقل المخدرات إلى إسرائيل عن طريق هذه القرية. لكن الأمر الذي لم يرغب في مناقشته الإسرائيليون الذين كانوا يرافقونني، كان بشأن التقارير الإعلامية التي تفيد بأن تجار المخدرات الإسرائيليين — ومعظمهم من الجالية العربية الإسرائيلية — قدَّموا معلومات استخباراتية حيوية عن الجيش الإسرائيلي والمواقع المدنية إلى «حزب الله». وتلك هي النقطة التي دفعت الإسرائيليين إلى الشك بأن التمويل الخاص بشراء سيارات جديدة وعمل تحسينات منزلية في قرية الغجر كان مصدره «حزب الله».
إن لدى الإسرائيليون أيضاً سبباً للشعور بالإنزعاج حيال هذه السابقة التي نتجت عن إنسحابهم. فعلى الرغم من أن وضع المنطقة المتَنَازَع عليها تحت وصاية قوة اليونيفيل يبدو عملياً، إلا أنه ينطوي على تضمينات خطيرة: فللمرة الأولى، سوف يتم وضع مواطنين إسرائيليين تحت إدارة الأمم المتحدة – وهي سابقة يمكن أن يتم تطبيقها في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان.
ومما يجعل هذا الأمر أكثر تعقيداً هو أنه لا يبدو أن أحداً يعلم أين ينبغي أن يكون الخط الحدودي. فالفرنسيون، خلال فترة “وصايتهم” على لبنان وسوريا في الفترة بين الحربين العالميتين، لم يقوموا بترسيم الحدود اللبنانية-السورية، مما أوجد التباساً إقليمياً يستمر حتى يومنا هذا. وقد قام رسامو الخرائط التابعين للأمم المتحدة برسم “الخط الأزرق” من نقطة في الشمال الشرقي لقرية الغجر إلى نقطة تقع على منعطف نهر الحاصباني ناحية الجنوب تماماً من نبع الوزاني، الذي يمثل مصدر المياه بالنسبة لقرية الغجر. وبعد ذلك، خلال فترة لاحقة، أكَّد رسام الخرائط الإسرائيلي آشير كوفمان بأن الخط الحدودي يجب أن يُرسم إلى نقطة تقع في مكان ما شمال نبع الوزاني، مما يعني أن جزءاً أقل بكثير من قرية الغجر يمكن أن يبقى داخل الأراضي اللبنانية إسمياً.
ولإثبات الوضع الخاص بالقرية، أخذنا الخطيب في جولة. وحين بدأت قافلتنا المكوَّنة من سيارات وشاحنات في التحرك عبر البلدة، لاحظت أن الغجر ليس فيها أية علامة من العلامات القياسية للإسلام في العالم العربي – كالمساجد أو المدارس الدينية أو النساء المحجَّبات – مثلها في ذلك مثل القرى العَلَويَّة الموجودة على الساحل السوري. “لقد عبرنا الخط !” صاح الخطيب بتلك الجملة عند نقطة معينة، وعلى ما يبدو كان ذلك بصورة عشوائية. نحن الآن، في نظر المجتمع الدولي، في لبنان.
وصرخ الخطيب، وهو يقفز تقريباً من مقعد سيارته، قائلاً “هناك!” وأشار من فوق كتفي إلى ما بدا واضحاً أنها منازل سوداء من حجر البازلت ترجع إلى الفترة ما قبل عام 1967. وأخذ يؤكد لي ما أخبرني به اللبنانيون في القرى المجاورة في الأسبوع الماضي: الشيخ محمد، الشخصية البارزة محلياً وجدّ نجيب الخطيب، هو الذي قام ببناء هذه المباني في منتصف فترة الخمسينات من القرن الماضي كما قام بتسجيلها لدى وزارة الداخلية السورية. ويتمسك الخطيب بهذا الأمر كدليل على أن السيادة السورية على هذه الأرض كانت قبل عام 1967. ووفقاً للخطيب، يجب أن يوضع الخط الحدودي على مسافة 500 متراً شمال السياج الأمني الحالي.
لقد تم التوصل إلى تفاصيل خطة اليونيفيل لبسط السيادة على القرية من خلال اجتماعات ثلاثية الأطراف بين قوة اليونيفيل وإسرائيل ولبنان – وهي نقطة الاتصال الوحيدة بين حكومتيّ الدولتين منذ انتهاء حرب عام 2006. فيما فتح الإنسحاب المقتَرَح باباً من التساؤلات القانونية المحتملة الخطيرة: هل يمكن لإسرائيل أن تزوِّد جزءاً من لبنان بالطاقة الكهربائية؟ وماذا سيحدث إذا تعرض أحد القرويين في الشمال لحالة طبية طارئة واحتاج إلى العلاج في إسرائيل؟ وما هي الحقوق القانونية التي يتمتع بها سكان الحي الشمالي أمام المحاكم الإسرائيلية؟
سوف يعتمد نجاح الإنسحاب الإسرائيلي بشكل كبير على رد فعل النخبة السياسية اللبنانية. وطبقاً لبعض السياسيين اللبنانيين، ستُظهر عودة قرية الغجر بأن الجهود الدبلوماسية مع إسرائيل تؤتي ثمارها، مما يقوِّض من قصة المقاومة التي يسردها «حزب الله». لكن عندما قامت إسرائيل بتسريب خبر بأنها تستعد للإنسحاب من قرية الغجر قبل الإنتخابات البرلمانية اللبنانية في 7 حزيران/يونيو 2009، في محاولة منها لدعم كتلة «14 آذار» بقيادة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، قام «حزب الله» وحلفاؤه باتهام إسرائيل بالتدخل في السياسات اللبنانية الداخلية. فهل سيقوم الحريري، الذي يترأس حالياً حكومة تضم أعضاء من «حزب الله»، بامتداح الإنسحاب الإسرائيلي كنصر لـ”المقاومة” أم أنه سيتحدث فقط عن “التحرير”؟
وتأمل واشنطن في أن يكون الإنسحاب الإسرائيلي أيضاً خطوة صغيرة للمساعدة في انتشال إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما من موضوع آخر من المواضيع الشائكة: عملية السلام في الشرق الأوسط. إن الجهود الدبلوماسية الخاصة بقرية الغجر، يمكنها أن توفر قوة دافعة للمباحثات ثلاثية الأطراف، وتؤدي إلى إعادة بعث “لجنة الهدنة الإسرائيلية-اللبنانية المشتركة” – تلك الهيئة التي كانت تهدف مراقبة وقف إطلاق النار في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، والتي اجتمعت لآخر مرة في عام 1978 للتعامل مع الغزو الإسرائيلي للجنوب اللبناني. وحتى حليف «حزب الله»، العماد اللبناني ميشيل عون، يقف مؤيداً لهذه الفكرة، مع التحذير بأن تكون الهدنة “مؤقتة، وربما تمتد لفترة تبلغ حتى 10 سنوات”. ويمكن أن تكون “لجنة الهدنة الإسرائيلية-اللبنانية المشتركة” منطَلَقاً جيداً لوضع حل لحالة النزاعات الإقليمية المتبقية بين إسرائيل ولبنان، والتي تستخدم من قبل «حزب الله» كذريعة لتبرير الإحتفاظ بسلاحه.
بعد مرور 30 دقيقة ونحن في قرية الغجر، أشار جنود جيش الدفاع الإسرائيلي إلى أن قافلتنا قد جذبت الكثير من الإنتباه وقد حان الوقت للعودة. وبينما كان الخطيب يصافحني، سرَت رجفة في يديه. وقال “تذكََّر، على جثثنا” وبينما كنا نتجه إلى البوابة الأمنية، كانت هناك مجموعة من الأطفال الصغار، بشعرهم فاتح اللون وأعينهم المشابهة لعيني الخطيب، قد تكدَّست خارج مدرسة القرية الواقعة على الحد الذي ينبغي أن يمر منه “الخط الأزرق”. وحين أبطأت سيارتنا للسماح لهم بالعبور، سرعان ما تحولت ابتساماتهم الخالية من الهموم إلى عبوس وتجهُّم. ففي هذه القرية الحدودية الصغيرة حيث نادراً ما تكون الأمور كما تبدو بالفعل، بدا هؤلاء الأطفال وكأنهم يعرفون أن الجثث التي كان الخطيب يتحدث عنها، من الممكن جداً أن تكون جثثهم هم [وليس غيرهم].
أندرو جيه. تابلر هو زميل سوريف في برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.