من أبرز شروط تحقيق الديموقراطية في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، فصل الدين عن الدولة. وتؤكد التجارب على أرض الواقع أنه في ظل الدولة الدينية، أي في ظل النظام الإسلامي وتشريعاته، لا يمكن بأي حال من الأحوال تحقيق الديموقراطية، والدليل هو أن القائمين على تلك الدولة والمدافعين عنها يرفضون بالمطلق فصل الدين عن الدولة، بمعنى أنهم يرفضون سيطرة الديموقراطية الحقيقية لا المزيفة على المجتمع، الديموقراطية التي تأخذ مشروعيتها من الأرض لا من السماء ولا من المقدس. فمن شروط تحقيق الديموقراطية الحقيقية، تداول السلطة استنادا إلى تباين شكل نظام الحكم من اشتراكي إلى ليبرالي إلى غيره من صور الأنظمة البشرية. ويرفض الديموقراطيون منطق الوصاية المقدسة، السياسية والثقافية والاجتماعية، كذلك يعارضون إطلاق يد القانون الديني غير البشري الذي يزعم بأنه ينفذ أوامر الشريعة المنطلقة باسم السماء. فمن يعيش في ظل النظام الديموقراطي عليه القبول بما تفرزه آلية الديموقراطية من نظام حكم شريطة القبول بالتنوع السياسي والاجتماعي والثقافي، وعدم الرضوخ لنظام حكم سماوي من شأنه أن ينقلب على الديموقراطية وأسسها في نهاية المطاف. فالدولة التي تحكم باسم السماء، وتهيمن باسم السماء، وتلغي الآخر باسم السماء، وتعطي الحق لنفسها بأن تكون وصية على شؤون الناس باسم السماء، وتشرعن العمل لأنصارها وتمنع المخالفين لها، كل ذلك باسم السماء، ولا تؤمن بالحرية والمساواة، ولا بالتعددية واحترام حقوق الإنسان، هذه الدولة لا يمكن أن تؤمن بالديموقراطية ولو ادّعت ذلك.
يقول البعض إن انتشار الثقافة الديموقراطية بين أفراد المجتمع شرط أساسي لتحقيق الديموقراطية الحقيقية. إن ذلك لا يعني بأن على جميع الأفراد أن يكونوا ديموقراطيين لكي تتحقق الديموقراطية. فشرط تحقيق الديموقراطية، باعتقادي، هو في سيطرة مؤسسات المجتمع المدني على شؤون المجتمع، شريطة قبول تلك المؤسسات بالديموقراطية كآلية لحل الخلافات وكحَكم لمواجهة النزاعات. ولو لم يكن حضور مؤسسات المجتمع المدني المؤمنة بالديموقراطية قويا في المجتمع، لما استطاعت الديموقراطية أن تنشأ وتنهض وتستمر.
أيضا من شروط تحقيق الديموقراطية، إيجاد نوع من التوازن بين القوى في المجتمع. فالديموقراطية لا يمكن أن تكون آلية لحل الخلافات في ظل استثنائها بعض القوى ومنحها حق النقض (الفيتو)، أو إعطاء هذه القوى حق التدخل في مختلف المسائل والشؤون للتأثير عليها. وإذا ما سيطر التوازن، توازن القوى، على المجتمع حينها يجب الاختيار بين طريقين: إما أن تدخل جميع القوى في صراع عنيف لتسيطر قوة واحدة على جميع الأمور وتعطي لنفسها امتيازات استثنائية تكون بمثابة إلغاء للأطراف الأخرى، أو أن يتم إلغاء الصراع العنيف واختيار طريق التوازن مما يؤدي إلى وصف المباحثات بأنها آلية للوصول إلى حل للنزاع ومخرج لتوزيع المصالح استنادا إلى تنوّع القوى في المجتمع.
يمكن القول إن المواطنة في علاقتها بحقوق الإنسان هي أكبر اختبار لمعارضي فصل الدين عن الدولة، وهي أحد المسائل الأساسية التي يدافع عنها الديموقراطيون ويعتبرونها شرطا رئيسيا من شروط تحقيق الديموقراطية. في حين أن معارضي فصل الدين عن الدولة لا يزالون يرفضون هذا النوع من المواطنة، إذ لا يزالون يميّزون بين المسلم المتديّن والمسلم الليبرالي أو العلماني، وبين المسلم السني والمسلم الشيعي، وبين المسلم وغير المسلم، وبين الرجل والمرأة، وبين الحر والعبد. في حين أن مؤيدي فصل الدين عن الدولة يرفضون جميع تلك التصنيفات ويعتقدون بأن لا تمييز في المواطنة بسبب الجنس أو العرق أو الديانة أو المذهب أو التوجهات الفكرية، بمعنى أنهم مدافعون عن التنوع الديني والثقافي والجنسي فيما يتعلق بالمواطنة، وهو ما يهيئ الأرضية لتحقيق الديموقراطية.
إن التنوع يناهض الاستبداد الديني وغير الديني. فإجبار المرأة على لبس الحجاب لا يختلف عن إجبارها على نزع الحجاب، في حين أن الأمر الأكيد أنها هي التي يجب أن تحدد نوع ملبسها. بمعنى أن ثقافة التنوع تسمح للمرأة بأن تقرر ما تريد أن تلبس، لا أن تقرر الثقافة السماوية ذلك، أو تقرر الثقافة العلمانية ذلك، وهو ما حصل في إيران والسعودية وتركيا، وما يذهب إليه بعض النواب الإسلاميين في مجلس الأمة في الكويت. فهؤلاء جميعا يعارضون فكرة أن المرأة هي مالكة نفسها، وأنها هي التي تقرر بكل حرية شكل ملبسها ونوع حشمتها، الأمر الذي يتماشى مع الشأن الديموقراطي القائم على فصل الدين عن الدولة ويتعارض مع الشأن الديني المستند إلى الوصاية.
إن المناوئين لفصل الدين عن الدولة يسعون في ظل الديموقراطية في الكويت لأن يمنعوا التنوع الثقافي تحت ذريعة محاربة الفساد ومواجهة الأفكار “الدخيلة” التي “تتنافى مع العادات والتقاليد”، في حين أن التنوع، الذي كما أسلفنا يعتبر أحد شروط تحقيق الديموقراطية، هو دعوة لقبول الآخر بكل ما تعنيه هذه الكلمة، الآخر الكويتي المختلف في الدين والمذهب والنوع والعرق والثقافة والهوية وأساليب الترفيه وغيرها. ففي العقدين الأخيرين برزت بعض الظواهر المعبرة عن التنوع الثقافي والاجتماعي في الكويت، لكن تيار عدم فصل الدين عن الدولة أبى إلاّ أن يعتبر ذلك من الأمور الدخيلة على المجتمع الكويتي حيث وصفها بالمفسدة التي من الواجب القضاء عليها. لكن ذلك لم يتم ولن يتم، لأنها أصبحت جزءا من الواقع الكويتي المتنوع. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ظاهرة اللادينيين، واللاأدريين، والصوفيين. فإذا كنا نؤمن بالتنوع في ظل الديموقراطية لابد من طرد فكرة إلغاء الآخر لمجرد أن هذا الآخر يختلف مع نهج وثقافة عدم فصل الدين عن الدولة. فلا النهج اللاديني فاسد ولا النهج اللاأدري ولا الصوفي أيضا. ففي الديموقراطيات لابد من تشجيع التنوع لا معارضته أو تحديده من أجل عيون القوى الدينية ومصالح القوى السلطوية. وعلى جميع الديموقراطيين إعلان معارضتهم للجهود الساعية إلى مناهضة التنوع الثقافي الكويتي الجديد، الجهود المتخفية تحت لافتة مواجهة الفساد، في حين أنها ليست سوى مسعى للوصاية على المجتمع والسيطرة عليه وعرقلة سيره نحو الديموقراطية الحقيقية القائمة على فصل الدين عن الدولة أو فصل الشأن السماوي عن الشأن البشري.
إن الديموقراطية الحقيقية القائمة على فصل الدين عن الدولة كفيلة بمعاقبة القيادات والرموز السياسية الفاسدة، حتى وإن كانت تلك الرموز تنتمي إلى المؤسسة الدينية، إذ لا تبالي بما يسمى “العقيدة الفاسدة” لهذا السياسي مادام لم يصدر منه أي سلوك سياسي واجتماعي فاسد. في حين أن نهج عدم فصل الدين عن الدولة ينظر عكس ذلك. فـ”المتديّن” في الكويت ينجح في الوصول إلى كرسي البرلمان مرات عدة حتى لو كانت توجهاته داعمة للفساد السياسي. بمعنى أن “التديّن” أصبح لدى أنصار عدم فصل الدين عن الدولة هو المعيار للفوز بعضوية البرلمان، والأمثلة على ذلك كثيرة. في حين أن الديموقراطية الحقيقية القائمة على فصل الدين عن الدولة ليس من مهامها التدخل في “عقائد” الناس، بل لا تستطيع تغيير تلك “العقائد” تحت حجة مواجهة الفساد، وإلا تحولت إلى “محاكم تفتيش”، إنما مسؤوليتها تكمن في معالجة أوجه الفساد السياسي في المجتمع وتشجيع التنوع الثقافي والاجتماعي. بمعنى أنها تستطيع أن تمنع المفسدين السياسيين من الاستمرار في مناصبهم، لكنها غير معنية بـ”الفساد العقائدي” لأنها غير وصية على عقائد الناس باستنادها إلى نهج فصل الدين عن الدولة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com