لا يختلف إثنان في طرابلس أو في لبنان حول وقع كلمة “التل” (أو باللغة الدارجة “الداون تاون”)على أسماع الطرابلسيين. بعضهم من جيلنا، لـ”التل” عندهم وقع رومانسي، ويعرف أهميته التاريخية، اقتصاديا وتراثيا وسياحيا واجتماعيا وحتى نضاليا.
منه تدلف نحو ساحات الكورة والنجمة وصولا لجانب من الأسواق القديمة والجامع المنصوري الكبير. ومنه تذهب باتجاه السرايا العتيقة وشارع الكنائس قبل أن تنعطف باتجاه خان العسكر أو كنيسة مار جرجس وجانب آخر من المدينة المملوكية.
أمّا إذا ذهبت في الإتجاهات المعاكسة بجانب قصر نوفل والمنشية، فأنت مخترق حتماً لبولفار شهاب الذي احتضن في السابق أهم دور السينما في لبنان. ويمكن أن تتابع باتجاه عزمي والثقافة ومار مارون والمطران وصولا لميناء الطرابلسيين الذي له في ذاكرتهم مكانة خاصة، بحرا وأفقا وأحياء، وحتى زواريب، أو باتجاه المصارف ورياض الصلح وشارع الكزدورة، أو ربما باتجاه ساحة كرامي وانعطافا باتجاه المعرض وطرابلس الجديدة التي اقتلع باطونُها ما تيسر من أشجار أضفت على المدينة لقب الفيحاء. ورغم الحزن الذي يلف معرض طرابلس، فإن الراحل نيماير يُشكر على تحفته المعمارية والتي حمت محيطها من انتشار خلايا سرطان الباطون.
وفي كل الحالات أنت شاهد على تاريخ وتراث وثقافة ضاربة في عمق التاريخ ومندرجاته، حتى لو لم تذهب أيضا لـ”نهرأبوعلي” وأحيائه صعودا عبر الأدراج نحو القبة المتراجعة عن مجد عمراني أو نحو “التبانة| المتهالكة من فرط ما عانت، أو حتى لو لم تستكمل من الجهات الاخرى باتجاه طينال وباب الرمل وأبي سمراء التي تحولت من منتزه وارف إلى كتل خرسانية تعمي الأبصار.
ربما هذا ما دفع كثير من الكتاب الشماليين، بالمرور دوما في “التل” وأدراجه ومتفرعاته، كما فعل خالد زيادة والثنائي عطية-كيال وخضر حلوة والأخوين طلال وصفوح منجد ونزيه كباره وخزندار. و”التل” يظهر أيضا في خلفية بعض روايات جبور الدويهي، وكثر ممن أنجزوا كتبا أو دراسات أو مقالات شكّل قلب المدينة شغلهم الشاغل.
و”التل” اجتذب بساحاته معظم الحراكات السياسية والتظاهرات السيارة والطيارة والتي كان ركابها ينتشرون بعد انتهائها نحو الأسواق القديمة أومقهى التل العالي أو نحو البولفار ومقاهيه وسينماته أوعزمي ومتفرعاته.
فلا غرابة إذن أن تتجه أنظار معظم الطرابلسيين نحو هذه البقعة الإستثنائية التي مازالوا يَرَوْن فيها مساحتهم الأساسية والجزء الأغلى من هوية مدينتهم رغم حداثتها النسبية، ورغم تراجع أدوارها وتغير نسيجها الإجتماعي، وانتقال الجزء الأكبر من أهلها ووظائفها إلى أماكن واحياء أخرى من المدينة وأقضيتها.
لذا تشكل هذه المساحات في “التل” ومحيطه محورا دائما وأساسيا في حوارات وحراكات وحتى مطارحات منوعات الطرابلسيبين، ممن اصطلح على تسميتهم بـ”ناشطي المجتمع المدني”.
والمجتمع المدني هو مصطلح حديث نسبيا وحمال أوجه إلى حد كبير، ابتدعه علماء الاجتماع بعد تراجع الحركات اليسارية وبرامجها التغييرية لصالح مبادئ أولية في الحقوق على أنواعها والحريات على أنواعها والسيادة على أنواعها. خصوصا بعد ظهور النيوليبرالية واستشراسها في إدارة التوحش الرأسمالي المعولم والنتائج الكارثية لهذا الإستشراس، خصوصا في النظم المستبدة.
وإذا كانت المجتمعات المتقدمة تعاني من إشكالية نسبية في حراكات المجتمع المدني خصوصا في الموقف من المشاريع الكبرى، رغم صمود الحركة الحزبية الكلاسيكية بعد، فلنا أن نتوقع حجم المعاناة في فصل الأهلي عن المدني والنقابي عن السياسي في مجتمعاتنا. وفي لبنان ورغم الحداثة النسبية في نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والأكاديمية، فإنّ وصول الإنقسامات المذهبية لمستوياتِ انشطارية يهدد كل حركة مدنية بالتشظي نحو حركات أهلية بالمعنى السلبي إجمالا، سواء مباشرة أو تداعيا.
وفي طرابلس يتحول الخلط بين المدني والأهلي واستطرادا السياسي (أو ما دون السياسي) الى ظاهرة، خصوصا انها تتغذى من عوامل عدة. فطرابلس تعاني من ازدواجية المدينة والقرية، خصوصا بعد الأثمان المضاعفة التي دفعتها منذ الحرب الأهلية ومرحلتي التوحيد الإسلامي والإحتلال السوري البغيضتين.
وإذ لاحت للمدينة بوادرالتقاط الأنفاس في الحركة السيادية المنبثقة عن انتفاضة ١٤ اذار بعد زلزال اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، حيث رُفعت راية الحداثة و”لبنان أولاً”، وإن بنكهة طرابلسية، فإنها سرعان ما عادت لتدفع الأثمان المضاعفة وخصوصا بعد ٧ ايار 2008وانفجار القنبلة الموقوتة بين التبانة وبعل محسن، وصولا لانعكاسات الإنتفاضة السورية وتحولاتها المؤلمة وتداعيات هده التحولات على المدينة القلقة من التراجع الحضاري والترييف المتمادي. حيث انقلب دور طرابلس في تمدين القادمين من الريف الى عكسه، حتى أن بعض مظاهر الانزواء والترييف والتشدد اصبحت اكثر ظهورا في المدينة منها في القرى، خصوصا في الأحياء الشبه منكوبة. فضلا عن ميل مضاعف للخوف من القفزات والتغييرات الكبيرة، علما أنّ العامل الإيديولوجي وتداعياته على المظاهر والحياة الإجتماعية، وللمفارقة، كان أقسى على المدينة مع انفجار جولات العنف ومع وصول التشويه والتعديات والفوضى لحدود الإستباحة.
والعامل الثاني في الخلط بين المدني والأهلي يتغذى من المظلومية الناتجة عن الحرمان والتهميش وتراجع الدور الإقتصادي التاريخي، فضلا عن تنفيذ سيء للمشاريع الإنمائية على قلتها وإدارة أسوأ عند انتهائها، وتراجع مستوى الخدمات الإدارية والبلدية، في وقت تزداد فيها المناكفات والكيديات السياسية والتي تدفع أثمانها المدينة وأقضيتها التعيسة. وما يزيد الطين بلة هو ارتفاع منسوب المظلومية السنية الناتج عن سياسة الكيل بمكيالين حيال مجمل التطورات السياسية في لبنان والمنطقة والتي أدت الى استضعاف مؤسسات الدولة لصالح الدويلة، خصوصا مع استمرار تعطيل الرئاسة وجمود البرلمان وتشظي الحكومة.
على هكذا خلفية لا نستغرب ما يطبع حراكات المجتمع المدني الشمالي عموما والطرابلسي خصوصا من مفارقات، وما يحتويه من إشكاليات، بعضها صارخ.
فمن جهة تجتاح طرابلس حمى ثقافية، هي في الحقيقة بدأت إبان المِحنة ولها جذورها الضاربة، وإن كانت الآن أكثر تغطية إعلاميا، حيث تتراجع الصورة النمطية نسبيا. إلاّ أنّ هذه الحمى تتغذى من عوامل فيها الإيجابي والسلبي، حيث أنّ العامل الشخصاني والتسييسي يلعب دورا في رعاية معظمها، وإن كان جمهور هذه الحمى متحفزا دائما، ويظهر ذلك في دعم انتفاضة كورال الفيحاء، كما في تنوع الحراكات الثقافية، أكانت تواقيع كتب أو ندوات أدبية وشعرية ومدنية أومؤتمرات وورش عمل علمية ومهنية أو حفلات فنية، بعضها شعبي أو طربي وبعضها كلاسيكي وأوبرالي. دون أن ننسى الحركات البيئية في الشمال والحراكات الرياضية الباهرة التي تجتذب الألوف إلى العاصمة الشمالية.
ونؤشر أيضا لإشكالية ضمور المناخ الديمقراطي السياسي العابر للطوائف والأشخاص، وإشكالية تطور اليسار وقوى التغييرالديمقراطي. ذلك أنّ إعادة الفعل اليساري المأزوم تتطلب حفر الجبل بإبرة أحيانا على طريق تطوير الكتل المدنية والإجتماعية والثقافية التي تدحرجت نزولا بفعل الأزمات.
وللمفارقة فإنّ الإعاقة للديمقراطية التي تنشأ عن طبيعة النظام الطائفي، هي نفسها التي تشكل جزءا من حزام الأمان بوجه الهيمنة الفئوية من جهة والتطرف من جهة أخرى، ما يعقد واقع ومهمات وتطور المجتمع المدني والعمل التغييري الديمقراطي عموما.
ولنا في الحراك المدني اللبناني بايجابياته وسلبياته، كما من قبله بحركة إسقاط النظام الطائفي مثالا على تعقيدات وجدليات أزماتنا المتنوعة.
وفي طرابلس تكثر الأمثلة التي تظهر إشكاليات المجتمع المدني كما تبدو تناقضاته أكثر سطوعا، خصوصا أنّ مكوناته تعمّدت في مواجهة جولات العنف والدعوة لعبور مؤسسات الدولة العادلة وعدم الكيل بمكيالين.
وربما تشكل قضية المرآب المرآة التي تعكس إشكاليات ومفارقات المجتمع المدني الطرابلسي، حيث ينحو البعض نحو الشخصانية والسلبية بمقاربة القضية، فضلا عن تحول كثر إلى خبراء في السير والبيئة والعمارة، ما يحول الحراك المدني إلى حراك عدمي وتعطيلي يشبه التعطيل الذي يمارسه البعض لمؤسسات الدولة. علما أنّه من البديهي أن يعمل الناشطون من أجل استمرار المشاريع لا تعطيلها، ومن أجل حسن التنفيذ وشفافيته وعدم إعاقته لأعمال المواطنين، فضلا عن حسن إدارته عند الانتهاء والعمل على تحويله إلى قاطرة لاستجرار مشاريع تنموية موازية، خصوصا في البنى التحتية والمرفأ والمنطقة الإقتصادية والقطاعات التي يجب أن تتهيأ لحصة وازنة في قضية إعادة الإعمار في سوريا، طال الزمن أم قصر. إذ لا يعقل أن نكتفي بالغرم من الأزمة السورية دون أن نسعى لحصة من غنم هذه الكارثة.
هذه الدعوة للإيجابية تضمر استددراج مكونات المجتمع المدني لمقاربة عملية للإنتخابات البلدية تقوم على إبراز المواضيع والقضايا والأزمات التي تعاني منها المدن والقرى والبلدات،
وإيجاد منافذ للحلول تقوم على تعزيز البنى التحتية وتحسين الخدمات الرئيسية وإيجاد مشاريع تنمية مستدامة وفرص عمل خصوصا في المناطق الشبه منكوبة، وعدم الإكتفاء بازدواجية جلد الذات وشتم الطبقة السياسية، وهي الوصفة الأسرع للوقوع في أحضانها من جهة وتحويل المعركة البلدية من صراع حول البرامج والأداء ومقاربة القضايا إلى صراع شخصاني حول أجناس الملائكة. ومع تفضيلنا لتخفيف منسوب التسييس ما أمكن في الإنتخابات البلدبة، إلا أنني شخصيا لا أعرف بلدا تقوم انتخاباته البلدية دون سياسة، وفي الحقيقة فإن المشكلة الأعمق تكمن في غياب السياسة وفي الإنحدارإلى ما دونها مع شبه اندثار للأحزاب غير الطائفية وتحول السياسة إلى زبائنية ومحاصصة، في ظل أخطار جمة يتعرض لها البلد، نمطا ومحتوى وكيانا.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان