عادت معظم الصحافة المصرية، بما فيه “كتّابها الكبار” (حتى علاء الأسواني!!)، إلى حالتها “التعيسة” في زمن مبارك! معظم ما نقرأه، حتى في الصحف “المستقلة”، لا يخرج عن نطاق “الحرب النفسية” التي يقودها الجيش ضد “الإخوان”، ويستند إلى حجج وذرائع تستفزّ العقل والمنطق السليم وتتعارض مع منطق القانون والدستور وحقوق الإنسان!
إنقلاب الجيش على “حلفائه” من “الإخوان المسلمين” أطاح بـ”الإخوان”، وهم كارثة على مصر وعلى البشرية، ولكنه أطاح معهم بـ”السياسة”، أي بالمجتمع المدني، وبالأحزاب المعارضة الناشئة التي لم نعد نسمع لها صوتاً (أين “جبهة الإنقاذ” اليوم، مثلاً؟)، وأطاح بـ”القضاء” الذي كان قد بدأ يشكل “نموذجاً” لبلدان الربيع العربي. كذلك أطاح بجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان التي لم تتحرّك بعد مجازر القصر الجمهوري ورابعة العدوية وغيرها…! وأطاح بـ”الصحافة” المصرية التي كانت بدأت تصبح صحافة حرّة بعد سقوط مبارك.
أسوأ ما في الموضوع هو أن قسماً من ثوار الأمس اعتبر نفسه متضامناً مع وزارة الداخلية ومع الجيش بدون أدنى حس نقدي! وكان يمكن حتى لمؤيدي الإنقلاب أن يأخذوا موقفاً نقدياً، من “المجازر” على الأقل، ومن محاولات “تخوين” البرادعي وأبو الفتوح أولاً، ثم القيادات الشبابية لثورة مصر (حمزاوي وغنيم و..) كما يحدث منذ أيام! (بالمناسبة، الدفاع عن “حقوق الإنسان والمواطن” ضد ارتكابات وزارة الداخلية والجيش هو الذي يشقّ صفوف أنصار “الإخوان”، وليس العكس).
(تنبيه: “الإخوان” وقسم من “الجهاديين” ينفي علاقته بحرق الكنائس (رغم أنهم حرّضوا وما يزالون يحرّضون ضد الأقباط) ويتّهم وزارة الداخلية! فهل طالب أحد بتحقيق جدي لمعرفة إذا كان هنالك قدر ولو ضئيل من الصحة في ما يقوله “الإخوان” وحلفاؤهم حول عدم مسؤوليتهم عن الحرائق والإعتداءات؟ أليس ممكناً، نظرياً على الأقل، أن يكون للأجهزة المصرية دور ما في الموضوع؟)
وجهة النظر التالية لـ”ابراهيم الهضيبي” في “الشروق” المصرية تخرج عن “الصف العسكري” للصحافة المصرية الحالية ولذلك ينشرها “الشفاف”.
*
في نقض حتمية ما جرى
البعض يتصور أو يصور لنفسه أن ما يحدث الآن مما يبدو أنه إفشال للثورة كان حتميا، ولم يكن ثمة سبيل لتجنبه، وبالتالي فالنظر في أسباب ما وصلنا اليه والإشارة للأخطاء هو إهدار للوقت، وأنا أرى هذا الكلام باطلا، لأنه يخلط بين إرادة إفشال الثورة (وهي موجودة عند بعض الأطراف من اليوم الأول لها من دون شك) والقدرة على ذلك، وقد كانت شديدة الضعف في أول الأمر، ثم قويت بسبب أخطاء (لا تدخل في رأيي ضمن إطار سوء التقدير، وإنما تسبب فيها الكبر والطمع والصلف الذي كانت عليه قيادة الاخوان أساسا وأطراف أخرى معها من دون شك)، ويكفي – في المقدمة – للتدليل على أن هذه القدرة لم تكن موجودة أن مبارك أجبر على التنحي، وأن الذي فاز بانتخابات الرئاسة لم يكن مرشح نظامه.
كما أن الجماهير لم تكن ضد الاخوان ولم تكن تسعى لإفشالهم من أول يوم؛ نعم كان هناك من يسعى لذلك، لكن مثلا أول دعوة لمليونية ضد مرسي في أغسطس ٢٠١٢ والتي جاءت بدعوة من محمد أبو حامد لم يستجب لها أكثر من ١٥٠٠ شخص، ولا يحتج بتأثير الإعلام (مع الاعتراف بما في بعضه من مشكلات) لأن الإعلام كان موجودا قبل الثورة، ووقت المظاهرات ضد مبارك، وخلال الانتخابات الرئاسية، ولم يؤت هذا التأثير، ولان الفرق الأساسي بين الوضع قبل الثورة وبعدها أن الإسلاميين صارت لهم بعدها منابر إعلامية لم تتوفر لهم قبلها.
وخطورة ادعاء الحتمية تتمثل في أنه أولا يوفر غطاء للقيادات والتنظيمات التي أوصلتنا لما وصلنا اليه لا يحميهم من المحاسبة فحسب، وإنما يترس الناس معهم باعتبار أنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان وأنهم حاولوا جهدهم ووجهوا بتحديات مستحيلة، كما أن خطورة هذا الأمر انه يمنع من التفكير المنضبط في سبل الخروج من الأزمة واستعادة الثورة
وهذه نقاط سريعة فيها بعض مواطن الاختيار، التي كان سلوك مسالك مغايرة فيها سيؤدي لنتائج مختلفة
– قرار الاخوان تقديم مرشح للرئاسة: أي رئيس من خارجهم كان سيجعلهم قوة معارضة، تدفع – بسبب المصالح التنظيمية – في اتجاه التطهير وإصلاح مؤسسات الدولة، وكان ساكن القصر – غير المستند لتنظيم يحافظ عليه – سيضطر للاستجابة لذلك، كما أن فرص بناء تحالف واسع يعيد هيكلة هذه المؤسسات كانت ستكون أعلى بكثير لو لم يكن الاخوان في الحكم (مناقشة الأسباب هنا خارج الموضوع، لكن القطعي أن فرص التعاون بين أبو الفتوح وخالد علي والبرادعي وحتى حمدين كانت ستكون أعلى في حالة وجود أيهم في السلطة) بما يعني إمكان الدفع باتجاه إعادة الهيكلة على قاعدة وطنية واسعة تكون مقاومتها أصعب من ضغط يأتي من جهة الاخوان (على افتراض انه حصل، ولكنه لم يحصل أصلا في تقديري، إنما أراد الاخوان لما صعدوا سدة الحكم أن يرثوا دولة مبارك مع بغض التغيير في الآليات)
– تعيين اول حكومة والذي جاء فيه عدد كبير من الوزراء من رجال مبارك، لان الرئيس لم يرغب في تقديم التنازلات لمعارضيه السياسيين ليشتركوا في تطهير وإصلاح أجهزة الدولة، وفضل على ذلك أن يتقاسم السلطة مع الموجودين فيها من العسكر والفلول، بالإضافة للكفاءة الضحلة للوزراء القادمين من جهته، كل هذا افقده تدريجيا القوى الثورية، فلم يجد الزخم الشعبي الذي يستطيع به مواجهة شبكات المصالح في أجهزة الدولة الرامية لإفشاله (من قبل انتخابه كتبت وكتب من هم أدرى وأعلم مني كثيرا أن الرئيس سيواجه بتحديات تتعلق بملفات الطاقة والخدمات والأمن القومي والسلام الاجتماعي سيفتعلها الراغبون في استعادة الأوضاع القديمة، وان السبيل الوحيد لتجاوز تلك التحديات هو بناء تحالف شعبي يقوم على تنازلات حقيقة من مرسي تدرك خطورة هذه التحديات وأن السبيل الوحيد للتعامل معها هو الاستناد لقاعدة شعبية عامة لا تنظيمية، وقلت وقتها أن مرسي يحتاج للحلفاء لا لدخول القصر، وإنما بعد دخول القصر، ولكنه اختار غير ذلك، اختار أن يترك الجميع على الباب ويدخل القصر وحده، مع أهله وعشيرته، حتى المستشارين الذين اختارهم من خارج التنظيم تواترت رواياتهم أنهم كانوا ديكورا، ولم يستشاروا، ولم يسمع لرايهم، أن المستشارين من الاخوان كانوا وحدهم ذوي الصوت المسموع)
– الإعلان الدستوري: خرج به مرسي منصبا نفسه سلطانا بلا قيد، بزعم حماية الثورة، رغم أن هذا الإعلان تجاوز القضايا الأهم والمتعلقة بتطهير مؤسسات الدولة خاصة الأمنية منها وإعادة هيكلتها، وإقرار مشروع جاد للعدالة الانتقالية، وإعادة النظر في هياكل الأجور والاستجابة المطالبات الاجتماعية (كان فئات كثيرة قد اضربت في هذا الوقت أو هددت بالاضراب، منها الأطباء مثلا الذين لم يطلبوا أن تتحمل الدولة أي موارد إضافية لهم، وإنما أن يعاد النظر في هياكل الأجور، وان تكون هناك خطة واضحة يتفق عليها لرفع الإنفاق على القطاع الطبي، وان تؤمن المستشفيات حتى لا يتعرض الأطباء للاعتداءات التي عانوها لسنة أو يزيد، وقرر مرسي إلا يستمع لهم)، تجاهل الإعلان هذا كله وقام بتحصين قراراته من المراجعة القانونية، وبعزل النائب العام (الذي دعت أكثر القوى الثورية لعزله) مع تمكين نفسه من أن يختار – منفردا- البديل (بدلا من أن يكلف المجلس الأعلى للقضاء بذلك)، وتسبب هذا الإعلان لأول مرة في اقتتال بين المصريين، حول حالة رفض الاخوان إلى كراهية، وسمح بإعادة الفلول للمشهد، وهو ما قاومه بعض المعارضين، كخالد علي وأبو الفتوح الذي رفض الانضمام لجبهة الإنقاذ بسبب وجود الفلول فيها، غير أن الاخوان وقتها اختاروا شيطنة الجميع، ومعاملتهم باعتبارهم كلهم فلول، وكلهم يحاربون الشريعة (لا تنسى مظاهرة الشرعية والشريعة)، فساهموا في إيجاد منافذ لعودة قوية للفلول للشارع، بعد أن أعادوهم للسلطة والوزارة قبل ذلك.
– بعد اول دعوة من السيسي للحوار الوطني في ديسمبر، رفض كثيرون هذه الدعوة باعتبارها تدخلا للجيش في الشأن السياسي، واتصل كثر بالرئاسة يطالبون أن يدير الرئيس حوارا جادا يعصمنا من التدخل العسكري، لكن الرئيس ظل على حواراه الديكورية، يتكلم مع أنصاره والأطراف الهامشية، ويتسابق مع خصومه في تسجيل النقاط على بعضهم البعض، واستمر في تجاهل حركة الجماهير الغاضبة في الشارع والمستقلة عن القيادات السياسية (بورسعيد نموذجا)، أما تعامله مع السيسي فقد اختار – فيما يبدو – أن يتعامل معه بمنطق “الدعوة الفردية” التنظيمي، فكان كلام “العارفين ببواطن الأمور” ممن تكلمت معهم من الاخوان عن خطر عودة العسكر أن كله تحت السيطرة، ومرسي والسيسي صارت بينهما علاقات أسرية وتزاور والرئيس الحكيم يرى ما لا نرى ويعرف ما لا نعرف ويدير بحكمة بالغة، والكلام في هذا الموضوع يطول، لولا أن المقام ليس مناسبا
– في ديسمبر انتهى تقرير لجنة تقصي الحقائق التي تنظر في كل الجرائم حتى تولي مرسي الحكم، وكانت في التقرير أدلة تتعلق بأحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود، واحتفظ مرسي بالتقرير على مكتبه لم ينشره ولم يرسل منه ما طلبت بعض المحاكم إرساله (كما في قضية مجلس الوزراء)، كما أن الدستور ساهم في تقوية المؤسسة العسكرية، التي اختار الحكام أن يرضوها بدلا من الانحياز للمستضعفين، وسكتوا على استمرار المحاكمات العسكرية للمدنيين، ولو كانت تشكلت لجان جادة مستقلة للعدالة الانتقالية (وهناك مشروعات جادة تقدمت للرئاسة في هذا الإطار، سعى المستشارون من غير الاخوان وتحديدا الدكتور سيف عبد الفتاح والدكتور سمير مرقص تفعيلها، ولا اعرف تفاصيل إفشالها غير أن المحصلة النهائية هي أن هذه جميعا لم تر النور أبدا) لكان الوضع مختلفا
حتى الأحداث المؤدية ل٣٠ يونيو وما بعدها، لم يكن أي شئ منها حتميا، وساسرد بعض الاختيارات مرة أخرى، لعلها تشكف كيفية تطور الأمور ، مع ملاحظة أني لا أتحدث هنا إلا عن اختيار مختلفة كان سيؤدي لنتيجة مختلفة
– مؤتمر سوريا، وما شكله من استفزاز للكثيرين، لمجلس الدفاع بسبب اتخاذ قرار يتعلق بمجال اختصاصه (الذي حدده له أعظم دستور عرفته البشرية) من غير الرجوع اليه، وللمؤسسات الأمنية القلقة من آثار إرسال مدنيين لسوريا، يتعلمون حمل السلاح ويقاتلون ويقتلون، ثم يعودون إلى مصر، ولكثيرين استفزهم تبعية الموقف المصري للموقف الأمريكي،وللمؤسسة الدينية الرسمية في مصر التي رأت الرئيس يحيط نفسه بالبعيدين تمام البعد عن المنهج الأزهري، وللمعارضين الذين استمع الرئيس لأحد الدعاة يدعو عليهم، غيرهم
– الاجتماع السري لمناقشة قضية سد النهضة، والذي لا يحتاج تعليقا، إذ كيف يصدق عاقل بعدها أن هؤلاء لهم قدرة على إدارة ملفات الأمن القومي؟ ومثل هذه الأمور ذات تأثير على القرار لا في الشارع فحسب، وإنما في مؤسسات الدولة كذلك، إذ يزداد كفر العاملين فيها (من غير “المفسدين” و”المتآمرين”) بجدوى العمل مع هذه القيادة السياسية
– الإصرار على عدم إقالة حكومة هشام قنديل، التي طالب الجميع – بمن فيهم حزب الحرية والعدالة – باقالتها، وعدم مطالبة النائب العام بالاستقالة (والكلام عن ترفع الرئيس عن التدخل في القضاء هنا سخيف، لانه طلب قبلها من عبد المجيد محمود الاستقالة، فلم يكن الأمر ليكون سابقة)، مع عدم المكاشفة بأسباب هذا التعنت
حتى بعد ٣٠/٦، افتراض أن ما يحدث من وقتها للان كان حتميا يتجاهل وجود أجندات متصارعة في المعارضة (التي صارت سلطة)، بين أجهزة أمنية عقيدتها القمع، وأطراف مدعومة خليجيا تسعى للسحق، وأطراف سياسية كانت تريد فقط الإخراج من السلطة، ومؤسسة عسكرية موقفها مركب بسبب طبيعتها، وان اختيارات الاخوان، والتصعيد غير المبني على رؤية محددة، ساعدت دوما في تقوية الطرف الذي يريد المواجهة الشاملة والإقصاء الكامل
– بعد ٣٠ يونيو لم يدع مرسي لاستفتاء، ولو فعل لقطع الطريق على “التدخل العسكري”، ولكنه اثر سلامة التنظيم الذي يتفتت بالنقد الذاتي عند الفشل الجماهيري، ويتوحد عند الإحساس بالتهديد، فاختار أن يكون الخروج بيد الجيش في ٣ يوليو لا بيد الجماهير في ٣٠ يونيو، وان يلغي هذا المشهد الجماهيري تماماً من المشهد ومن الوعي (وصل الأمر للكلام المضحك عن انه كان فوتوشوب!!!) للحفاظ على التماسك التنظيمي
– يوم ٣ يوليو دعي الكتاتني للاجتماع الذي حضره السيسي وشيخ الأزهر والبرادعي وتواضروس، ولم يحضر…لا أقول انه كان ينبغي له أن يحضر، وإنما أقول أن غيابه كان معبرا عن تصعيد غير مرتبط برؤية واضحة، وأنه جاء بتكلفة عالية جدا ولم يتحقق في مقابل ذلك أي شيء، بل على العكس: ازدادت بسبب المواجهة شرعية الدولة العسكرية، فلا الجماعة اختارت تصعيدا مدروسا يحقق لها بعض ما تريد، ولا هي قبلت بالوضع القائم وسعت لتقليل الخسائر من خلال القبول بالعروض التي أعلنت في الأيام اللاحقة للثالث من يوليو، من بيانات للجيش اعتبرت الاخوان فيصلا وطنيا وأكدت على عدم الإقصاء، وطلبات الحكومة ترشيح الاخوان لوزراء، كل هذا يؤكد أن المسار الذي نسير فيه الآن لم يكن حتميا، وإن كانت نتيجة لاختيارات ومواقف الأطراف الفاعلة.
– اختار الاخوان بعد ذلك اللعب باخطر الكروت، وهو ادعاء وجود انشقاق في الجيش (اول اسبوعين لم تكف الاشاعات عن انشقاق في الجيش الثاني والثالث وغير ذلك) والجيش هو الآخر تنظيم كالإخوان، يحتاج تماسكه لشيطنة الآخر، ففعل، وهو ما جاء على هوى أطراف في الإعلام ومؤسسات الدولة، فمهدت الطريق للجرائم البشعة التي ارتكبت بحق المتظاهرين (وهي عندي جرائم لا عذر فيها، وينبغي أن يحاكم ويعاقب كل من تورط فيها)، وصار كلا الطرفين يشيطن الآخر