«عميقتلونا» حين يقول ذلك كارلوس إده لا تشك في أنها الحقيقة. حين يقولها نائب من المستقبل أو اللقاء الديموقراطي أو قرنة شهوان أو الكتائب تصدقه. لكن حين يقول نائب من كتلة معارضة بأنهم قتلوا بالدرجة الأولى نائباً، إنهم يقتلون النواب، والبرلمان، بجناحيه، مقصود، تفهم أن في هذا الكلام ضرباً من البلاغة يسمونها استعارة الكل للجزء. تفهم أن هذا الكلام، لو حسنت نيته، أدب فحسب، وإذا لم يثبت حسن النية فهو تمويه. الجميع يعرف أن جزءاً من البرلمان هو المقصود، إن حلقة القتل لا تتجاوز الأكثرية النيابية. إننا نعرف سلفاً من سيقتلون، إنها أحكام إعدام جاهزة وتنتظر مناسبة للتنفيذ. القتل والصيد، يا للكلمة، جاريان في عدد محدود موصوف مسمى، حقيقة كهذه لا يجهلها النائب المعارض. لم يعترض أحد هنا أو هناك على تقدير تقارير برامرتز بأن الجرائم كلها بيد واحدة، لم يجدوا في لبنان أو سوريا بأن الأمر غير ذلك. إنها جريمة متسلسلة، ترايلر كما يقال في الأفلام البوليسية، جريمة متسلسلة وتحصل في جماعة موصوفة. نعرف جميعاً أن هذه هي دائرة القتل ولن يسعى النائب المعارض الى حماية متشددة، لن يهرب الى خارج الحدود ولن يقبع في حماه بدون حركة ولن يوصف بالطيش إذا تجول على حريته، فهو يعرف، وكتلته تعرف، وعائلته تعرف أنه غير مقصود، إن المنذورين للقتل هم الآخرون. مع ذلك لا يفكر على هذا الأساس، لا يفكر بأن حدود «الصراع» اللبناني هي حدود القتل وأنه بين المقتولين وغير المقتولين، إن خصم اليوم قد يكون شهيد المستقبل. لا يفكر أن هذه المسألة هي من حقائق الصراع، وينكر أن يُبنى عليها، أو أن يُحتج بها. ينكر أن تكون مسألة ذات بال في السجال السياسي. الشهادة بالنسبة له حق إلا في هذه. إنها حق بل هي الحق الأول حين يتعلق الأمر بالصراع ضد إسرائيل وليست حجة إلا في هذا الموضع. الصراع يستمر والقتل يستمر لكن النائب المعارض لا يريد أن يقيم بينهما علاقة. يخشى في كل مرة أن يبدو القتل شهادة لموقف أو لطرف. ففي لعبة «التوسيخ» التي هي أساس السجال السياسي الحالي في لبنان: السرقة، الكذب، الجبن، العمالة… في لعبة التوسيخ هذه لا نتعرف على الدم. في وسع الدم والاستشهاد أن يكونا مظهراً ومنظفاً وعلى الأقل غاسلاً، الأرجح أن هذا ما لا يريده النائب المعارض. أن يكون للدم هذه السلطة التي له تراثنا وطقسياتنا العريقة، لذا ينبغي أولاً إبطال هذه السلطة. ينبغي أولاً إخراج الدم من المناظرة السياسية وإن كان أساساً (الدم) في منطق الطرف الآخر. هناك دم ودم، استشهاد واستشهاد، وليس لهما السوية نفسها ولا القرينة نفسها ولا الشهادة نفسها. دم أنطوان غانم وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو دم غير ناطق ولا شهادة له. يسميه النائب المعارض شهيداً بالطبع، على سبيل اللياقة، لكنه شهيد اللاأحد واللاقضية. يريد لهذا الاستشهاد أن لا يتطابق مع أي جماعة سياسية وأي موقف. يريده أن يبقى خارج المعركة، أن يكون أي شيء إلا عنصراً فيها، كل شيء إلا حادثة سياسية. يمكن تكريمه بالقول إنها تضحية البرلمان أو الجمهورية، يمكن تصغيره إلى حد اعتباره حادثاً أمنياً، مجرد واحدة من نتائج الفوضى وانعدام الأمن وتقاعس الشرطة. يمكن اعتباره تضحية شخصية، دماً فردياً يطهّر صاحبه، وصاحبه فحسب، من التوسيخ الذي يتمرغ فيه فريقه. يمكن اعتباره حادثاً إنسانياً يشترك الجميع في التعاطف معه. كل شيء إلا أن يكون رصيداً ما لطرف أو لموقف. إنه في النهاية دم براني بمعايير السياسة، دم مجاني بمعايير الصراع. لقد سال في غير موضعه، مثل هذه القضية ليس لها دم ولا تستحق استشهاداً. مهما سالت دماء فسيكون الأمر هكذا، الكثرة أو القلة لا تؤثر. ليس كل الدم يُعبد، ولا كل الدم حق. مهما جرى في هذا المجال لن يتحول الى مسألة ولن يطرح سؤالاً، سيكون دائماً مجرد حادث أو حوادث. تخطر هنا نكتة قارئ العزاء الحسيني الذي أتي به، بسبب نذر، ليقرأ في بيئة غير شيعية، واستأذنه داعيه في أن يتخفف من التعرض للخلفاء الراشدين فقبل، ثم استأذنه في أن لا يتعرض لمعاوية فقبل، ثم للبيت الأموي… ثم… ثم ولما طالت السلسلة حتى وصلت الى القتلة المباشرين قال القارئ مذعناً أو متهكماً، سأذهب لأقول إن الحسين استشهد في حادث سير. إنه حادث، حادث فحسب، قضى فيه أنطوان غانم اللطيف وبيار الجميل الحمي وجبران تويني العنيد ووليد عيدو الأنيس، لقد «استشهدوا» جميعاً في «حادث».
إنها حلقة من ستين نائباً ونيف، نصف البرلمان اللبناني الذي هو ركيزة الجمهورية، منذورين في بلادهم، نعم بلادهم، للقنص كالعصافير. يرتجفون في بيوتهم، نعم في بيوتهم، ولا يجدون فيها سقفاً. يبحثون عن ملاذ في أرجاء الدنيا ويقنصون على قارعة الطريق، ويجري القتل فيهم واحداً بعد واحد. نصف البرلمان يرتجف ويختبئ ولا يعرف أين يحتمي، لكن هذا، في عرف النائب المعارض، لا يصح أن يكون عنصراً في المعادلة السياسية، بل لا يصح أن يكون قضية. إذا كان القتل يجري في فريق فإن المسألة ليست مسألة نظام بمعارضيه ومواليه وبلاد لا يسمح الإرهاب بأن تقوم فيها سلطة. ليست مسألة إغراق السياسة والحياة السياسية في العنف. وليست مسألة عنف (تفجيرات واغتيالات وحربان كاملان) يتجاوز كل إمكانات السياسة. وليست مسألة سرقة السلطة وطغيان الأنتي سلطة. المسألة، كما يراها المعارض، لا شأن لها بعلاقات السلطة وعلاقات السياسة. ليست لذلك مسؤولية البلد ومسؤولية النظام، إنها تحال وتحال معها علاقات العنف التي هي، منذ اغتيال الحريري على الأقل، عصب المجابهات السياسية، على الشرطة وعلى أجهزة الأمن عامة. لا يمكننا أن نصدق أن هذا ضرب من السذاجة، وأن عدّ جرائم قتل تطال رؤساء وزراء ووزراء ونواب وقادة للأكثرية في خانة الحوادث الأمنية، وحشرها مع حوادث السرقة والاغتصاب أمر لا يعقل. لا نصدق أن يتحدث من تحدث عن «الانكشاف الأمني» وكأن هناك سقف بعد للبلاد والدولة. أن يتحدث باللغة نفسها بعد «البارد» الذي كان مشروع إقامة إمارة في الشمال. لا نصدق بالطبع أن هناك من يعتقد أن قوى كهذه وجدت بسبب غفلة البوليس وأن هناك من لا يعرف بعد أن البلد مختبر عنف لكل القوى الإقليمية وغير الإقليمية. ليست هذه سذاجة بقدر ما هي تبرؤ وتنصل لا نعرف إلى أين مداهما. هكذا نرمي على عاتق البوليس مسائل تهدد النظام بجملته. أي نلقي على عاتق البوليس المسألة السياسية كلها. منذ مقتل الحريري والعنف هو عماد الحياة اللبنانية. العنف الثوري والأهلي، الداخلي والخارجي، هو أساس العلاقات اللبنانية ومنه يصدر انقسام وتعطيل واستنفار وتصاد، أمور لا تتيح أي تبادل وتسوية، واعتراف. القتل، أياً كان مصدره، حلقة في هذا العنف، والتدخل الإقليمي والخارجي يتم في إطاره. ولنا أن نفهم أن هذه الحرب المعلقة والتفجر المحسوب نسبياً قد لا يدومان طويلاً على هذه الحال، وأن اللعب بالقتل والتفجيرات والحروب لا يبعد كثيراً عن الانفجار الأهلي. لنقل إن ما يجري يمكن أن يكون أيضا الشحن والتخزين والتحضير لهذا الانفجار. يتكلم الجميع عن التفاهم والتصالح وينسون أن العنف ليس مسألة تسلم الى البوليس. إنه مسألة سياسة وصلت الى حد من الانسداد بحيث باتت تتشبه بالحرب. يريد النائب المعارض إذن من البوليس أن يوقف الحروب والشحن الأهلي والاغتيالات. بل هو لدى مقتل كل نائب معارض يعيد الحديث عن هذا الانكشاف مرتاحاً الى أن الأكثرية هي المسؤولة عنه. إنها هكذا مسؤولة عن عدم حماية هؤلاء الذين لم يحمهم التمويه ولا السفر ولا الاختباء. الأكثرية المقتولة مسؤولة عن قتلها. الأمر لا بد أشبه بالانتحار. وإذا كنا نتحدث عن الأمن والقانون، فالنتيجة هي أن الأكثرية تقتل نفسها. ليس في الأمر جريمة أصلاً.
هكذا يمكن للمعارض التعاطف مع النائب المسكين الذي قتلته أكثريته، ومجدداً ضد الأكثرية التي لن تحظى بالعطف نفسه إلا إذا زالت. وبالطبع فإن المسؤولية تقع على ذلك الذي حفر حفرة لأخيه فوقع فيها. إذ ان الانكشاف الأمني في قوله هو من صنيع الأكثرية وفي مصلحتها (لا ننسى أن كل شر هو في مصلحة الأكثرية). الاغتيال إذن، لماذا لا تقال علناً، مسألة خاصة. هناك مسائل أكبر لكن الأكثرية «الخبيثة» تتلطى وراء الاغتيالات التي تصيبها هي (لسبب غير معلوم وربما تفتعله هي فمصلحتها واضحة فيه). تستغل الأكثرية الاغتيالات (التي لا شك تخدمها) للتمويه ولصرف النظر عن المسألة الأساسية. فاغتيال نائب، وإن يكن، مسألة أمنية لا تكشف سوى هشاشة البوليس، وتسييسها، بدون شك، غرض خبيث، بل استغلال يلقي شبهة على صاحبه، أغلب الظن، في قول المعارض، أن لدى الأكثرية مصلحة في قتل أفرادها. بل الأرجح أن لدى أطراف في الأكثرية مصلحة في قتل الطرف الآخر، وإذا غمض عليك هذا الأمر فاعلم أن المؤامرات يشق فهمها، وأن لعبة الأمم خافية دائماً. إن المستور فيها أصح من الظاهر، واللامعقول أصح من المعقول. ولماذا تعجب من أن يكون الأمر هكذا ما دام شر الأكثرية وحلفائها كثير بل هي الشر كله. هكذا تفهم مجدداً أن الأكثرية تقتل نفسها وأن الجريمة انتحار وما من قضية أصلاً.
لا يحتاج خبث الأكثرية، في نظر المعارض، إلى دليل، وكذلك جبنها ولصوصيتها وكذبها. ذلك ظاهر، وعلى عهدة الراوي، ولا يحتاج بالطبع إلا إلى ضمانة المتكلم وصدقه وعلوه على الشبهات. أما اتهام المخابرات السورية بقتل كل هذه السلسلة فأمر ينبغي التريث فيه ولا يجوز إطلاق الكلام فيه جزافاً وبدون دليل جرمي. وإذا كان الظرف السياسي وقرب الاستحقاق الرئاسي هو المرجع في تهمة كهذه فلماذا لا نقول إن المقصود هو تعطيل مبادرة الرئيس بري وإطاحة الوفاق. وليس مهماً أن النائب القتيل من الأكثرية التي يحمّلها المعارضون مسؤولية رفض الوفاق أو نية رفضه وتعطيله. فالأرجح، بحسب شائعة أخرى، أن النائب الذي كان طوال شهرين في الإمارات سعى لوفاق بين الكتائب والتيار الوطني قارب النجاح، ليس مهماً أن تعرف أين ومتى ما دام عائداً لتوه، وقبل يوم واحد، من المنفى فهذه التفاصيل لا تهم. أما المهم فهو أنه اغتيل لهذا المسعى. إذن أتته المتفجرة من رفاقه، لا بد أن الأكثرية تقتل نفسها. إنه انتحار، وليس في الأمر قضية أصلاً.
في هذا لا سبيل بالطبع لفرز شيء من شيء. الأكثرية تقتل نفسها وهذا يحدث على مدار مسلسل لم ينقطع ولن ينقطع. إنها مسألة خاصة بل هي مسألة خبيثة، فالأكثرية تتحجج بقتل نفسها لتمنع المعارضة عن الحكم الذي تستأثر به الأكثرية وستواصل الاستئثار به وهي ميتة، وبعد أن لم تعد أكثرية. القتل مسألة خاصة إذ لا شيء يشترك فيه الجميع. سيكون التدمير والانهيار الاقتصادي والدولة مسائل خاصة. لا ننسى أن الحرب نفسها باتت مسألة خاصة فهي حرب الشيعة وحرب السنة تارة أخرى. حين يغدو الدم مسألة خاصة فهذا يعني أن «تخييل» الأمة (لا ننسى اشتقاق الأمة من الأم) قد تصدع تماماً.
لم يتهم أحد المعارضة بالاشتراك في القتل رغم أن بعضها لم يتورع عن وصم الخصوم بتهمة كهذه. كان هناك وعي واه لدى الأكثرية بأن الأمور ينبغي أن لا تصل إلى هذا الحد. أما المعارضة فتسارع الى الدعوة للتريث لكنها تستعجل إلقاء التبعة على الانكشاف الأمني، أي اعتبار الأكثرية مسؤولة عن قتل نفسها. لم يعد الدم حجة على أحد، هكذا ينهار الاشتراك في الدم الذي هو مجاز الوطن والأمة. لقد فُرز الدم من الدم وبان لكل معسكر دمه الخاص، ليست المعارضة متهمة لكنها تتنصل من دم نصف اللبنانيين. ينتظر بعضها الى أن يظهر الدليل والقضاء وهو أمر ما كان ليحصل لو كانت الجريمة في صفه. كان إذن يترك للتقدير السياسي أن يعين المتهم فوراً فبدون ذلك لا يمكن إيجاد بعد عام وقضية. المسألة بعيدة، ما دامت في الصف الآخر ويمكن أن نتريث. بعض المعارضة يقول إن الهدف هو الوفاق الذي لا تريده الأكثرية وهي بذلك تقتل نفسها. من اللحظة الأولى بعد القتل تجتهد المعارضة لعزل الجريمة وتجريدها من كل بعد وطني وسياسي، ليس في هذا سوى التخلي الأخلاقي وترك الآخرين «الخصوم» لموتهم ومصائرهم، تريدهم أن يدفنوا قتلاهم بدون صوت وأن يقتلوا أيضا بدون صوت.
في المقابل هناك حلقة من الأكثرية التي تنتظر مصيرها، لم تأت بالتأكيد لأمــر كهذا ولم تستعد له. إنها حلقة أناس لهم ما لهــم وعليهـم ما عليهم، دخلوا السياسة من أبوابهـا المعتــادة وهي أبواب لا قبل لها بالشهـادة والتفاني. لكنهم مع ذلك صمدوا حين صــار ذلك قدرهم. إنهم من سنتين تحت أقدراهم وعليــهم أن يكونوا مستعدين لكل خطر. إنهم مكشوفون ولا سقف يحميهم، لم يعد في الموقع والنيابة والوزارة أي غنيمة لكنهم يواصــلون. يوعــدون بالمـوت لكنهم لم يهربوا. خافوا بالتأكيد لكنهم لم يتخلوا. إنها مصــابرة ومجالــدة حقيقيتان. أمـر كهذا لا بد أن فيه قدراً من العناد لكن فيه قدراً من التضحية. قد نتكلم عن تورط لكننـا أيضـاً نتكلم عن التزام، لا بد أنها تجربة فيها استــجماع للنفس، لا بد أن نحلم هنا بقدر من المستوى الأخلاقي، يمكننا من هذه الناحية أن نأمل أن يخرج شيء مختلف. المستعدون للموت يحيونك أيها القيصر.
(السفير)