(لوحة “موت سقراط” رسمها عام 1787 الرسامُ الفرنسي جاك لوي دافيد في عام 1787)
في التّوافق الخلاّق ما بين الذات والحقيقة، ثمّة مسافة فكريّة وتفكيريّة وشعوريّة أيضاً، يختبر فيها الإنسانُ قدرته على أنْ يكونَ عارفاً بما يريد أنْ يغيّره أو يفهمهُ أو يفعلهُ أو يدركهُ، استناداً على كلّ ما يرتبط بوجودهِ جماليّاً وفكريّاً ومنطقيّاً. فالذات المفكّرة في هذا الشّوط من البحث عن الحقيقة، تسعى إلى اثباتِ حضورها تفكيريّاً على قيد السؤال، والحقيقة هيَ الأخرى تبقى في منظور الذات، الأفق المفتوح دائماً على التجربّة الفكريّة في مخاضات السؤال والفهم. ولذلك عادةً ما نرى أنّ الذات والحقيقة هنا في توافقٍ خلاّق من أجل أنْ ينتصر السؤال في ميدان العقل، ومن أجل أنْ تتمثّل الحقيقة في تخلّقات الذات المفكّرة.
إنسان العقل الحديث في فلسفتهِ الجوهريّة، أصبح يَعي تماماً أنّ تفكيره هو في الأصل يعني تحديداً جوهر وجوده. إنّه لذلك يقرَّر أنّ ذاته هيَ في الأساس مصدر ذاته، بحيث لم يعد بحاجةٍ إلى اثباتِ ذاته عن طريق غيره، وفي كلّ ذلك يبرهنُ على أنّ حريّته في التفكير، إنّما تعني أصلاً أنْ تستقي ذاته حقيقتها، من كونها إنّها تجد في التفكير أصل وجودها، وانطلاقاً من هذا، يجد إنسان العقل الفلسفيّ أنّه لا توجد هناك فجوة ما بين الذاتِ والحقيقة، لأنّ الذات المفكّرة في هذه الحالة تعكس ذاتها في مدارج الحقيقة، والحقيقة المُدركة هيَ الأخرى تعكس أصل الذات في وجودها على قيد التفكير.
إنّكَ قد تجد ذاتكَ في مرآة الماضي، وقد تجدها في مرآة الحاضر، ولكن بالتأكيد ما يشغلكَ تماماً، هو أنْ تعرفَ كيف عليكَ أنْ تجدها في مرآة حقيقتك، إنّكَ هنا لا يشغلك سوى أنْ تجدها تتمثّل إدراكاً ووعياً في أصل حقيقتك، حقيقتك التي تتطلّع إلى أنْ تكون مُدركة لحقيقتها في أصل تفكيرها وحريّتها وتكويناتها، فحقيقتكَ هنا هيَ مصدر ذاتك، وذاتك هنا هيَ مصدر حقيقتك، وما بينهما أنتَ تعرف أنّ الأفضل لك دائماً، هو أنْ ترى حقيقتكَ تعيدكَ إلى ذاتكَ مفكّراً ومدركاً ومبدعاً ومستقلاً، في كلّ مرَّةٍ توشك على أنْ تكونَ في غير ذاتك، وفي المقابل أيضاً، ترى أنّ ذاتكَ تعديكَ إلى حقيقتكَ متسائلاً ومستنطقاً وناقداً، في كلّ مرَّةٍ توشك على أنْ تكونَ في غير حقيقتك، ولذلك وأنتَ تخوض تجربتكَ الفكريّة والتفكيريّة والنّقديّة وحتى المشاعريّة هنا وهناك، ستعرفُ إنّكَ تستطيع أن تحصل على ما يجعلكَ عارفاً بذاتك في جوهر حقيقتك، ومدركاً في الوقت ذاته لحقيقتكَ في تمثّلات ذاتك.
كلّما كنتَ في أفق الذات واعياً ومُدركاً لحقيقتك، كلّما كنتَ في تموّجات الحقيقة متسائلاً ومستنطقاً وساعياً لذاتك. حينها ستذهبُ بعقلكَ بعيداً في ابتكار حريّتكَ الذاتيّة، تلك الحريّة التي تدفعكَ إلى أنْ تدركَ ذاتك في الجديد والجريء من الأفكار والتّصورات والأساليب، وهذا الإدراك للذات هو الطريق الملهم لفهم حقيقتكَ، وهيَ تضعكَ متفكّراً ومتفلسفاً في جوهر عقلك، وهذا ما أستطيع أنْ أقول عنه، إنّه رهانكَ الأجمل في مسعاك التوافقيّ ما بين الذات والحقيقة، من حيث تُبقيكَ الحقيقة هنا عارفاً من أنّكَ باحثٌ دائماً عن وجودكَ حكيماً ومتفلسفاً ومتفكّراً في طريقتك وأسلوبك، وفي هذا المسعى ترى أنّ الطريقَ أمامك شاسعٌ وممتدٌّ، إلاّ أنّكَ في مقابل ذلك، عادةً ما تستعينَ بقدرتكَ على الاسترشاد بمسافاتكَ الحرَّة في تخلّقات الفهم والوعيّ والتنوّر.
لا يُصاب الإنسان بالعجز، إلاّ حينما يبقى عاجزاً في كلّ مرَّةٍ وهوَ يحاولُ أنْ يكونَ نفسه. هذا العجز يدركه تماماً العقل الفلسفيّ، لأنّه عجز الإنسان عن التفرَّد بالاستقلالية والحرية، ولذلك ما يحاول أنْ يتبنّاه العقل الفلسفيّ في هذا الشأن، هو الدفع بالإنسان إلى أنْ يستدعي حريّته مِن واقع معرفتهِ بحقيقةِ كونهِ إنساناً يملك في الأصل ذاتاً مفكّرة، تسعى في كلّ مرَّةٍ إلى أنْ تبقى على قيد حقيقتها، مدركة للتوافق الخلاّق فيما بينها وبين الحقيقة، كَجوهرٍ فكريّ في الفعل التحرَّريّ من اليقينيّات التقليديّة، ومن بلاهة الإجابات القطعيّة والنهائيّة، ومن استلابات الثقافات الراكدة، وهذا ما جعلَ الإنسان دائم البحث عن الإنسان الذي فيه، سعياً جادَّاً منه، لإثبات إنّه كلّما كان قريباً من حقيقتهِ في تساؤلات العقل، كلّما كان بعيداً من الوهم والبَلادة، إنّه في هذه الحالة الإدراكيّة من الفهم والتنوّر يستطيع في كلّ مرَّةٍ أنْ يستدعي جمال حريّته واستقلاليّته، ويجد فيه متعته الفلسفيّة التي تتماثلُ استنطاقاً ووعياً مع تفتّحاته المعرفيّة، وانشغالاته الفكريّة، وتخلّقاته الإبداعيّة.
ثمّة جمال في أكثر الأفكار بُعداً عن ضحالة المفاهيم السَّائدة، لأنّها أفكار الإنسان الناطقة بالذات المفكّرة المستقلّة، التي تنسجمُ جماليّاً وفكريّاً مع حقيقتها المدركة لانشغالاتها التفكيريّة، إنّه الجمال الذي يتفرَّد بحقيقة كونهِ تجسيداً وضّاءً لحالتهِ في ارتقاء الذات معارج التفكّر والتساؤل، وهو الجمال ذاته الذي يختبر الحقيقة في تجلّيات العقل، ويتلمّسها في تدرَّجات الفهم، ويستعين بها لاحقاً في صناعة الأفكار الملهمة والخلاّقة والمستقلّة، وفي هذا المخاض من تجلّيات الأفكار وتجاذباتها هنا وهناك، تعرفُ أنّكَ لستَ حرَّاً إلاّ بِالقدر نفسه من الفهم بِذاتك في تساؤلات الحقيقة، فالحريّة هنا تساوي انشغالاتها المستقلّة في ادراك مسؤوليّتها الحقيقيّة، وهيَ تحقّق انتصاراً جميلاً في معركة العقل والسؤال، وكم يتعلّم الإنسان من كلّ ذلك، حيث يستطيع أنْ يكونَ سعيداً ومتوافقاً مع حقيقتهِ في ما يريد أنْ يكتشفهُ جديداً وملهماً ومبدعاً وحرَّاً.
حين تملكُ عقلكَ، تملكُ ذاتكَ وحقيقتك، فمن دون أنْ يكونَ العقل حرَّاً ومستقلاً، أنتَ لا تملكُ ذاتك، وتندرجُ تابعاً ومستسلماً في صورةِ غيرك، فحريّة العقل تمنحكَ حريّة الذات، وتجعلكَ ساعياً إلى حقيقتكَ في التفكير والنّقد والإبداع والتطوّر، وما تحبّه من عقلكَ هنا، يجعلكَ في الوقت نفسه محبّاً لذاتك وحقيقتك، وتدركُ أنّ الجمال الذي في عقلك، ينعكس جمالاً في ذاتك وحقيقتك، وكلّما أخلصتَ لهذا الجمال تفنّناً وحبّاً وشغفاً، ستدركُ المعنى ناصعاً وخلاّقاً من حريّتك في عقلك وذاتك، وفي كلّ مستوىً من مستويات ذاتكَ المفكّرة والحرَّة والواعِية سترى وميضاً من كلّ ذلك الجمال، يسبقكَ إلى أجمل حقائقكَ في تجلّيات ذاتك المعرفيّة الحرَّة، وتعرفُ أيضاً أنّ الأمر في هذا الاتّجاه، إنّما يتوقّفُ عليك دائماً، لأنّك أمام ذاتك وحقيقتك أنتَ تبحثُ عن ما يجعلكَ منصرفاً إلى الاهتمام بِحريّتك في عقلك، وكم تزدهر الحريّة هنا في عقلك، لأنّها في ذاتك وحقيقتك تعمل على أنْ تخلقَ ذلك التناغم البديع والملهم مع اختياراتك وأساليبك.
المعرفة في سؤال الذات، هيَ ذاتها المعرفة في سؤال الحقيقة، والعقل بينهما في تفلسفاتهِ المعرفيّة، بوصلتكَ في طريق النّقد والفهم والتبصَّر، وهيَ المعرفة التي تتقصَّد المعنى مِن وجودكَ حرَّاً على قيد الفهم والفعل والتفلسف والتغيير، ولذلك دائماً ما ترى أنّ حاجتكَ إلى التغيير تساوي حاجتكَ إلى الحريّة في ذاتك وحقيقتك، وهذا ما يجعلكَ في اخلاص وتقدير لذاتكَ وهي تتخلّقُ إبداعاً وتطوّراً في حقيقتها المدركة لفعل التغيير، وإنّك في فعل التغيير، تتلمّسُ بجماليّة تفتّحات عقلك على نوافذ الحريّة، وفي تلك التّفتّحات الخلاّقة والملهمة، تنشأ قيمة الإنسان المعرفيّة، التي تتلخّص في إمكانيّة العقل الإنسانيّ، إدراك حضوره وحريّته وفلسفته في إثارة التساؤلات والتأمّلات والدَّهشات، وهو بذلك لا يتوقّف عن الاهتمام بِحقيقتهِ المدركة للتفكّر والتساؤل، ويعرفُ جليّاً أنّ هذه هيَ طريقتهُ الشّغوفة في اظهار قدرتهِ الفلسفيّة على الاستقلالية والحريّة.
يصدق الإنسان كثيراً أمام ذاته وفي حقيقتهِ، حين يكون كثير الحريّة في عقلهِ وتأمّلاتهِ وأفكاره وتساؤلاته، إنّه يحضر بالسؤال طريقاً إلى إدراك الحقيقة في ذاته، وإنّه يحضر بالتفلسفِ طريقاً إلى تذوّق الجمال في المعرفة، وإنّه يحضر بِالحريّة طريقاً إلى استيعاب وجوده، وإنّه يحضر بالحبّ طريقاً إلى الشغفِ بحريّتهِ في عقله، إنّه في هذا التّوافق الجماليّ ما بين ذاته وحقيقته، يسعى إلى تحقيق جوهر المعنى من امتلاكهِ عقلاً حرَّاً ومستقلاً، يبدع في تفتيت الأوهام والأفكار البليدة والمفاهيم الهادمة للتحرَّر والتفكّر والاستقلاليّة، إنّه هنا يصنع من حقيقتهِ المدركة لحريّتها، عالمه الذي يخلو من ترسبات اليقينيّات الواهمة والأوهام القاتلة، وما يكونُ عليهِ في عالمه، هو بالضبط ما يريدهُ تحديداً، ولذلك يسعى دائماً إلى أنْ يحصل على ما يعزّز وجود ذاته في حقيقتها الملهمة وفي حريّتها حبّاً ووعياً وتخلّقاً، واستناداً على ذلك يرى أنّه لا يكفي أنْ يكونَ خالياً من هيمنة العقل السَّائد ومن سلطة المعتقدات والأدلجات الخانقة، إلاّ إذا كان يستطيع أنْ يذهبَ بِعقلهِ بعيداً في تعزيز قدرتهِ على حماية حريّته وذاته وحقيقته.
وما يدركهُ الإنسان تماماً في فلسفتهِ العقليّة، أنّه ليسَ أمامه إلاّ أنْ يخترع ذاته وحقيقته وحريّته في مواجهة الواقع البائس، إنّها مهمّته الأكثر استيضاحاً واستدعاءً لوجوده على قيد التفكّر والتفلسفِ والإبداع، وفي هذا الاختراع يستنطق الحقيقة في أفق التجربة، ويختبر الذات في رحابة الحريّة، ويبتكر الأسلوب في ميدان الفِكر، ويتخلّقُ بالسؤال في مخاض الشّك، ويستدعي المعنى في جمال الفهم، وتبعاً لذلك يدركُ أنّ ما يخترعهُ هنا، لا تستطيع الأوهام أنْ تسلبَ منه حقيقته وحريّته، ومِن دون هذا المعنى الجماليّ في فلسفةِ اختراعهِ، يعرفُ أنّه سيقع في مهالك الإجابات القطعيّة والنهائيّة والمعتادة، وينتهي به الحال مجددأً إلى المهالكِ ذاتها، ولذلك فإنّ إنسان العقل الفلسفيّ يستطيع أنْ يعرفَ أنّ ما يستخلصه من اختراع ذاته وحقيقته، هو أنّ وعيه في إدراك المعنى من قراره، يتماثلُ جوهريّاً مع وعيه في إدراك المعنى من اختياره، إنّه في هذا البناء الفلسفيّ من الذات إلى الحقيقة، ومن الحقيقة إلى الذات، يستعين كثيراً بتفلسفاتهِ العقليّة في طريق السؤال والحريّة، وإنّه بذلك يحقّق التوافق الخلاّق ما بين ذاته وحقيقته. وانطلاقاً من ذلك أصبح يدركُ أنّه من الضّرورة أنْ يكون واعياً فيما يريد أنْ يعرفه أو يقرَّره أو يختاره أو يغيّره أو يفهمه أو يفعله.
Tloo1996@hotmail.com
*كاتب كويتي