منذ عاد جمال عبد الناصر من حرب فلسطين بعد حصاره في الفالوجا حسب تأريخ المؤرخين فلم تكن له من خبرة عسكرية الا بكيفية التعرض للهزيمة. فأتت معاركه العسكرية جميعها بعد هذا التاريخ بنفس النتائج كسنة لا تفارقــه الي ان اضاع البقية الباقية من ارض فلسطين في مغامرة عسكرية في عام 67. المفارقة ان كل هزيمة مع الخارج كان يخرج منتصرا وقويا علي الداخل. فتاريخ وتراث الناصرية معظمه تحت السطح لم يخرج بعد الي النور، تآمرا من اصحابه وليس لاسباب أخري، لكن من الجزء الطافي منه ومن نتائج سياسة الفترة الممتده من يوم انقلابه العسكري الي يوم مماته يمكن منها استنباط كثيرا مما خافي علينا.
رفع الفلسطينيين صورتة باعتباره المخلص ويرفعها البعض في بلاد اخري تدعي العروبة. ولم يدركوا انه خدع الفلسطينيين كما خدع المصريين وكل من آمن بالناصرية. بل ومارس التضليل علي قادة دول عدم الانحياز والاتحاد السوفييتي والصين. في ذلك الزمن لم يكن هناك احد غير منحاز. فالعالم مقسم بين ايديلوجيات متعارضة ويصطف وراء كل ايديلوجية كتلا سياسية. فاوروبا باتت علي حلم الاشتراكية الدولية الثانية وامريكا بالراسمالية والليبرالية، اما الشرق فكان مقسما الي اكثر من اشتراكية. فالصين لها نظامها الماوي الذي تعادية به اشتراكية السوفييت. وعلي ارض اوروبا الشرقية كان هناك اسري كملك يمين لا يقلون مهانة عن اسري موقعة بدر، فالسوفييت اخذوا أعضاء حلف وارسو رهنا. وكان هناك اسري في امريكا الوسطي الجنوبية لصالح امريكا الامبريالية. اما في اقصي الشرق فاليابان ومعها كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج كانوا ضمن المعسكر الامريكي.
كان زعيم يوليو 1952 ليبراليا وراسماليا وغربيا عندما طلب تمويل السد العالي من البنك الدولي اي من امريكا. وانقلب اشتراكيا عندما يحتاج السلاح لدعم نظامه أو إذا ما احرجه الامريكيين بسحب التمويل لعدم ثقتهم في نظامه. لم ينقلب الزعيم مدافعا عن الطبقات الكادحة بين ليلة وضحاها الا لانه انقلابي في طبيعته وليس عن قناعة بالفكر الجديد. فكان مصريا عندما اكتشف ان هناك فساد في الداخل المصري يحتاج الي معالجة بالانقلاب علي السلطة ثم انقلب عروبيا ينشد الوحده مع نظم بدائية تحالف معها الامريكيين وبها فساد وبربرية تزكم الانوف.
لم يكتفي الرجل بحل كل التشكيلات السياسية المصرية لتتحول الطبقات الاجتماعية، حسب تنصيف الاقتصاد السياسي ليبراليا او اشتراكيا، الي بلازما بشرية. عمل وعملت معه حكومات العرب علي تحطيم الصناعيين وكبار الملاك للاراضي او رؤوس الاموال وتم منعهم من التوسع الاقتصادي لئلا يزداد نفوذهم فيشاركوا او يطالبوا بالاشتراك في السلطة وصنع القرار. لم يكن التاميم او التمصير او اشتراكيته العربية طريقا للعدل الاجتماعي بقدر ما كانت سدا وحاجزا لمنع اصحاب الاملاك ورؤوس الاموال من المشاركة في السلطة وصنع القرار. لهذا فعندما حل السلم بالجميع حسب ما هو حادث الان فاننا نجد ارضا فراغا وفضاءا خاويا لا مكان فيه الا للسماسرة.
بعد حل اعمدة الدولة واصبح المصريون كتلة جماهيرية من اللحم الذي بلا وعي، فسال لعابة علي ما يطلق عليه الامة العربية لان هناك من اوحي له بانها شعوب من القطيع تسمع فتطيع وبلا عقل، تؤمر فتنفذ وتنصت للوعود الغرائزية وبجنات اللذة ولا يمكنها محاسبة من وعدها لو لم تفي بوعودها. فهل هناك من شروط افضل تشجع اي مستبد كعبد الناصر لئلا يتبني العروبة. فالعروبة له حسب ما سبق هي مغارة ملئ بالكنوز وليس مشروعا للتقدم. لهذا فليس غريبا ان تكون علاقاته بالحكام العرب قد حكمتها الشتائم والسباب ونتف اللحي وسب الامهات لسلب الشعوب من حكامها.
يخدع الطاووس المشاهدين له بزهو الوانه وانتفاش رياشه، فجعل الزعيم الثوري مؤسسسته طاووسية المظهر. فالمنفذين لسياسته العسكرية او السياسية تمت ترقيتهم من رتب دنيا الي رتب تضاهي الفيلدمارشال. خطبه كلها رنانه بها ازهي انواع السب والشتم لامريكا والغرب. دخل الزعيم بطووايسه المارشالية حروب السويس واليمن وحرب 67. كان قائدا فذا مثله مثل القائد الضرورة في ارض الرافدين. مع فارق واحد ان نهايته التي وضعتها له القوي الدولية باجماع كانت اكثر رأفة به كطاووس من النهايات الاخري المحتومة في صباح عيد الاضحي.
أما السوفييت، وبغباء غير مسبوق ناصروه رغم علمهم انه لم يكن اشتراكيا او حتي إصلاحيا انما حاكما مستبدا. كان الزعيم مفضوحا أمام السوفييت عندما وقف ضد عبد الكريم قاسم مشهرا به وبنظامه ليوفي بدينه للامريكان بعد ان انقذوه من ورطة السويس. ولم تفوته فرصة غزو السوفييت للمجر، فدارت مطابعه لتوزع علي المدارس والجامعات كتيبا احمر بلون الدم، صفحاته كلها صور ومشاهد دموية لما جري للشعب المجري من الدبابات السوفيتية. وبانتهازية تفوق البرجماتية الامريكية ناصروه فانقلب عليهم بوضع الشيوعيين في السجون. زيارات الرفيق خروشوف جرت وكانت تسبقها حملات القبض علي الشيوعيين. فالسوفييت مثلهم مثل الاسلاميين يبحثون عن الخرائب باعتبار سكانها وقود مشتعل للفوضي او لاعتناق الدين الحنيف. دخلوا افغانستان رغم خلوها عن اي تشكيل اجتماعي ذو نمط انتاجي واضح الملامح والطبقات فكان الاسلام اكثر كفاءة منهم في سحب النخاع من عقول الافغان لصالحه لانهم علي بدائية اجتماعية تبعد كثيرا عن اي تشكيل انتاجي أو حتي وجود مدني عقلاني.
كانت اخبار قتل الشيوعيين في سجون عبد الناصر تاتيه وهو في اجتماعاته من القادة الاشتراكيين في العالم. ووصل خبر مقتل شهدي عطيه اليه وهو في حضرة الاشتراكي جوزيف بروز تيتو، يجالسه ويتحدث معه عن تحرر الشعوب ويشرب نخبها رغم حرصه علي الظهور في صلاه الجمعة والاعياد وبث صورها في صدر صحف تنظيمة الوحدوي. فهل كان يهين تيتو ام ان غباء اجهزته الطاووسية كانت تورطه بدون خجل او حياء. لم تكن صوره الكثيرة مع القادة السوفييت تقول شيئا مثلما اوحت للقارئ اكبر واهم صورة في صدر الصحيفة القومية الاولي حيث يظهر الزعيم وبجانبه قائده العسكري الفذ الفيلد مارشال عبد الحكيم عامر يجلسان في تواضع باكبر مسجد في موسكو لصلاة الجمعة (الصورة اعيد نشرها في نهاية القرن الماضي بجريدة الحياة اللندنية لا سباب لا تخفي علي لبيب).
في ليلة 23 يوليو 1952 كان الانجليز يحتلون مصر متمركزين علي ضفتي قناة السويس أي علي الطريق من القاهرة في اتجاه فلسطين. ومع ذلك تحرك الجيش المصري عابرا فوقهم وحتي الحدود الدولية !!!!! بعد العودة طيب الامريكان خاطر الضباط فانشأوا لهم تنظيم ثوري سري في الجيش في صيف 1949. كان التنظيم كخلية عنقودية من تنظيم اكبر هو الاخوان المسلمين. نضجت الفكرة وبزغت البراعم لانها زرعت في تربة الاخوان المسلمين التي انشأها الانجليز غداة صدور كتاب في الشعر الجاهلي. البراعم من امثال جمال عبد الناصر، وكمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، وعبد المنعم عبد الرءوف، وأنور السادات، وعبد الحكيم عامر، وعبد اللطيف بغدادي، وزكريا محيي الدين، وجمال سالم. وبطريق الخطأ دخل بعض المشكوك في ايمانهم امثال ثروت عكاشة، ويوسف منصور صديق. وحققت لهم القوي المتواجدة والفاعلة اضغاث الاحلام ليلة ٢٣ يوليو، ثم قرروا انهيارها في كابوس يوم ٥ يونيو ١٩٦٧. بينهما لعب الزعيم دور القائد والملهم والبطل وارتدي كل الازياء وتحدث بكل اللغات الانتهازية والاشتراكية والليبربالية والنازية والفاشية. لم يخطأ ولو مرة فظلت كلماته كلها مصوبة الي قلب الاستعمار والامبريالية والرجعية والالحاد والشيوعية.
بعد أن فض السوريون الوحده معه اصابته لوثه، قرر ان يضع منافستو علي طريقة كارل ماركس أو ملحمة كالاياذة والاوديسا. فوقف وقرأ اطول وثيقة امام جماهير الامة باسم الميثاق كمنافستو اشتراكي. وقال فيها ما لم تقوله الاشتراكية السوفيتية او الماوية انما الليبرالية الراسمالية حيث قال بالحرف: إن حرية الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية.
طبق الزعيم ونظامه ديموقراطية الميثاق بالتاميم والمصادرة وتكميم الافواه ومصادرة الكلمة والراي الي حد تحديد تكلفة دخول المرحاض العمومي في ميادين القاهرة. وفي العام 1968 وبعد مظاهرات الطلبة وهتافهم بكلمات لم يسمعها الزعيم من قبل خرج ليقول في خطبة شهيرة لا اعتقد ان هناك من نسيها، ليرد بها علي الطلبة ومن والاهم في المظاهرات قائلا ” الديمقراطية هي رغيف الخبز”. وباسرع من البرق تغيير اساس الميثاق الاشتراكي الليبرالي من ان ” حرية الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية” لتصبح “الحرية هي رغيف الخبز”. الم نقل انه كان انقلابيا.
لم يربط الزعيم الحرية برغيف الخبز الا بعد ان تاففت الجماهير من افعاله خاصة بعد محاكمات الطيران وسقطت اشتراكيته وبدأ يقدم التنازل للغرب الليبرالي للفكاك من اسر الهزيمة. منذ تلك اللحظة اكتشفنا ان الامور كلها في زمن الثورة كانت مرهونة بالفوضي وبغريزة البقاء في السلطة وباستخدام اي شعار يمكن المرور به من وسط الزحام. مرت سنتين بعد هذه الايه الناصرية الكريمة ومات الزعيم دون صدور كلمة حرة من اجل الديموقراطية او امتلاك رغيف خبز. لم يمهله القدر وقتا كافيا حتي تتمدد الديموقراطية الناصرية ولئلا تتطرق فلسفته الي مناطق اخري علي امتداد الخط المستقيم الراسي الواصل بين اللسان والمعدة. راجعوا كتابات وخطابات فيلسوفه الصحفي الجرنانجي الذي تبرزه قنوات خليجية حديثا باعتباره مفكرا وسياسيا وله تجربة حياه، لاكتشفنا غياب لفظ الديموقراطية كليه لا لسبب الا لانهم منذ ليلة 23 يوليو لم يعرفوا هل هي مرتبطة بالكلمة ام بالخبز.
عند السوفييت اصدقاء عبد الناصر اختفت الكلمة لانه لا لزوم لها ولم يكن الخبز هو شاغلهم انما البطاطس لاختلاف انماط التغذية عن الشعوب. وعندما اشتدت الازمة لديهم بدأ التندر علي الانجازات الفكرية والانجازات الانتاجية. ففي زيارة للزعيم الشيوعي الاول في الحزب الي مزارع البطاطس واستعراض الانتاج اخبره المسؤول الاول عن المحصول ان إنتاج هذا العام قد غزيرا الي حد انه لو وضعناه في كومة واحده لوصل ارتفاعه الي الله في السماء. رد زعيم الحزب، كيف ذلك ونحن نعرف انه لا يوجد شئ اسمه الله. فاجاب المسؤول عن الانتاج الزراعي ولا يوجد لدينا ايضا محصول للبطاطس.
كان الجميع يكذبون علي انفسهم فلم يكن احدا منهم اشتراكيا وهو يطحن الخبز او يزرع البطاطس ولم يكن احدا منهم يحترم الكلمة ويسمع ما يقوله الاخرون. هزموا جميعا وسقط من سقط. وما زال الموهومين منهم يحتفلون بالذكري ويتمنون عودتها.
elbadry1944@gmail.com
* كاتب مصري
في ذكري العام التعس 1952
محمد — ms.ismail58@gmail.com
الكاتب محمد البدري يحلل التاريخ المصري بعد الثورة، وكذلك شخصية جمال عبد الناصر، وفق أحدث النظريات السوسيولوجية التي ابتكرها نجم مصر الأوحد في هذا العصر شعبان عبد الرحيم. وكلنا أمل أن نرى، ونقرأ مزيدا من هذا الإبداع الشعبولي
في ذكري العام التعس 1952 غياب “القمني” عن هذا الموقع هو بلا شك (ايجابية) للموقع وما هو اكثر ايجابية هو انتقال “القمني” الى موقع “الحوار المتمدن” الذي يحوي “كتابا” اكثر من القراء؟! .. ويستفتي رواده – مؤخرا – عن رأيهم بجوزيف ستالين , ليجمعوا (آليا) على انه “ديكتاتور : بالبنط الرقيق” و(لكنه بنى دولة : بالبنط العريض)؟! , ويعلن بوضوح (وتخلف وتقوقع لا يستحي) انه (اجندة يسارية علمانية) .. فصيرورة “الحوار المتمدن” باتت واضحة , وكذلك منقلبه الأخير . على الرغم من ان الالمانية (اديداس adidas) احتكرت الاعلان في مونديال جنوب افريقيا كمنافسة في السوق الرياضي وصاحبة خبرة اوسع باللعبة… قراءة المزيد ..